3 أسباب للحراك الشعبي: أمني وسياسي واقتصادي
تصرفات الأمن لم تعد تطاق في المجتمع السوري
دمشق – غسان سعود (القبس)
حسم النظام السوري أمر هروبه إلى الأمام. في هذا التحقيق استعراض لعبثية الإجراءات الاحترازية في قمع المطالبين بالحرية والإصلاح الاقتصادي الذين لديهم من المبررات ما يدفعهم إلى تجاوز كل الخطوط الحمر والمغامرة بكل شيء:
فتصرفات الأمن لم تعد تطاق، وأجهزته تتتدخل في كل صغيرة وكبيرة تخص شؤون المواطن، حتى أنها هي من يعين رؤساء الجماعات المدنية. فتوظيف صحافي- على سبيل المثال- في وسائل الإعلام يجب أن يمر عبر مسؤول أمني يصبح هو المرجعية الأولى والأخيرة لهذا الصحافي!
هكذا، لم يعد من خيار سوى: الحرية أو الموت.. وهذا جهاد جديد.
المدينة جديدة، شام الياسمين: للحمام شرفات في حائط الجامع الأموي، وصالونات وغرف نوم. للمؤذن في تعبدّ.ه ألف شعور «حُبُكَ يا حبيبي... لك القلب... لك العين يا محمد».
أربعون عاماً ودمشق تشغل نفسها بأخبار العالم عن نفسها، لتستيقظ أخيراً على اسمها مادة أساسية لعناوين الصحف. وفي قلب الحدث، يتشارك التاجر وسائق الأجرة والمثقف برسم مشهد تحول المواطن العادي إلى جهادي سياسي، فيهتف العلماني قبل الإسلامي، فيقول الناشط اليساري إيهاب عبد الحميد «عالجنة رايحين.. شهداء بالملايين».
إجراءات احترازية
خلافاً لمصر وتونس واليمن، لم يُبق. النظام السوري حركة نقابية أو عمالية أو طلابية مستقلة. وبرغم تخلي النظام عن مبدأ الاشتراكية، يتوجب على كل جمعية أو تجمع ينويان العمل في سوريا تعهد الالتزام بالسعي لتحقيق أهداف حزب البعث: الوحدة والحرية والاشتراكية. وليس في سوريا إعلام مستقل ولا صحافيون بالمعنى التقليدي للكلمة،
لأن وصول الصحافي إلى وسيلة إعلام يمر غالباً بمسؤول أمني يصبح هو مرجعية الصحافي الأولى والأخيرة. كما ليس في سوريا أحزاب أو حركات إسلامية مستقلة. فبعد اختصار القوى الوطنية، التي أفرغت من مضمونها الشعبي، في الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972، حظر الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وباتت غالبية القوى الحزبية والإسلامية تدور في فلك النظام. وليس في سوريا أيضاً زعماء عشائر بالمعنى التقليدي للكلمة ولا رجال دين نافذون. فقد عمد رجال الأمن إلى اختزال معظم هذه المواقع بالمقربين منهم،
فبات أمر تعيين المطران والشيخ ورئيس العشيرة يأتي من فرع الأمن مباشرة. أما المؤسسة العسكرية التي تتفرع منها أجهزة الأمن والاستخبارات فأولتها السلطة اهتماماً مطلقاً لتقضي على أي احتمال من شأنه أن يفضي الى بروز حركة اعتراضية أو انفصالية داخل هذه المؤسسة، التي تعتبر الأقوى على الإطلاق وعلى مختلف المستويات في سوريا. وبالتالي، لم تكتف السلطات السورية باقتلاع الجذور التقليدية لأي شكل من أشكال الاحتجاج، فحاصرت المواطن بالخوف.
لكن كل ما سبق لم يحل دون استنفار السلطة السورية لتمتين حصن النظام، حين بدأت شرارة بو عزيزي بالانتقال من عاصمة عربية إلى أخرى. فسارعت الى التنسيق مع الفعاليات الكردية وكتابة مسودة اتفاق يعطي أكراد سوريا ما يطالبون به منذ أكثر من أربعة عقود، واهتمت بتعزيز عملية التواصل مع جمعيات إسلامية عدة، تحظى بدعم السلطات السورية في عملها وسط المجتمع السوري منذ عدة سنوات، رتبت بيتها الأمني جيداً عبر إمساك أكثر الموثوق بهم المفاصل الاستخباراتية والعسكرية الأساسية. وحاولت عبر الإعلام الرسمي السوري التخفيف من عظمة ما يحصل في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من الدول
(لم يصدر عن السلطات الرسمية السورية موقف يهلل لسقوط النظام المصري رغم بلوغ التوتر بين القيادتين السورية الحالية والمصرية السابقة حد العداء). وبدأت حملة تسويقية للرئيس بشار الأسد باعتباره إصلاحياً لا تفصله جدران قصوره عن الشعب، ولا تخيفه الثورات الافتراضية، بدليل إعلان السلطات السورية فك قيودها على المواقع الإلكترونية التفاعلية، ولا سيما «الفيسبوك»، في 17 يناير الماضي. وبموازاة هذه الخطوات الاستباقية، عممت السلطات على الشرطة وجوب الابتعاد عن العنف العلني أياً كان السبب، وعلى الأمن وجوب فتح العيون والآذان جيداً لقمع أي ثورة في المهد.
لكن كل ما سبق لم ينفع. فبعد إخماد النظام أكثر من فتيل (كان أهمها ما حصل في سوق الحميدية عندما اختلف شرطي مع أحد التجار ما اضطر وزير الداخلية سعيد سمور للتدخل وفض الحشد الذي كان يهتف «الشعب السوري ما بينذل»)، وقعت واقعة درعا.
هوية المنتفضين
تنظيمياً، لم تستطع السلطة السورية تحديد عدوّها المفترض. فبعد إفراغ هذه السلطة للنقابات والأحزاب والعشائر من المسؤولين الجدد لجأ المصرون على الحرية والإصلاح الاقتصادي والإداري إلى التحرك خارج الأطر التقليدية.
لكن اليوم بدأت تتضح معالم المنتفضين: الأحزاب، التقليدية في معارضتها لحزب البعث، تلعب دوراً كبيراً في مختلف المناطق. ووفق المعارض السوري المحامي حسن عبدالعظيم (اعتقل يوم السبت الماضي) فان العلاقة المميزة التي تربط بين تنظيمه الناصري (الحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي)، والإسلاميين، تسمح للإسلاميين غير المنظمين بالاستفادة من خبرات تنظيمه، الذي يتولى منصب الأمين العام فيه.
ويضيف عبدالعظيم إن تنظيمه الصغير شعبياً لعب دوراً كبيراً في إطلاق التحرك ومواكبته على مختلف المستويات، مع العلم بأن القوى الناصرية واليسارية التي حافظت على الحد الأدنى من الوجود بعد خمسة عقود من حكم البعث، استفادت كثيراً من تدهور البنية التنظيمية لحزب البعث نفسه الذي فقد، خصوصا خلال السنوات العشر الأخيرة، الديناميكية الحزبية وتحول إلى ما يشبه الهيكل المترهل.
وعلى صعيد الإسلاميين، يشرح أحد هؤلاء -وهو الباحث الحلبي أحمد الدقس- أن السلطة السورية حاولت استيعاب الإسلاميين عبر جمعيات إسلامية شجع النظام على إنشائها. لكن الوعي الإسلامي دفع كثيرين إلى الانتساب إلى هذه الجمعيات واستغلالها لتوفير مكان آمن للاجتماع والتنظيم. واليوم، يؤكد الدقس أن تلك الجمعيات، التي أنشأها النظام بنفسه، تلعب دوراً أساسياً في حركة الاحتجاج على ظلم هذا النظام.
ومن وسط المحتجين، يقول دقس «هناك بعض الشباب الذين تلاقوا في الخليج ولبنان ضمن التجمعات المناطقية التقليدية بالنسبة للعمال. وقد عاد هؤلاء إلى سوريا بعد الأزمة اللبنانية– السورية والأزمة المالية الدولية، لكن الروابط التي نشأت بينهم في الاغتراب، لم تنقطع».
السجن لا يخرّج مؤيدين
أول أسباب الحراك السوري، أمنيّ. فحيث لا سلطة إدارية أو عسكرية تعلو سلطة ضابط الأمن. فهذا الأخير يأمر وينهى، ويستدعي أو يخطف كل من لا يعجبه سواء كان عاطلاً عن العمل أو مهندساً أو حتى عسكرياً أو عضواً في مجلس الشعب، كما حصل مع أحد ممثلي محافظة دير الزور في مجلس الشعب. وبحكم انشغال الأمنيين بابتكار فنون تعذيب لمواطنيهم عن المهام الأمنية الأساسية- مثل إهمالهم لمهمة الكشف عن من رتب اغتيال قائد «حزب الله» العسكري عماد مغنية-
لم يعد لأجهزة الأمن الكثير من الأصدقاء في المجتمع السوري. وبلغة بسيطة جداً، يقول عبدالحميد «تصرفات الأمن لم تعد تطاق. ولا يمكن لأحد أن يدافع عنها». ويشرح، حسام، وهو ناشط ميداني في التظاهرات الاحتجاجية الأسبوعية التي يشهدها حي الميدان الدمشقي منذ أسابيع، كيف أن مرور فرد على الأقل من كل عائلة بـ«الفرع»، خلال الأربعين عاماً الماضية، «يصعب على المندسين السابقين أمر هضم الروايات المتداولة اليوم عن المندسين الحاليين، وفي الوقت نفسه يضيق الخناق الشعبي على رواية النظام يوماً تلو الآخر».
ويسمح لحسام وأصدقائه بتوسيع رقعة تحركهم، مع العلم بأن السجن، كما تثبت تجربة المعتقل الشيوعي السابق عبدالعزيز الخيّر الذي ينشط اليوم، لا يخرّج مؤيدين للنظام.
شخصنة المواقع.. كارثة
ثاني أسباب الحراك: سياسيّ. يتحدث المعارض لؤي حسين عن شباب يطمحون إلى لعب دور في الحياة العامة، يريدون اختيار رئيس بلديتهم والمحافظ ومسؤول الأمن في منطقتهم. ويودون أن يكون ممثلهم في مجلس الشعب ممثلاً للشعب لا للمسؤول الأمني. وقد ملّ هؤلاء الشباب من التعامل الفوقي معهم و«استهبالهم» والإصرار على تهميشهم. ويشرح حسين أن حزب البعث أصرّ بداية على احتكار السلطة والحياة السياسية فاجتهد لتفتيت القوى السياسية الأخرى أو إفراغها. ولاحقاً بدأ الجهاز الأمني إفراغ حزب البعث نفسه من مقوماته المؤسساتية الحزبية، فلم يعد هناك اليوم أي تنظيم حزبي جدي في سوريا.
ثالث الأسباب اقتصاديّ. فعيون السلطة السورية انشغلت بالازدهار الذي حققه الانفتاح الاقتصادي لمجموعة من السوريين، فلم تلحظ اتساع رقعة الفقر السوري لتشمل في نهاية عام 2009 أكثر من %40 من الشعب السوري، وفق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ويشرح أكرم الحوراني (أستاذ في جامعة دمشق)، المؤيد للنظام، أن الخطة الاقتصادية دعت في السنوات القليلة الماضية إلى دعم الاستهلاك على حساب دعم الإنتاج، ما أدى إلى تدهور أوضاع القطاعات الأساسية في المجتمع السوري. وفي مجتمع يعيش أكثر من %60 من أهله على الزراعة، تراجعت مساهمة الزراعة في الناتج القومي إلى نحو %17 بعد أن كانت %25 عام 2005.
ويشير الحوراني إلى أن الكارثة الجدية كانت في الحد من دعم المحروقات، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وخاصة الزراعي. لينتهي الباحث الجامعي المؤيد للنظام إلى تأكيد أن «شروط المنافسة الكاملة في السوق السورية غير مستوفاة وهناك قلة احتكارية تسيطر على السوق»، معتبراً أن كارثة الإدارة تكمن في «شخصنة المواقع بغض النظر عن الكفاءة والنزاهة». وهنا أيضاً لم يعد يمكن للنظام التعويل على الوعود، فالمحتج الذي يغامر بحياته اليوم لن يعود إلى منزله بلا وظيفة.
أداء النظام
لا يرى النظام في المتظاهرين إلا «مندسين». ولا يسمع مؤيدوه من هتافاتهم إلا «العلوي عا التابوت والمسيحي عا بيروت». وبينما يحاول النظام تظهير انقسامه بين وجهتي نظر؛ واحدة تؤيد محاورة المنتفضين والثانية تدعو إلى اجتثاثهم،
يتضح يوماً بعد الآخر أن الخيار الثاني هو الراجح. ففي سوريا اليوم هناك من يسعى ليثبت لا مصداقية الرحابنة عندما قالوا إن ما من «سجن يتسع لكل الناس». ووفق مسؤولين فاعلين في السلطة، فإن الأخيرة مطمئنة الى استمرارها طالما يقتصر التضامن مع درعا- بعد حصارها ومداهمة الأمن لغالبية منازلها- على مجموعات متفرقة هنا وهناك، وطالما أن المحتجين لم يتمكنوا بعد من تثبيت اعتصام جدي في ساحة إحدى المدن السورية، ولم تسقط السلطة دماً في دمشق وحلب– البوابتين الفعليتين لإسقاط النظام السوري.
سوريا الجديدة.. بلا تماثيل
غسان سعود
بدأ الجمهور السوري رحلة التصالح مع «الجمهورية العربية السورية». فالشعب المنشغل عن عموم لبنان وفلسطين والعراق، ينشغل اليوم بنفسه. وقد نجح حتى الآن بتنبيه السلطة إلى خمس حقائق كانت ربما تجهلها. في ظل انقسام المعارضين والسلطة بين وجهتي نظر.
سقط النظام السوري أم صمد؟! ولدت في الأيام القليلة الماضية جمهورية عربية جديدة. فالشباب، غير المندسين، والمعروفون لأبناء مناطقهم جيداً، تسلقوا تماثيل لطالما خافوا من النظر في عينيها، زعزعوا أساسها تمهيداً لخلعها. أسقط هؤلاء 6 تماثيل في محافظات مختلفة للرئيس الراحل حافظ الأسد، عمدوا في محافظة دير الزور إلى إحراق تمثال باسل الأسد، الذي أقيمت له التماثيل، بعد وفاته بحادث سير عام 1994، في مختلف المدن السورية، ورفعت صوره وأطلق اسمه على الشوارع، لا لشيء إلا لأنه ابن حافظ الأسد، شقيق الرئيس السوري بشار الأسد.
والشباب، غير المندسين، والمعروفون لأبناء مناطقهم جيداً، أسقطوا كل المحاذير، فيما يبدو أن اعتقالهم جميعاً مستحيل. ولا بد بالتالي على السلطات المعنية من الاعتراف بأن المحتجين خلقوا واقعا جديدا وانه لا بد من التعامل مع هذا الواقع.
مشروع ثورة
ويشار هنا إلى أن كل مواطن سوري تقريباً بات يتصرف مع نفسه والآخرين باعتباره مشروع ثورة. فالبسطات عادت إلى شوارع المدن بعد أن طرد أصحابها الذين باتوا يتجرأون اليوم على تحدي الأمن بأن يطردهم أو ينهب بسطاتهم ويزجهم في السجون، كما كان يفعل في السابق. والسائقون ينتظرون من شرطي السير إهانة، مثل تلك التي دأب رجال الأمن على فعلها، ليصنعوا فضيحة. والشعب الذي كان مشغولاً بلبنان السياسة والفساد والطائفية، ينشغل اليوم بنفسه.
ما تحقق حتى الآن في سوريا، سواء في الشارع أو على مستوى الحقوق التي أعادتها السلطة للمواطنين، يعتبر بالنسبة لكثير من السوريين إنجازا كبيرا، لأسباب عديدة، أهمها:
أحرار أسقطوا التماثيل
1 ــ لم يعد الثلاثي الأسد «مقدساً». فقد باتت في سوريا أحياء حرة أسقط أهاليها التماثيل.
2 ــ رجال أعمال النظام ــ وأهمهم ابن خال الرئيس الأسد رامي مخلوف ــ أخرجوا من السر إلى العلن، وباتوا مضطرين للدفاع عن النفس، بعدما أصبح هناك ــ وسط الشعب ــ من يفتح عيونه جيداً ليسائلهم عن كل عقد أو تلزيم يحصلون عليه.
3 ــ فهمت السلطة أن اتفاقها مع كبار التجار في دمشق أو حلب وتشييد الفنادق والمنتجعات ومراكز المؤتمرات لا يعفيها أبداً من تحسين أوضاع المزارعين والصناعيين في درعا، كما في القامشلي واللاذقية وبانياس وغيرها من المحافظات السورية، ولا بد من سياسة اقتصادية تحمي الطبقة الوسطى والفقيرة من تحرير السوق والانفتاح الاقتصادي والاحتكار؛ وبالتالي، يجب الحدّ من تخزين العملة الأجنبية في جيوب مجموعة صغيرة من رجال الأعمال، وصرفها على إنماء الريف.
4 ــ تيقنت السلطة أن سحر احتواء الإسلاميين و«تتشتتهم»، باعتبار سوريا محطة مرور إلى الدول المجاورة، سرعان ما سينقلب على الساحر. ويفيد بالتالي الاتعاظ من بعض الدروس الأميركية. مع العلم أن احتضان بعض اجهزة السلطة لبعض المجموعات الإسلامية كان سبباً رئيسياً في توتر العلاقة بين دمشق وعدد من الدول الخليجية.
5 ــ اكتشفت السلطة أن خطاب الممانعة ودعم حركات المقاومة لا يكفيان ولا يشغلان الرأي العام عن استدراك أن السلطة نفسها تقول أشياء كثيرة تخص الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وتفعل عكسه.
هذا مع العلم أن المعارضين التقليديين يجمعون على استحالة استمرار الضغط الأمني والعسكري في الأيام المقبلة كما هو اليوم. ورهان هؤلاء كبير على إمكان تنظيم الحالة الشعبية، (التي لا تزال مشتتة نسبيا، فيما كل منطقة تغني موالها)، لتوجيه الحراك بشكل يضمن الاستفادة مما تحقق حتى الآن، وتوظيفه في مصلحة تأمين انتخابات بلدية، وربما نيابية، نزيهة.
وجهتا نظر للمستقبل
يبدو من الواضح أن ثمة وجهتي نظر للمستقبل في سوريا، سواء عند المعارضين للنظام أو عند النظام نفسه. فوسط المعارضين هناك التقليديون الذين يعتقدون أن ما تحقق حتى الآن عظيم ويفترض البناء عليه، لا تهديمه عبر السماح للسلطة بحرف المسار الإصلاحي عن طريقه وأخذه صوب حروب أهلية، كما حصل في لبنان سابقاً، أو صوب تقاتل بين الجيش والشعب كما يحصل اليوم في ليبيا. ويشدد هؤلاء التقليديون على وجوب عدم طمأنة السلطة، أو إشعارها، بأن مرحلة الاحتجاج قد طويت، حتى لا تبدأ الأخيرة بالانتقام من الذين تسببوا في قطع أحلامها بإمكانية الاستمرار بما كانت عليه إلى ما لا نهاية، فتنقلب مجدداً على التعهدات والإجراءات الإصلاحية التي اتخذتها.
في المقابل، هناك، في الشارع، من لا يستطيب العودة إلى المنزل قبل أن يتلمس أن تغييراً جذرياً قد حصل، وأن هذا التغيير ملموس بخطوات إجرائية مباشرة تحد من الحق المعطى لأجهزة الأمن بالتدخل في الحياة العامة، بعد وقف العمل بقانون الطوارئ. وتتراوح وجهات النظر حول هذا المطلب بين من يعتقد أن الوسيلة لتحقيقه تكون بحل السلطة لبعض الأجهزة، ومن يعتقد أن الحل يكون بإقالة جيل أمني فقد ثقة الشعب فيه، وضرورة الإتيان بمن هم على قدرة واستعداد لترميم العلاقة السيئة بين الأمن والمواطن، لما فيه خير المواطن بالطبع.
ويشار هنا إلى أن المحتجين في درعا لم يكتفوا بإقالة مسؤول الأمن السابق، الذي كان وراء اعتقال الأطفال التسعة وتعذيبهم (الحادثة الشرارة التي أطلقت الاحتجاج الدرعاوي)، ولم يكتفوا بسجن هذا المسؤول تمهيداً لمحاكمته، كما لم يكتفوا باستبدال السلطة لثلاثة مسؤولين أمنيين لاحقاً، كان الأهالي قد منعوهم من ممارسة عملهم.
..وللسلطة رأيان أيضاً
وفي حين يخشى المحتجون في الشارع من هرولة بعض المعارضين التقليديين خلف عقد اتفاقيات مع النظام تشبه الصفقات، وتنتهي بحصولهم على حقائب وزارية فارغة، توُهم الرأي العام بان الإصلاح قد تم، فيما تعمد الأجهزة الأمنية، بعيداً عن الأنظار، إلى اعتقال كل من شارك في الثورة المفترضة.
من جهة السلطة، هناك أيضاً وجهتا نظر بشأن مستقبل سوريا.
هناك من يعتقد أن حماية السلطة بتشييد الجدران والأسوار في وجه المواطنين لم تعد تنفع في القرن الواحد والعشرين. وبالتالي لا بد من تصالح النظام الأمني مع الشعب وإعادة صياغة علاقة الطرفين. أي، وبكلام أوضح، محاورة المعارضين وتفهم مطالبهم بدلا من قمعهم وابتداع التهم للزج بهم في السجون والمعتقلات. ويبدو أنصار وجهة النظر هذه واثقين بشعبية الرئيس الأسد،
وقدرته على حصد تأييد أكثرية السوريين في انتخابات حقيقية حرة.
بالمقابل، هناك وجهة نظر أخرى تردد، منذ بدأت الأزمة، أن أي «تنازل» للسلطة سيتبعه تصعيد من المحتجين يجبر السلطة على تقديم «تنازل» آخر.. حتى تتعرى من كل «مكتسباتها».
ويفترض الأخذ بالاعتبار أن احتمال التنسيق بين وجهتي نظر المعارضين قد يكون كبيراً، تماماً كما يحتمل أن يكون تبادل الأدوار على مستوى رأس النظام مدروساً: فيرسل كل من المعارضة والسلطة مرة محاورا ومرة مشاغبا، في محاولة كل طرف حمل العصي من الوسط لتأمين التوازن الذي يسمح بضمان استمراريته.
في سوريا الجديدة، للشعب يوم في الأسبوع وللسلطة سبعة. ففي كل يوم خميس، تقول السلطة: غداً الجمعة يتحدد المسار والمصير. والجمعة يجر خلفه جمعة آخر. إنها الطريق إلى سوريا الجديدة ــ سوريا بلا تماثيل.