RE: آراء زملاء لي بالفيسبووك عن الثورة السورية
لأثر الرجعي للمسيرات "العفوية" ...رؤية ذاتية.....بقلم عبد الكريم أنيس
لن أفشي سراً إن تحدثت عن كيف تصنع المسيرات العفوية في بلادي، حيث كل شيء عفوي، بعيد عن التصنع وبعيد عن التكلف، وبإمكان المرء فيه أن يعبر عن كل ما يجول بخاطره من آراء سياسية بكل أريحية وبكل ندية.
لن أتكلم هنا عن المظاهرات كما سيطالب البعض، ويثور الآخر، والسبب ببساطة أن التلفاز الرسمي والرديف أشبعوها تجريحاً وتحليلاً وأسبغوا عليها من مفرداتهم اللبقة والأنيقة ما يجعل منها ومن المشاركين فيها مجرد خونة وشياطين وسفاحين وعصابات مأجورة, تستباح دمائهم لأنهم يحرضون على عدم الاستقرار في البلاد.
ما يحز في نفسي أن الجميع، موالاة ومعارضين, يعرفون كيف هي قصة المسيرات التي كانت تعقد في هذه البلاد, وكيف كانت ولا زالت تجمع الجموع وتحشد الحشود (على التفقد), وتزين الشوارع, وتحضر المواكب, ويتراقص في طول البلاد وعرضها الراقصون, ويدبك فيها الدبيكة على ألحان الأغاني الوطنية, ويتجرع فيها المحتشدون القادمون بعفوية وبكل طيب خاطر (لا أحد منهم على الإطلاق يتثاءب أو يلقط نائماً على الواقف), الخطابات الرنانة وحشو الكلام عن الانجازات التي حققها المسؤولون الأفاضل الكرام, الذين عجزت النساء السوريات عن إنجاب مثيل لهم في طول البلاد وعرضها, ولذلك تراهم ينتقلون من موقع لآخر دون أي اعتبار سوى لكمِّ الولاء للسلطات, ضمن منظومة وراثة المناصب أو القفز فوق القوانين التي تسوى بلحظات.
أما كيف يتم إسقاط الحالة الشعبية العفوية فعليك لزاماً أن تتابع جلسات مجلس السيرك السوري, حيث تجد كل ما له علاقة بانعكاس العفوية الصادقة والأمينة على أرض الواقع, فتلاحظ كماً كبيراً وهائلاً من الابتذال والمبالغة في إظهار مشاعر الولاء, وحالات الموهبة "التمثيلية" التي تخولهم دخول أحد فرق الرقص الشعبي بكل أريحية واحترافية.
دعونا نتساءل كيف يتم حشد المسيرات العفوية.... هل يحدث هذا في المؤسسات الرسمية التي تتبع للدولة والتي من المفترض أنها تعامل كل أفراد الشعب على قدر واحد من المساواة في الحقوق المترتبة عليها لهم, من حيث أن هذه المرافق هي مرافق مؤسساتية تمثل الشعب, كل الشعب, وأنه لا يجوز إطلاقاً وبتاتاً التعامل معها وكأنها ملكية خاصة مفرزة حسب الولاء السياسي بالبلاد؟
دعوني أسال دستورياً، هل يحق لأولئك أن يروجوا لآرائهم السياسية عبر حشد الحشود من الموظفين الرسميين لديهم وفي أوقات الدوام الرسمية؟ أليس هذا انتفاع يشخصن المؤسسات والمرافق العامة للدولة وفقاً للقناعات السياسية لبعض الأفراد فيها؟
لم يسلم المتظاهرون من تهمة قبض بعض الليرات السورية سواء تلك الضئيلة وبالعملة الوطنية ( لحد سندويشة الفلافل) أو تلك التي وصلت لبضع ألوف من الدولارات واليوروهات, ولكن الذي يتهم غالبية الخارجين بهذه التهمة, عليه أن يعلم أن موظفي القطاع الحكومي والذين نالوا ترفيعاً بالرواتب، هو بالمناسبة حقهم بالحصول على أجر كريم يتناسب مع الحال المعاشي، لكن هناك من تصرف من هؤلاء وهم كثر كأنهم حصلوا على "براني" وأصبحوا خرطوشاً بمسدس الحكومة يعادي كل من يسائلها عن الأخطاء, وينصبون من أنفسهم وطنيين شرفاء فوق الجميع ويوزعون صكوك البراءة على هذا وذاك.
لم أحسب يوماً أن العلم السوري الذي ينبغي أن يستفيء بفيئه كل السوريين قد أضحى مثار تفرقة بناء على الفرز السياسي بالانتماء, فقد أضحت سورية عند البعض تقاس بمدى طول العلم الذي شارك في حمله, وتضمحل بالمقابل كلما كان هذا العلم أقصر في أماكن أخرى!!! ناهيك عن حمل صور رئيس البلاد, الذي صدر مرسوم جمهوري يمنع فيه هذا الابتذال, لهذه الحالة التي تثير الاستياء.
بالمناسبة لا يوجد فقرة واضحة عن العلم السوري في دستور الثمانينات أرجو أن يتم التنبه لهذه الفقرة وتوضيح ما غيب فيها وإيضاحه بشكل مباشر، لأنه وحسب إحصائية قام بها أحد المواقع السورية، منذ فترة ليست بعيدة جداً، كانت نسبة الذين رفعوا العلم بشكل مقلوب ضمن مؤسسات الدولة كبيرة جداً وكان من المعيب أن بعضها قد أكل عليه الدهر وشرب!!!
سأحاول أن أصنف الفئات التي تنزل للمسيرات الـ"عفوية":
- أولها هم الأبواق والمتسلقون والطبول الفارغة حيث تجد هؤلاء السباقين لإقامة "الأعراس" الوطنية خصوصاً وأن هذا سيجلب "براني للجيبة" بموجبه يتم فتح حساب مفتوح ليس فيه تدقيق, حيث يعامل كبند من بنود التلفيات التي لا بد منها كي تظهر هذه المؤسسة أو تلك كل ما لديها من "طاقات" لإظهار الولاء السياسي للسلطات.
هؤلاء متواجدون منذ الأزل وسيظلون متواجدين لأنهم يتناسخون عبر الأزمان, ونسبة وجودهم هي ما تحدد حصيلة فساد سلطات ما وفق مقياس الشفافية في رصد التجاوزات والفساد في أي مؤسسة رسمية ما. هم أقرب للمهرجين, حين يطلب منهم التهريج وحتى وجودهم في أماكن عملهم ينبغي النظر فيه حسب المنفعة التي يقدمونها في تبادل عزائم الإفطارات والقهوة والشاي و"نتر التقريرات" و"طق البراغي" لتقديم صورة مخلصة من الحرص على نيل رضى "اللي فوق" غالباً هم المسؤولين عن التفقد للحضور "العفويين".
- يدعى لهذه المسيرات "العفوية" أيضا الكثير من السذج، كما يدعى جحا لأي احتفال، فهم لا قيمة لهم إلا بقدر ما تلهج حناجرهم بالثناء والدعاء للمسؤولين الأكارم أصحاب الانجازات, التي قلصت الحدود بين الطبقات, فتراهم يكيلون المديح بصدق بالغ السذاجة وهم لا يعرفون شيئاً عن حقوقهم ولا عن ما ينبغي أن يقدم لهم هذا الموظف الرسمي أو ذاك من خدمات لا تحتاج لكل هذا المقدار المبالغ فيه من الثناء. حين تعرف حالهم تصاب بلوثة من البكاء، هم فئة مسكينة تحزن من داخلك كلما وجدتهم أغرقوا بالبساطة, حتى لتجدن الفاسد من أولئك المسؤولين يرمقهم شزراً بصورة تصل حد القرف, ترى ذلك في قرارة نفسه, يدعو ويحوقل حتى ينتهي هذا السيرك عاجلاً ليس آجل فهو يعرف الطبخة وكيف تدار الأمور!!!
- المنتفعون من العامة الغوغاء حيث صار لافتاً أن كل مخالف وكل متاجر بالوطنية وكل أصحاب مخالفات البناء يتصورون أن منفعتهم الآنية في احتلال الساحات الرئيسية والأرصفة المخصصة للعامة وتعمير المزيد من الطوابق التي تزيد الوطن تشويهاً وتمزيقاً، هؤلاء تجد العلامة الفارقة أنهم يضعون صورة رئيس البلاد كحام بمقابل الانتفاع منهم بالزيادة العددية واستخدامهم كمشبحين نباحين في أوقات الحاجةً، فالقانون لديهم تحت مستوى هذه الصورة ومن يمثلها من سلطات تنفيذية!!!
- هناك منهم وفي هذه المرحلة بالذات شرفاء نال منهم الخوف من المجهول ووقعوا رهينة لإعلام يختزل كل ما يحدث في البلاد وفق رأي السلطات وأتخموا بالحديث اليومي عن المؤامرات وخافوا على سوريتهم من الضياع تلك التي ليس مثلها في كل البلاد, أولئك ترى منهم المكره على تقبل النفاق لأنه لا يثق بالطرف المقابل من الاحتجاجات, حيث يجد أولئك أن هذه التحركات شابها العنف والوقوع في الأخطاء ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن هناك شيئاً كبيراً من حالة التقسيم الحالية لا يريدون الوقوع في جرمه, حين يجدون الدماء تسير في شوارعهم, وآخرون يتراقصون كما الأنعام بل هم أضل بعد أن أصاب منهم داء قلة الإحساس مصابه. ترى هذه الفئة مكرهة تجر نفسها جراً فهي تعلم أن الألم ألم كل السوريين وأن الفرح يجب أن يكون في حالة نصر مبين على عدو أثيم، تربيتهم تقول لهم أن يخفضوا من صوت مذياع إذا ما علموا بجار لهم مريض فكيف والوطن كله يعاني من حالة من الفوضى ويتم فيه القتل وأصبح فيه نازحين!!!
- لا يمكن أن ننسى الفئات العمرية التي لما ترشد بعد, وهي الأكثر من حيث الشرائح الشابة التي لا تعرف بعد نضجاً سياسياً أو نظرة شمولية على الأحداث المتوالية والمتداخلة, هؤلاء لم يعرفوا في حياتهم سوى عائلة واحدة حكمت البلاد, تتصرف هذه الشريحة وفق ما في البلاد من منظمات علبت وأطرت ولائهم للحزب الواحد والقائد الأوحد،هم بحاجة الكثير من الوعي الوطني, ومعرفة حقوق المواطنة, وكيف يجب أن تدار البلاد بعيداً عن الارتهان لشخص أو حكومة تتغير ويبقى تراب البلاد. يتم تحريك عواطف هؤلاء الشباب بتقديم صورة واحدة فقط مما يحدث في أطراف البلاد.
ترسخ هذه العفوية غير الصادقة حالة انحراف مسلكي وتزيد من حالة الفرقة وتفاقم من شدة فقدان الحس والضمير وخصوصاً عندما يتراقص أولئك المساكين، بقصد أو بدونه، فوق آهات الدم السوري المسكوب والمسفوح.إن كان المقصد من هذا المسيرات "العفوية" إرسال رسالة لخارج البلاد فالأولى أن تكون الرسالة لرص الصف بالداخل بدل المزيد من توجيه رسائل التخويف عن طريق استعراض الأعداد.
العفوية يا سادة تقتضي أن يكون هؤلاء قادرين على التعبير على اعتراضاتهم على وقائع يومية معاشة للحصول على خدمة وطنية رسمية أو خاصة بشكل محترم ومعقول لا مجرد تقديم شكاوي هي حبر على ورق, يبت الأمر فيها موظفون حكوميون فاسدون بدون إعمال وجهة نظر الصالح العام فيها للشعب, وهنا الغلبة تكون غالباً للفئة التي تمرر من تحت الطاولات بل وفوقها بكل وقاحة ما استشكل على هذا الطرف الاقتصادي الجهبذ أو ذاك حين يتناول الموضوع استثماراً حكومياً فوضته الحكومة بموجبه مشاريع تغدو مجرد احتكارات في ظل الاستئثار بها وتخصيصها بطرف دون آخر.
"البارحة، أثناء تشييع شهيد في دير الزور، أعلنت طفلة عمرها عشر سنوات انشقاقها عن منظمة طلائع البعث! هكذا كتب المفكر السوري ياسين الحاج صالح البارحة على جداره الالكتروني.
فهل سيصل إلينا يوماً حس كحال هذه الفتاة نتصرف فيه بعفوية بعيداً عن طقوس صناعة التخوين والكراهية والأدلجة المؤسساتية؟
|