بمثال، سآخذ أول سورة في ترتيبهم، وأناقشها مع القراء.
والمفسرون قالوا أن سورة العلق - والآيات الخمس الأولى تحديداً – هي أول ما نزل على رسول الله، وتلاها في النزول سورة القلم، معتمدين في ذلك على أمرين:
1. تصورهم الخاطئ عن كيفية تلقي الرسول للوحي.
2. وظنهم أن القرآن ينزل على شكل جزء من آية أو آية أو آيات، وليس على شكل سورة كاملة.
وفيما يلي مناقشة هذين الأمرين:

كيفية نزول الوحي في تصورهم

المفسرون تخيلوا أن الوحي يتم عبر لقاء حسي بين محمد والملك المكلف بتبليغ الوحي، يقوم المَلَك أثناء اللقاء بتلقين الرسول الآيات المنزلة عليه، بنفس الطريقة التي يعرفها العرب للتعلم. وهو ما ظن المحدثون والمفسرون أنه جرى بين جبريل، وبين محمد، ثم اختلقوا أحاديث لدعم ظنهم هذا. ومن تلك الأحاديث ما نسب لأم المؤمنين عائشة، والذي يظهر الرسول وهو لايدري ما حدث له، لولا ورقة ابن نوفل الذي يقول عنه الحديث: "وكانَ امْرَءاً تَنَصَّرَ في الجاهِليَّةِ، وكانَ يَكتُبُ الكِتابَ العِبْرانيَّ، فيكتُبُ منَ الإنجيلِ بالعِبْرانيَّةِ ماشاءَ اللهُ أن يَكتُبَ، وكانَ شيخاً كبيراً قد عَمِيَ، فقالتْ له خَديجةُ: ياابنَ عَمِّ، اسْمعْ مِن ابنِ أخيكَ. فقال لهُ وَرَقَةُ: يا ابنَ أخي ماذا ترَى؟ فأخبرَهُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خبرَ مارأى. فقال له ورَقَةُ: هذا النامُوسُ الذي نَزَّلَ اللهُ على مُوسى، يالَيْتني فيها جَذَعٌ، لَيْتني أكونُ حَيّاً إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُك. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أوَ مُخْرِجيَّ هُمْ؟ قال: نَعم، لمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ ماجِئتَ بهِ إلآّ عُودِي، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤزَّراً. ثمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ. " رواه البخاري.
ولأن القصة مختلقة، ولأن ورقة ابن نوفل لم يقل للرسول ما نسب إليه أنه قال، نجده لم يؤمن برسالة الإسلام، ولم ينصر الرسول ولم يؤازره مع أنه عاش لما بعد البعثة، إن كان لهذا الشخص وجود فعلي، ولم يكن مجرد شخصية وهمية اختلقها المؤرخون لدعم تأويلاتهم، وهو ما أظن.
ونحن لسنا بحاجة للبحث عن أقوال الزهري أو ابن جريج أو غيرهم من الإخباريين الذين تنسب لهم تلك الأخبار، لأنهم لم يكن لهم وجود في مكة عندما بعث رسول الله، ولم يكن لهم وجود في المدينة عندما هاجر، ولم يجتمع بالرسول منهم أحد أو يسأله أو ينقل عنه. فقد عاشوا بعد عصر رسول الله بعشرات السنين، ومع ذلك تبنينا قصصهم التي تخيلوها عن الكيفية التي كان رسول الله يتلقى بواسطتها الوحي، وتقاعسنا عن تحكيم عقولنا والتمعن فيما قاله الله سبحانه وتعالى الذي نزّل "الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ".
وإلا فسنجد أن القرآن يخبرنا بكل وضوح أن الوحي ينزل مباشرة على قلب الرسول، يعني ذاكرته:{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{97} البقرة.
وهو ما تؤكده سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ{194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ{195}.
فمحمد كان يوحى إليه، أي ينسخ الوحي في ذاكرته، دون الحاجة للتلقين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{52} الشورى.
وقد أكد القرآن ذلك مرات عديدة، بصيغة " أوحينا إليك"، وبصيغة "أوحي إليك"، وبصيغة "يوحى إليك". وطمأن الله سبحانه نبيه بألا يحاول ترديد ما يجده قد نسخ في ذاكرته ليحفظه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً{114} طه.
فلن ينساه ما دام حياً: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ{16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ{17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ{18} القيامة.
وهكذا نجد أن الأدلة التي اعتمدها الإخباريون والمفسرون والمحدثون على أن الخمس الآيات الأولى من سورة العلق هي أول ما نزل على الرسول، تقوم على ظنهم بأن الوحي يتم بتلقين الملك لرسول الله الآيات وترديدها عليه حتى يحفظها، وهو ما ينفيه القرآن نفياً قاطعاً.
ولو تمعنا في سورة العلق بعيداً عن ظنون المفسرين، فسنجد أنها تتحدث عن أحد كبراء قريش وكيف أنه كان يزجر الرسول كلما رآه يصلي (بجوار الكعبة): {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى{9} عَبْداً إِذَا صَلَّى{10} أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى{11} أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى{12} أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى{13} أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى{14} كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ{15} نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ{16} فَلْيَدْعُ نَادِيَه{17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ{18} كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ{19}.
وهذا يؤكد أن هناك سورة نزلت، قبل العلق، تأمر بالصلاة، وهو ما يؤكد يقيناً أن العلق لم تكن أول سورة نزلت من القرآن.

قولهم بنزول القرآن آية آية

يقول سلف المفسرون والمحدثون والفقهاء أن القرآن لا تنزل السورة منه كاملة، ولكن ينزل منها الآية والآيتين وجزء من الآية. وأن بعض الآيات تنزل من آخر السورة قبل الآيات في أولها. وهذا القول لا يمكن لنا أن نحسن الظن به، لأنه يسهل تقطيع أوصال الآيات ويلغي السياق، ويفرغ كلام الله من معانيه، ويبعد القارئ عن فهمه كما نزل.
والقول بنزول القرآن آية آية فتح الباب على مصراعيه للقول بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وغيرها. وفيما يلي بعض الأمثلة على ما قالوا، وإن كان فيها إطالة ظننت أنها ضرورية:
ينقل الواحدي في كتابه أسباب النزول أن الله قد أنزل الآية }284} من سورة البقرة، والتي تقول: " {....... وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ .....} فاشتد وقعها على أصحاب الرسول، فأتوه ثم جثوا على الركب و قالوا‏‏ يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها.
فأنزل الله في وقت لاحق: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{285}.
ثم أنزل الله فيما بعد، الآية التالية، وهي الأخيرة من البقرة، لنسخ ما سبق، ونصها: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{286}.
ولو صدقناهم، فنحن نوافقهم على أن الله لا يعلم ما يفعل، وينزل شيئاً ثم يندم أو يغير رأيه، أو أنه ينتظر ردة فعل الناس فيما يشرع فإن قبلوه أمضاه وإن رفضوه غيره (أستغفر الله).
ولو صدقناهم، فإن الآية }284}، قد تسببت بنزول الآية }285}، ولولاها لما نزلت ولما كانت في القرآن. وتسبب نزول الآية }285} بنزول الآية }286} بعد ذلك. وبناءً على ما تجرءوا ونسبوه لله، يكون الله قد أنزل الآية }284}، في أحد الأيام، ثم تراجع عما فيها، عندما أنزل في يوم آخر الآية }285} التي تلغي العمل في الآية السابقة. ثم تراجع للمرة الثانية عما في الآية }285}، عندما أنزل في يوم آخر الآية }286}، التي ألغت العمل بما في الآية التي سبقتها. لكن الله ترك الآيتين المعطلتين، في المصحف، كحشو كلام لا يعمل به. ولو وافقناهم في اختلاقهم، واعتبرنا ما يقولون هنا مقياساً على بقية آيات سور القرآن، فلابد أن هناك ثلثي القرآن حشو كلام، يقرأ، لكن لا يعمل به لأنه معطل أو منسوخ – حسب تعبيرهم. ولن يعود هناك مجال للتفكير بترابط الآيات، ولا بالسياق الذي نزلت ضمنه.
والآن دعونا نتدبر كلام الرحمن، وسنجد أن الآيات التي سبقت الآية }284}تتحدث عن تحريم الربا وضرورة نشر الإنفاق كبديل في المجتمع الإسلامي، ثم تؤكد الآية }282}على ضرورة توثيق الدَّيْن. والدَّيْن هنا ليس هو الدَّيْن المتعارف عليه عندنا والذي يعني اقتراض مال بفوائد لمدة. لأن هذا هو الربا بعينه، ولو تم التحايل الشكلي المتمثل ببيع صوري لبضاعة ما، من المقرض للمقترض، وبسعر أعلى من قيمتها الحقيقية، أو بقيمة مضاف لها الفائدة. ثم شراء المقرض البضاعة مرة أخرى، عادة بمال أقل. والمتضرر جيئة وذهاباً هو المقترض. لكن الدَّيْن في الآية يعني ما يعرف بيننا بالقرض الحسن، أي اقتراض مبلغ من المال، على أن يسدد بلا زيادة بعد مدة. وهذا يكون لمن يرغب في التوسع في تجارته، أو يشتري سلع كمالية، أما سد حاجات المحتاج من مسكين ويتيم وعابر سبيل وغيرهم فهؤلاء قد أوجب لهم الإسلام توفير كل احتياجاتهم بلا مقابل، عن طريق ما سماه القرآن بالإنفاق، وهو مبالغ يدفعها الأغنياء لسد احتياجات الأقل حظاً، دون انتظار استرداد تلك الأموال بفوائد أو حتى بدون فوائد. وكتابة قيمة القرض، وتوثيقه بشهادة شاهدين، حتى لا يضيع حق صاحب الجميل، المقرض. وتستمر الآية التالية }283}، في نفس السياق: }وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وكما هو واضح فالآية تحذر من كتمان الشهادة التي لا يعرف بها إلا الشاهد، وعليه ألا يخفيها ويكتمها، حتى لا يضيع الحق على صاحبه. ثم تأتي الآية }284} التي تلاعب بها السلف، لتقول إن كتمتم الشهادة فالله يعلم ما في الصدور، وسيحاسبكم على ذلك: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وهنا ينتهي موضوع البيع والإنفاق والربا والدين، ليأتي ختام السورة بهذا الشكل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير}285} لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }286}.
في سياق وترابط واضح، دون أن يكون هناك ناسخ ومنسوخ، ودون أن ينزل جزء من الآية لوحده، أو يجثوا أصحاب الرسول محتجين.
ولعل الناسخ والمنسوخ من أشد المعاول ضراوة في تخريب الدين من الداخل، وكمثال يؤكد ما نقول، سيجد القارئ للقرآن أن هناك عشرات الآيات التي تؤكد أن الدين خيار شخصي، ولا إكراه فيه. وأن الإسلام جاء لبناء دولة يتعايش فيها المسلم وغيره المسالم، تعايشاً إنسانياً بنّاءاً. مثل قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{125} النحل.
وقوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{256} البقرة.
وقوله تعالى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{20} آل عمرآن.
وقوله تعالى في سورة النساء: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً{80}. وغيرها عشرات الآيات المنتشرة في كتاب الله.
وهناك آيات تؤكد أن الجهاد يعني الدفاع عن النفس، وليس البدء بمحاربة الناس، وأنه موجه لمن يبدأ الحرب ضد الإسلام، ولا وجود للسبي ولا استرقاق الناس، مثل قوله تعالى: {وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ{190} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ{191} فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ{193} البقرة. (لاحظ أن الآيات تتحدث عن قريش التي استمرت في الحرب على الدين، بهدف القضاء عليه. ومع ذلك يقول تعالى فإن انتهوا فلا عدوان).
كل هذه الآيات تم مسخها وإلغائها بجرة قلم ممن وضعوا النسخ، قائلين أن الله قد غير رأيه وأنزل آيتين نسختا كل ما سبق، وهما: ...... {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{5}.
وآية أخرى تقول: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}.
وكلا الآيتان من سورة براءة، ولا علاقة لهما بنسخ وناسخ، ولكنها تتحدث عن قريش ومن عاونها على حرب المسلمين، وليست عامة لكل الناس. لكن النسخ ، ومعه التفسير، جاءا ليصورا الإسلام، كدين دموي، يهاجم الناس ويرغمهم على القبول بإحدى ثلاث أحلاهما علقم، فمن لا يقبل بالإسلام عليه دفع جزية، ومن لا يدفع فنساؤه حل لرجال المسلمين، ورجاله عبيد لهم، وأرضه ملكهم. وقد صبغ تاريخ الإسلام بهذه الصبغة لدرجة يصعب التصديق أن الإسلام دين للتسامح، وأن القرآن يخلوا من كل هذه الأمور. ولازمت هذه الصورة حروب المسلمين، لدرجة أصبحت عنواناً لما سمي بالفتوح (كما يذكر التاريخ).
والناسخ والمنسوخ يحوي المضحك المبكي: فهم يقولون أن هناك آيات نزلت أولاً لتنسخ آيات ستنزل فيما بعد !
وهذا مثال على ذلك: ورد في سورة النساء المدنية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً{93}.
والناسخون يقولون أن آية من سورة الفرقان نزلت بمكة نسخت آية النساء السابقة، وهذا نصها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً{68}الفرقان.
وأعجب من ذلك قولهم في الآية: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{199} الأعراف.
أن أولها "خذ العفو" منسوخ، ووسطها "وأمر بالمعروف" ليس منسوخ، وآخرها "وأعرض عن الجاهلين" منسوخ.
تصوروا لو صدقناهم، لوجب علينا أن نقرأ خذ العفو، ونعلم أنها تعني لا تأخذ العفو، ونقرأ وأعرض عن الجاهلين، ونفهم وقاتل الجاهلين. (أعوذ بالله).
وللمزيد من العجب، أنظر الناسخ والمنسوخ لابن حزم، أو السيوطي، أو البغدادي، أو أي كتاب ناسخ ومنسوخ آخر، لا فرق.
ويكون ما سمي بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ عبارة عن معاول لهدم الدين وتفريغ الآيات من معانيها، وإلغاء السياق والترابط بين الآيات، بعد أن عجزوا عن العبث بكلام الله، وبقي القرآن كما نزل. لكن عدم التمكن من العبث بحروف القرآن لم يمنع من العبث بمعانيه، وتأويلها لغير ما أنزل الله. فبقيت الحروف، وتم التلاعب بالمعاني، باستخدام وسائل ظاهرها يدل على الحق (تفسير، فقه، حديث ...)، وباطنها يعمل على ترسيخ عقائد مخالفة ومعارضة لما أنزل الله في كتابه، أو بعبارة أخرى، معاول هدامة تعمل على تخريب دين الله من الداخل.
وما قاموا به فتح الباب على مصراعيه لمن يرغب في مهاجمة الإسلام، حيث يجد تربة خصبة هيأها له سلف ما يسمى بعلوم الدين.
فالمفسرون يقولون على لسان سعيد ابن جبير أنه عندما قرأ النبي {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى{19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى{20}، ألقى الشيطان على لسان الرسول فنطق: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى". " فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير ، فسجد المشركون معه ، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{52} لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ{53} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{54} وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ{55} الحج.
ولو صدقنا ما سبق فالرسول كان يهذي بما يسوس به الشيطان له ويقول للناس هو من عند الله.
وسورة النجم نزلت في السنوات الأولى للبعثة في مكة، بينما نزلت الحج بعدها بسنوات. لكن لأنهم قطعوا أوصال الآيات استباحوا لأنفسهم أن يختلقوا ما يشاءون من القصص حول نزول آية في سورة النجم، ووصلها بآيات سورة الحج، لكي يقولوا أن القرآن يحتوي على نصوص مصدرها الشيطان وليس الله.
وإلا فسورة النجم تبدأ بالتأكيد على أن الوحي الذي يتلوه الرسول على قريش حق، ومصدره الله، ونزل به على قلبه أحد الملائكة الذي سبق للرسول رؤيته مرتين، وأن رؤيته للملك حقيقة وليس خيال أو تهيؤات:
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى{1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى{2} وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى{6} وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى{7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى{8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى{9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى{10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى{11}.
ثم تسأل الآيات قريشاً: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى{12} ؟
والمماراة هي الرهان: تقول لأحدهم: أماريك بعشرة دراهم إن أنت استطعت قراءة خطي.
وتكمل الآيات قائلة أن الرسول رأى الملك مرة أخرى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى{13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى{14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى{15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى{16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى{17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى{18}.
ثم تقول الآيات لقريش: إذا كان الرسول قد رأى الملك الذي يمده بالوحي من الله، فما الذي رأيتموه أنتم غير أصنامكم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى{19} وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى{20}.
وهذا تجريح وسخرية بالأصنام وليس مديح لها. ثم تتواصل آيات السورة، دون أن يكون هناك مكان لخزعبلات المفسرين وقصصهم.
وقالوا عن تفسير قوله تعالى" فصل لربك وانحر" وعلى لسان سعيد ابن جُبير أنه قال: كانت هذه الآية، يوم الحديبية، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: انحر وارجع، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب خطبة الفطر والنحر، ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البُدن فنحرها، فذلك حين يقول: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.
وبطبيعة الحال الحديبية التي تذكرها كتب التاريخ وقعت – كما يقولون – في السنة السابعة للهجرة، أما سورة المسد فنزلت في مكة وقبل الهجرة. لكن يبدوا أن ابن جبير، أو من تقول عليه، علاقته ضعيفة بالقرآن، مثل بقية المفسرين، الذين جعلوا كلمة "ويل" واد في جهنم، مع أنها لفظ دال على الوعيد، وجعلوا الفلق جب مغطى في وادي ويل الجهنمي.
وما دمنا حول معاني الكلمات فلنذكر أن سلف اللغويين حكموا على ألفاظ في كتاب الله على أنها ليست عربية، ومن ذلك:
في سورة الفرقان ورد لفظ "أثاماً": {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً }الفرقان68
وبادر كل واحد منهم بعرض تصوراته عما عساه يكون معناها. فقال بعضهم هي واد في جهنم، مثلما قالوا عن كلمة "ويل". مع أنها تصريف من إثم، ولو خالف قواعد الصرف التي وضعت بعد القرآن بقرون.
ومنها لفظ العروة الوثقى الذي يدلنا السياق على أنها تعني الطريق المستقيم، نجدهم اختلفوا فيها أكثر من معنى أي لفظ آخر، لكن أظرفها كان قولهم أنها حلقة معدنية. وقد اختلقوا حديثاً لذلك رواه البخاري ومسلم، ولولا أنه طويل لوضعته هنا.
وكلمات كثيرة جدا، قالوا إنها كلمات أعجمية وليست عربية، مثل سندس، استبرق، سجيل ............الخ
بل إن لفظة "القرآن" جعلوها آرامية أو سريانية.
وأظهروا أن كلام الله قد رسب في مادة النحو والصرف والإعراب واللغة العربية، وفيما يلي أمثلة من أقوالهم:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{69}المائدة.
الصابئون مرفوعة، وهو مخالف لقواعد النحو، التي تقول أنه يجب أن تكون منصوبة بالياء والنون، كونها معطوفة على اسم إن.
كما في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{17}الحج.
ومثله: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} طه63
والصواب حسب قواعد النحو والصرف أن يقال: "إن هذين".
ويورد السجستاني في كتاب المصاحف أن أم المؤمنين عائشة سئلت عن هذا الخطأ فقالت: "هذا من عمل الكتاب، أخطئوا في الكتابة".
وكأن المصاحف لم تنسخ إلا بعد أن كتب سيبويه المتوفى سنة 180 للهجرة قواعده.
وسموا رسول الله "طه" لأن السورة بدأت هكذا: {طه{1} مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى{2} إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى{3} تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى{4} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{5}.
وبنفس المنطق سموا رسول الله "ياسين" لأن السورة بدأت هكذا: {يس{1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ{2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4}.
مع أن طه ويس حروف افتتاحية للسور مثل حم، وطس ...الخ.
وللقرآن أسلوب فريد، لا يشابه أسلوباً آخر، لكن السلف بعلوم دينهم أخضعوا القرآن للأساليب البشرية، فضاعت معاني الآيات، وفيما يلي أمثلة على ما نقول:
يقول تعالى: {فاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ{39} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ{40} وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ{41} يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ{42}ق.
القرآن هنا يتحدث بصيغة ما كان، لما سيكون، لأن الرسول مات قبل أن يستمع للمنادي، الذي لن ينادي إلا يوم القيامة. لكن السياق، يجعلنا نفهم أن "استمع يوم ينادي المنادي" استعارة تعني طلب الانتظار. وإن خالف القياس اللغوي الذي وضعه البشر لبناء الجمل.
ومثله: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ{57} لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ{58}النجم
والآزفة القيامة التي لم تحل بعد، ومع ذلك قال أزفت أي حلت. لكن السياق يجعلنا نفهم أن الوعيد فيما سيكون ولم يكن بعد.
ومثله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ{1}القمر
ولم تقترب الساعة ولم ينشق القمر، إلا عند المفسرين والمحدثين قياساً على قواعد اللغة. أما السياق فيقول أن الحديث عما سيكون. أي عندما تقع الساعة وينشق القمر.
ومثله: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ{25} قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27} يس
يوم القيامة لم يأت بعد ومع ذلك فالآية تقول "أدخل الجنة"
وكما في الحديث الذي دار بين إبراهيم وضيفيه في سورة الذاريات: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ{31} قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ{32} لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ{33} مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ{34} فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{35} فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ{36} وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ{37}.
وفي القرآن يبدأ الحديث عن موضوع جديد باستخدام واو العطف، وكأنه استمرار لحديث سابق:
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{29} وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ{30} إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ{31} فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ{32} ص
والقرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{7} وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ{8} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ{9} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا{10} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ{11}محمد
فهل ستصحح هذه الفقرة لأنها خالفت طريقة التعبير عند البشر، لتكون بهذا الشكل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ{7} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ{11} وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ{8} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ{9} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا{10}.