اقتباس:* ص 87 – اللحظة النتشوية :
شكلت الرؤية الفلسفية لدى نيتشه ، أو كما توصف باللحظة النتشوية ، وما اتسمت به من خصائص منعطفا خطيرا في تاريخ الفكر .
تقوم فلسفة نيتشه على أسس ، أهمها :
- التأكيد على الذاتية في مقابل الموضوعية بالنسبة للصلة بين الإنسان والعالم ، فقد ذهب نيتشه ، كما ذهب قبله شوبنهاور ، إلى أن أفكار الإنسان ومعارفه عن العالم الخارجي متأثرة بأوهام ذاتية ، ومعتقدات شخصية لا حقيقة لها في الخارج ، وأن الحقائق الموضوعية للعالم تختلف عما يتصوره الانسان ويعتقده عنها ، لذلك كانت معارف الإنسان عن العالم إنما هي أوهام ذاتية ، وخرافات موروثة .
- إن أخطر هذه الأوهام الذاتية وأكبر تلك الخرافات الموروثة التي تخالف الواقع وتصادم الموضوع إنما هو الدين وكل ما يتصل به ، فالدين هو اكبر خرافة توارثتها الإنسانية جيلا بعد جيل ، وليس من شك ان الدين والأخلاق وما يتصل بذلك إنما هي مظاهر ضعف وانحطاط ، لكن هذه المظاهر يتعدها رجال الدين القساوسة ويظهرونها على أنها فضائل ، لكي يحتفظوا بسيادتهم على جماهير الناس ، وتزداد مكانتهم ومكاسبه المادية ، رغم وضوح الكذبة ورغم ان الدين وما يتصل به من أمور يرفضها العلم ويكفر بها العقل الذكي .
نستفيد من هذا الكلام انه ربط بين الدين والاخلاق ، وهدا اعتراف كافي بحد ذاته عن تلازم الدين والاخلاق ، ووجود احدهما يقتضي وجود الاخر ، يدخلان معا ويخرجان معا ، ويطلبان معا ويرفضان معا ، وهذا التلازم للاخلاق ليس موجودا في الالحاد ، بل مرفوضا كما يقرر نيتشه . اما كونه هو لا يحب الاخلاق فهذا شانه ، لان بقية البشر يحبون الاخلاق . واما عن اخلاقه البديلة ، فهي ليست اخلاقا بل مصلحة مادية ليس الا . وتحتاج الى اخلاق تهذبها .
اقتباس:- أهم ما في فلسفته جانبان : سلبي وإيجابي ، السلبي يتمثل في النقد العنيف والقاسي والملحّ للدين والقيم والاخلاق .. أما الجانب الإيجابي فهو تمجيد القوة والدعوة إليها ، وإلى القضاء على كل ما يعارض القوة ويعرقل مسيرتها ، ويعوق تقدم الإنسان مما يسمى بالقيم والأخلاق ، من مثل : الحب ، والرحمة ، والعدل ، فهذه الأمور وأمثالها قد عاقت الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه ، ويرتفع عن مستواه الحالي ، ليصل إلى الإنسان الاقوى ، أو ما سماه السوبرمان ، ولن تصل الانسانية الى هذا الانسان الاقوى الا اذا القت وراء ظهرها بما يسمى بالقيم ، ثم استعملت القوة في الصراع بين الضعفاء والاقوياء ، ومن ثم يقضى على الضعفاء ، ولا يبقى الا الاقوياء ، ثم الصراع بين الاقوياء ، وهكذا حتى تصل البشرية إلى المستوى الأعلى دائماً .. وكان نيتشه حين تسجيله افكاره هذه وكتابته مذهبه شبه مجنون ، ثم اصيب بالجنون فعلاً وظل لأحد عشر عاما الاخيرة في حياته في جنون شبه كامل ، ورغم ذلك كان يكتب ويحرر مذهبه ذاك .
- فيما يتعلق بالجانب الاخلاقي ، فقد وضع مقياسا للأخلاق ربط فيه بين القوة والفضيلة ، بصرف النظر عن مجالات استعمالها ، فإن القوي عنده له مطلق الحرية في استعمال قوته في كل المجالات ، ولو كان سفك الدماء البريئة ، بل إنه يحض الاقوياء على سفك دماء الضعفاء حتى لا يعوقوا مسيرة البشرية إلى الأعلى ،
ما هو المقصود بالأعلى إذا كانت الناس ستذهب ضحايا ؟ هل الجريمة هي الاعلى في نظر هذا المجنون الذي اعطي اكبر من حجمه ؟ ما هو الأعلى ؟ ما يراه هو اعلى يراه بقية البشر سفول . فالظلم والعنف وقتل الابرياء ، اذا لم تكن هذه هي الحضيض فما هو الحضيض ؟
القوة عنده تعني القوة العسكرية وامتلاك الة البطش التي لا يمتلكها غيرك ، هذا هو الرقي والتطور من وجهة نظر نيتشه . فلا ذكر عنده ولا قيمة لرقي الاخوة والانسانية والفن والعلم والجمال .. إلخ .
هذه فلسفة حاقد حاسد يعاني من الضعف الشديد ، ولو طبقت هذه النظرية لكان اول ضحاياها . لكن لماذا نستغرب عليه تطرفه وهو لا يختلف عن الفلسفة المادية الراسمالية الالحادية وحتى الشيوعية في شيء ؟ كلها تفكر بنفس فكر نيتشه ، فقط هم لا يقدمونها بنفس العنف الذي يقدمه بها نيتشه . وهنا يستحق نيتشه الاحترام ليس على عقله ، بل لانه اكثر صراحة من بقية الماديين . كل الفكر الغربي هو نيتشه بطريقة ملطفة ، ولهذا اعطي رغم جنونه مكانة كبيرة .
اقتباس:- كذلك كل ضعف هو رذيلة ، بصرف النظر ايضا عن اسباب الضعف .. وأيضا ربط بين الخير والقوة ، والشر والضعف ، فأضحى الميزان الأخلاقي عنده : أن القوة هي الخير وهي الفضيلة ، وأن الضعف هو الشر وهو الرذيلة .
- دعا نيتشه إلى شعار يقول : " كن نفسك ، لا تكن غيرك" . وهو يعني بهذا أن يرفض الإنسان كل الاشياء التي ورثها ، والتي تربطه بالآخرين ، وأن يحطم القيم والعادات والأعراف والتقاليد ، بل يجب عليه ان يحطّم أخطر تلك القيود التي تمنعه من الخَلْق والإبتكار وتحقيق ذاته ، وهذه القيود الأخطر هي في نظره : الدين ، والوطن ، والأمة .. فالناس يؤمنون بهذه الاشياء والإيمان يعوق الإنسان عن تحقيق ذاته ، لأن الدين ماخوذ من السابقين ، فأنت لا تخلقه ولا تنشئه ، بل تقلد السابقين ، وكذلك الأمة والوطن ، ومثل ذلك كل القيم ، إنما هي موروثات عن الذين سبقوك ، فأين أنت ؟ أين ما قمت أنت بخلقه واختراعه ؟ لا شيء ، ولذلك فأنت صورة مكررة ممن سبقوك .. ولكي تبدع ولكي تكون نفسك وتحقق ذاتك ، لا بد أن ترمي بكل شيء موروث عن السابقين ، وتخترع انت القيم الخاصة بك ، والتقاليد والاعراف والسلوك الخاص بك انت ، والذي يناقض كل ما كان عليه الآخرون السابقون .
هذا كلام غير معقول ، إلا اذا كان سيعيش وحده ! ان كان سيرمي كل هذه الاشياء ، فكيف سيتفاهم مع الاخرين ؟ هو الان يدمر ذاته ولا يحققها ، ببساطة لان الانسان يعيش مع الاخرين ، لأنه مخلوق اجتماعي ، وهو نفسه بحاجة لوجود امة ، لا ان يعيش بين حدود دولتين . وهو بنفسه محتاج لكي يتوازن داخليا ان يكون له مبادئ و دين يرعاها ، لماذا يتصور ان هذه الاشياء التي يتمسك بها الانسان عبء ثقيل عليه ؟ لو كانت عبئا لرماها ، ثم : ابداع وتفوق وتقدم : ماذا تعني هذه بالنسبة للفرد اذا كان سيترك امته ووطنه ومبادئه ؟ ان الانسان يتعذب في اعظم قصر ، بسبب اختلاف في وجهة نظر مع شخص عزيز عليه ، فما بالك ان ينسلخ من كل شيء لعله ان يبدع ماديا ؟
ثم لماذا الضدية بين الانتماءات الاخلاقية والابداع ؟ العكس هو الصحيح ، كلما استقر الانسان واحس بالارتباط ، كلما صفى ذهنه لكي يتعلم ويبدع ، فكرة نيتشه تشبه فكرة العبقري المخطوف : ان تخطف شخصا بسرعة وتنقله الى قارة اخرى وتقول له : انت الان تخلصت من كل انتماءاتك ، هيا حقق ذاتك و ابدع لنا !!
نيتشه الذي يطالب بالتخلص من الموروث لم يتخلص هو منه ، أرايت تمجيده للثقافة اليونانية قبل سقراط ؟ انه يعتبرها مرجعا وموروثا له ! اذا هو يطلب شيئا ويفعل ضده ! كل همه ان يبعد الناس عن الدين والاخلاق ، هذه هي رسالة نيتشه . مع انه يعرف ان العلم والحضارة قامتا في البيئات الدينية . وأن الإلحاد مرتبط دائما بالوحشية والبربرية .
وها هو نيتشه كبير الملحدين يدعو الى وحشية لم تعرفها البشرية من قبل ، حتى انه يطالب بقتل اي ضعيف فقط لانه ضعيف ، ولا ندري ما مقياس الضعف والقوة ، اذا هو يطلب من الناس ان يتقاتلوا ، والقوة العقلية لا تعني القوة العسكرية ، اذا سيقتَل العباقرة لأنهم عادة لا يكونوا اقوياء عسكريا ، وحينها لن يتقدم العلم .
في الحالة المجنونة التي يريدها نيتشه ، سيقتل الناس ويبقى الجنود بما فيهم العلماء ، وتدور تصفيات بين الجنود حتى يبقى اغباهم واقساهم .
يريد ان يخرج العالم من الحكم المدني الى الحكم العسكري ، هذا هو عبقري الالحاد نيتشه . صاحب الخيال المريض بشهوة الدم الذي عجز عن تحقيقه على الواقع فأراد تطبيقه على الورق .
لم يستطع ان يقتل احدا في المعركة . وأراد أن يقتل بالقلم ، فهو يعاني من عقدة القتل . حتى كلامه عن الالحاد يسميه قتل الاله . المسكين كان يتمنى ان يقتل احدا لكنه حُرم من هذه الرغبة بسبب ضعفه وجبنه ، فتحولت الى عقدة قادته الى الجنون . رغم معاناته في سنواته الأخيرة إلا انه لم ينتحر بسبب جبنه وخوفه على حياته .
بئس الرقي الذي سيكون ثمنه قتل الانسان البريء وقتل الاخلاق والدين والقيم ، ما فائدة الرقي اذا كان الصراع والقتال سيستمران ؟ الرقي الذي لا يستطيع ان يوقف الشر ليس رقيا .
ماذا يعني بالرقي ؟ اليس يعني تحقيق حاجات الانسان ؟ ان اهم حاجاته الامن ، وهذه الفلسفة تدمر هذا الامن ، اذا لن يكون عنده رقي في الامن ، اما الاخلاق فقد الغتها هذه النظرية ، اذا سيعيش الناس في سوء اخلاق وانعدام امن ، ينتج منه المتاعب النفسية والمادية ، وهذا ضد امنيات الانسان وحاجاته .
الوطن والامة ، اذا كان كل فرد لا يؤمن بقيمة وطنه ولا امته ، ولا يدافع عنها ولا يحافظ على كيانها وقوانينها ، ماذا سوف تكون حالة تلك الامة ؟ هل هي في تقدم او تأخر ؟ اذا اين الرقي ؟ هو يتخيل الانسان وكأنه جرم سماوي يتحرك بذاته مستقلا عن غيره .
معاناة نيتشه في حقده الدفين ، انه لا يريد الناس ان يحبوا شيئا ، فالدين حب والاخلاق حب والوطن حب والامة حب ، اذا نيتشه ضد الحب ، ومع الكراهية والعداوة والتدمير .
ارادة القوة بالمعنى الذي يقدمه ليست ارادة كل البشر ، بل هي ارادته هو بالدرجة الاولى وارادة كل ضعيف الحال .
يتبع ..