RE: محاولة في التعريف - مدرسة فرانكفورت
في المنهج النقدي
يعتبر مارتين جوي أن المنهج الجدلي الذي التزمت به مدرسة فرانكفورت منهج «ماركسي-هيغلي»(١٩)، مع أن هناك مسافة تفصل بين النظرية النقدية والمنهج المثالي الهيغلي في كثير من المسائل الأساسية، وكذلك بينه وبين المادية التاريخية، حيث رفضت المدرسة النقدية رفضًا قاطعًا مثالية هيغل وتفسيره الميتافيزيقي للتاريخ ومفهوم الحقيقة المطلقة وفكرة التماثل بين الذات والموضوع، مثلما رفضت مادية الماركسيين التقليديين التي أكدت على أولوية المادة على الفكر ورفعها إلى مستوى نظرية للمعرفة التي تدعي اليقين المطلق. كما أكدت النظرية النقدية على أن الديالكتيك هو الحد الحاسم في الأمر، لأنه مجال قوة بين الوعي والوجود وبين الذات والموضوع. كما أن الماركسية هي منهج قبل أن تكون نظرية معرفة أنطولوجية. ومن جهة أخرى، تميز النظرية النقدية نفسها وبقوة عن الفلسفة التقليدية وعلم الاجتماع الوضعي والمنهج الإمبيريقي. فقد رفضت علم الاجتماع الوضعي لأنه خسر أفقه في تحقيق الإمكانات التي أتيحت له في فكرة التقدم التي جاء بها العلم الجديد على يد أوغست كونت، وفقد أهم شيء وهو حقيقة ما يفكر به الناس حول المجتمع، لأنه تعالى على طرح السؤال الحاسم: لماذا وكيف؟ مثلما تعالى عن المسائل الأساسية التي تخص الإنسان، وبذلك فقد وعيه النقدي. والنظرية النقدية ترفض الإمبيريقية، لأنها منهج بحث يؤكد على التحقق من صدق الأشياء والحقائق عن طريق اختبار الفرضيات العامة، وهي بذلك تقوم على معرفة خالصة، وليس على الممارسة، وتفصل فصلا تامًا بين الفكر والعمل، وبذلك تصبح الإمبيريقية هدفًا لذاتها وليس للإنسان، وتستخدم غالبًا كوسيلة لخدمة التكنولوجيا، وتصبح بدورها أداة لخدمة السلطة القهرية، بالإضافة إلى رفضها الثقة العمياء بالمنطق الصوري الذي يكون على حساب المحتوى. فالإمبيريقية تقوم على القياس الرياضي، ومعنى ذلك إنزال المنطق إلى مسلسلة توتولوجية، وبذلك تفقد الأشياء معانيها في الواقع الاجتماعي، لأنها تفصل بين المعرفة والمصلحة فصلًا تامًا. كما ترفض النظرية النقدية حيادية علم الاجتماع وتحرره من القيم، كما في الوضعية. فالتحرر من القيم غير ممكن في مجتمع يكون فيه البشر غير مستقلين ويكون فيه الباحث الاجتماعي جزءًا من المجتمع الذي يعيش فيه، وجزءًا من الموضوع الذي يدرسه، ولذلك لا يمكنه إلَّا أن يشارك في تناقضات المجتمع ويعكس ثقافته.
إن منهج النظرية النقدية التي التزمت به مدرسة فرانكفورت هو ديالكتيك النظرية والممارسة، وهو منهج متفتح لوجهات نظر مختلفة، لأنه لا يؤمن بالحقيقة المطلقة ولا بالنسبية المطلقة التي تفصل بين الذات والموضوع.
وبحسب مارتين جوي، فإن هذا المنهج بحاجة إلى «فنطازيا جمالية» وإلى خيال علمي، وبدونهما تبقى المعرفة عقيدة مقطوعة الصلة بالمستقبل، لأن الفنطازيا هي ينبوع أصيل للطموحات الإنسانية(٢٠).
واليوم إذ يحتفل أساتذة مدرسة فرانكفورت وتلاميذها وأصدقاؤها في علم الاجتماع النقدي بأمجادها، فإنها لم تستطع تحقيق ما وعدت به من تغيير في بنية المجتمع الفكرية والسياسية، مع أنها دخلت معه في صراع استمر طيلة نصف قرن تقريبًا، غير أنها كشفت عن الأزمات والصراعات الكامنه فيه، ولم يبق من روادها الأوائل الكبار سوى يورغن هبرماس الذي يعد اليوم واحدًا من أهم المفكرين الاجتماعيين النقديين في أوروبا بعامة، وألمانيا بخاصة.
الهوامش
(١) ماكس هوركهايمر (١٨٩٥ - ١٩٧٣) وُلِدَ في شتوتغارت بألمانيا وأصبح عام ١٩٢٤ أستاذًًا في كلية الفلسفة بجامعة غوتة بفرانكفورت ثم أصبح عام ١٩٣٠ مديرًا لمعهد البحث الاجتماعي الذي أصبح نواة مدرسة فرانكفورت. هاجر إلى سويسرا ثم إلى الولايات المتحدة عام ١٩٣٣ وأصبح أستاذًا في جامعة كولومبيا ثم رئيسًا لفرع معهد البحث الاجتماعي الألماني في كولومبيا. عاد إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام ١٩٥٠ وأعاد تأسيس «معهد البحث الاجتماعي». صدرت له عدة كتب وعشرات المقالات العلمية في الفلسفة وعلم الاجتماع النقدي، من أهمها: النظرية النقدية، ديالكتيك عصر التنوير (بالاشتراك مع أدورنو)، بدايات تاريخ الفلسفة البورجوازية، الدولة والسلطة وكسوف العقل وغيرها.
(٢) ثيودور أدورنو (١٩٠٣ - ١٩٦٩) وُلِدَ في فرانكفورت وأصبح أستاذًا في الفلسفة وعلم الجمال في جامعة فرانكفورت، ثم أصبح مساعدًا لهوركهايمر في إدارة معهد البحث الاجتماعي وعمل معه في تطوير وإغناء النظرية النقدية. هاجر إلى إنكلترا وأصبح أستاذًا في جامعة أكسفورد عام ١٩٣٣، ثم إلى الولايات المتحدة عام ١٩٣٨ وعمل في جامعات نيويورك ولوس أنجليس وبركلي. عاد إلى فرانكفورت بعد انتهاء الحرب عام ١٩٤٩، وأصبح عام ١٩٥٣ مديرًا لمعهد البحث الاجتماعي حتى وفاته. صدرت له عدة كتب في علم اجتماع الفن والجماليات بالإضافة إلى كونه موسيقارًا كتب عددًا من المقطوعات الموسيقية والسمفونيات.
(٣) Max Horkheimer, Traditinelle und kritische theorie, Frankfurt 1937, S. 270.
(٤) Martin Jay, Dialektische phantasie, Fischer Verley, Frankfurt 1981, S. 32-23.
(٥) Ibid, S. 9>
(٦) Zcitschrift fur Sozialforschung, Bd. I, Frankfurt, 1930.
(٧) هربرت ماركوزه، (١٨٩٨ - ١٩٨١) ثالث منظّري النظرية النقدية، وقد ارتفعت مكانته في مدرسة فرانكفورت في المرحلة الثانية من تطورها. هاجر إلى الولايات المتحدة عام ١٩٣٣ وعاد إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب الثانية. بعد صدور أهم مؤلفاته «الإنسان ذو البعد الواحد» ونقده للنظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي، تحولت أفكاره إلى شعارات سياسية لحركة الشباب والطلاب الثورية في نهاية الستينات.
(٨) كارل منهايم (١٨٩٣ - ١٩٤٧) أحد رواد مدرسة فرانكفورت الأوائل، انفصل عنها فيما بعد. عمل أستاذًا لفلسفة التربية وعلم الاجتماع في جامعة فرانكفورت عام ١٩٣٠. هاجر مع زملائه إلى إنكلترا عام ١٩٣٣ وأصبح أستاذًا في مدرسة لندن للاقتصاد السياسي. ومن أهم مؤلفاته الأيديولوجيا والطوبي.
(٩) يورغن هبرماس (دسلدورف ١٩٢٩) فيلسوف وعالم اجتماع نقدي. عمل أستاذًا فوق العادة في جامعة هايدلبرغ ثم أستاذًا في علم الاجتماع في معهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت. وأصبح عام ١٩٧١ مديرًا لمعهد ماكس بلانك حتى عام ١٩٨١ حيث عاد إلى معهد البحث الاجتماعي في فرانكفورت عام ١٩٨٣ وما يزال فيه. إن سيرة حياة هبرماس العلمية جعلت منه نموذجًا للمفكر الألماني النقدي الصارم ومرجعًا أساسيًا في الفلسفة وعلم الاجتماع والإبستمولوجيا، كما يعتبر اليوم الممثل الوحيد لمدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي.
(١٠) أريك فروم (١٩٠٠ - ١٩٧٩) عمل في التحليل النفسي في ميونخ وفرانكفورت ثم هاجر إلى الولايات المتحدة عام ١٩٣٣، وأصبح أستاذًا في جامعة نيويورك ثم في جامعة المكسيك، وفي ١٩٥٢ سافر إلى سويسرا وقضى معظم حياته فيها. تأثر بالنظرية الفرويدية والماركسية وركز اهتمامه على تحليل عوامل الانحلال في المجتمع الصناعي الحديث، وصدرت له عدة مؤلفات هامة منها: المجتمع السليم، وفن الحب، والهروب من الحرية.
(١١) Brief From Horkheimer. Zum M. Jay, Schmeiz, Dezember 1971, in: Jay. Dialektische phantasie, S. 10.
(١٢) Ivo Frunzel, Zur Kritischen theorie Max Horkheimer, in Kritik und Interpretation der Kritischen theorie, Frankfurt 1970, S. 97.
(١٣) إبراهيم الحيديري، النظرية النقدية وديالكتيك عصر التنوير، دراسات عربية - العدد ١٠/٩، بيروت ١٩٨٩، ص ١١١.
(١٤) Max Horkheimer, Kritische theorie der Gesellschaft, Band, Bd. I. S. 195.
(١٥) Ibid, Bd. II, S. 171.
(١٦) Max Horkheimer, Dammerung, Zurich, 1935, S. 181.
(١٧) M. Jay, Ibid, S. 80.
(١٨) Ibid, S. 91.
(١٩) M. Horkheimer, Zum problem der Voraussage in der Sozialwissenschaft, in: Kritische theorie, 1933, S. 253.
(٢٠) M. Jay, Ibid, S. 68.
|