{myadvertisements[zone_1]}
حكمة الأنهار الأربعة في القرآن
صالح أبوبكر غير متصل
عضو مشارك
**

المشاركات: 11
الانضمام: Nov 2007
مشاركة: #4
الرد على: حكمة الأنهار الأربعة في القرآن
مختصر البحث _حكمة الأنهار الأربعة في القرآن
===========================
البحث يتكلم عن الأنهار الأربعة : أنهار ( الماء - اللبن - الخمر - العسل ) كصورة تعبيرية جمالية ، التي ركّز عليها البعض على انها نشاز مثل قول أحدهم قديماً :
" في وصف الجنة (فيها أنهارٌ من لبنٍ لم يتغيّر طعمه). وهو الحليب ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع. وذكر العسل ولا يطلب صرفاً، والزنجبيل وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفترش ولا يلبس وكذلك الاستبرق الغليظ من الدّيباج."
هذه الأنهار وردت في سورة محمد كالتالي :

" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ "

وردت هذه النعم الغذائية الأربعة هنا كنعم أخروية ، كما وردت كنعم دنيوية في قوله تعالى :

" وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "
و تتميز هذه النعم بدلالتها على القصد و التصميم المسبق من الله عز و جل في تسخير المخلوقات لخدمة الإنسان بأوضح شكل ممكن ، فلا يوجد في الأغذية التي يعدها الإنسان و يطبخها ما يضارع هذه الأغذية المعدة في هذه المصانع البيولوجية..

إن الله يمن على الإنسان في الدنيا بهذه النعم و يعده بما يماثلها في الآخرة اذا آمن و عمل صالحاً :
" وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " ، و المماثلة هنا تحتاج لتوضيح ، كما قال ابن عباس : "ليس في الجنة شئٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء" فما هو الاسم ؟
إنه روح الشئ و جوهره لا شكل المسمّى المحسوس الملموس ، كما قال الإمام الغزالي في كتابه "جواهر القرآن و درره" :
" ما من شيء في عالم الملك والشهادة إلا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنه هو في روحه ومعناه ، وليس هو هو في صورته وقالبه ، والمثال الجسماني من عالم الشهادة مندرج إلى المعنى الروحاني من ذلك العالم ، ولذلك كانت الدنيا منزلاً من منازل الطريق إلى الله ضرورياً في حق الانس ، اذ كما يستحيل الوصول الى اللب الا من طريق القشر فيستحيل الترقي الى عالم الأرواح الا بمثال عالم الأجسام "

و ساق بعد قوله هذا عدة أمثلة أوضحها في تفسير ما نرمي إليه قوله في "القلم" :

" فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها اذا ذكرت حد القلم هو : الذي يكتب به ، فان كان في الوجود شيء يتسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب ، فأخلق به أن يكون هو القلم ، فان الله تعالى علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، وهذا القلم روحاني اذ وجد فيه روح القلم وحقيقته ، ولم يعوزه الا قالبه وصورته ، وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم ، ولذلك لا يوجد في حده الحقيقي ، ولكل شيء حد وحقيقة هي روحه ، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا ، وفتحت لك أبواب الملكوت ، وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا"

وختم كلامه بهذه الجملة التي تختصر و تبين منهجه في تأويل هذه الأمور :

" وبالجملة فاعلم ان كل ما يحتمله فهمك فان القرآن يلقيه اليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب يحتاج الى التعبير ، واعلم أن التأويل يجري مجرى التعبير "
أي تعبير الرؤيا ، و ما ذكره هنا هو لب و محصلة كلامه في هذا الموضوع ، فيبدو لنا عند قراءة ذلك الكتاب إن الإمام أبوحامد الغزالي يعامل الرؤيا "كحجر رشيد" في مجال التأويل ....

و هذه الأشربة الأربعة تتكرر باستمرار كرموز لمعاني روحانية كما سنرى و خصوصاً في حادثة الإسراء مع تأويل جبريل عليه السلام لها، و يمكن أن نلقي ضوءاً على هذا التشابه بين الأشربة الأربعة في الإسراء و الأنهار الأربعة في الجنة ، فيتبين لنا معنى الإعجاز الحقيقي في حادثة الإسراء حيث صوّرت لنا المعاني الروحانية في ثوب حسّي من الكشف ، ففي الحوار الذي جرى في حادثة الإسراء بين الرسول صلى الله عليه وسلم و جبريل عليه السلام ، يخيره بين الخمر و الماء و اللبن و العسل، فيختار الرسول اللبن فقيل له :

"إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته "

و معلوم إن تقديم ذلك الملاك الكريم للخمر اذا فهمناه بشكل ظاهري فإنه يبدو سخيفاً مهما قدمنا من تبريرات (مثل قولهم أنه من خمر الجنة الذي لا يسكر) ، و حتى عند النظر الى الصور الأخرى في حادثة الإسراء حيث تتمثل الدنيا على شكل امرأة عجوز فإن الأمر يبدو مستحيلاً عقلاً فالدنيا شئ معنوي لا يمكن أن يكون محسوساً ، اذاَ فهي صورة مثلها الله عزوجل بطريق الكشف لتعليمه و تعليم أمته علماً روحانياً ، أي أن الله كشف له عن أمور غيبية و معاني روحانية في صور محسوسة كما يحدث في حالة الرؤيا ، و حصول تلك الصور البديعية بالكشف له عليه الصلاة و السلام هو الإعجاز بذاته ، و ليس الإعجاز في طيرانه بجسده الى السموات المادية ، فالإسراء هو رحلة في السموات الروحانية أعده لها جبريل عليه السلام بغسل قلبه في طست ملئ حكمة و إيماناً (كما ورد في تفاصيل الإسراء) و هذا له معنىً غير الصورة الحسية لعملية جراحية فالإيمان شئ معنوي لا يوضع في طست ، و معلوم إنه في هذا العصر استطاعت الشعوب الغربية "الغير إسلامية" الطيران و التحليق خارج الكرة الأرضية و ربما تصل في مستقبل غير بعيد الى كواكب أخرى فهل سنعتير هذا اعجازاً ذو مزية دينية لهم ؟.


فتفاصيل الإسراء و المعراج تكاد تنطق و تصرح بأنها كشف غيبي لأمر غير محسوس ، و هي تشكل أرضية مناسبة لرؤية مغايرة في ما يماثلها من تفاصيل مباهج الجنة و عذاب الآخرة بطريقة أخرى غير الطريقة الحرفية ، فالله الذي كرم رسوله بالإسراء هو الذي وعد بتلك الامور في الآخرة . و من غير المستبعد أن يكون هذا الأمر أحد الحكم المقصودة في هذه الرحلة الإعجازية .

أولاً : -----------------الخمــــــــــــــــــــــر ------------------------------

و لنبدأ بتاويل الخمر من حيث روحه و حقيقته لا قالبه و صورته (على حد تعبير الغزالي ) ، الخمر هنا هو خمر المحبة الإلهية كرمز معروف في التصوف و المسيحية ، و لكن بعض العلماء يقولون : من رأى في المنام أنه يشرب خمراً يخشى عليه من الغي ، و ذلك ربما اعتماداً على قول جبريل عليه السلام :" أما إنك لو أخذت الخمرغوت أمتك "
و الغواية هنا الضلالة ، ولكن في نفس الوقت فإن الخمر المقدمة من قبل هذا الملك الكريم ترمز الى أمر محمود و ليس بمذموم هنا و إلا فإن المشهد برمته يصبح غريباً مستنكراً كما قلنا ، و إنما الضلالة فيه ناتجة عن الإكثار و التوسع الى درجة الإنفلات من حدود و ضوابط الشرع الذي يرمز إليه كما جاء في سورة الحديد :
" ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ".
فالرهبانية المسيحية و التصوف الإسلامي يعتمدان على الحب الإلهي و كلاهما يشكل الخمر رمز مهم ، فهذه الخمر هي التي سُقي منها النصارى كما سُقي منها المتصوفة في الإسلام ، و في غمرة الوجد ينطق الصوفي بما لا يصحّ للصاحي أن ينطق به ، حيث يسقط الحرج عنه كما بسقط الحرج عن المخمور ويسقط التكليف عن المجنون ، لذلك نجد هذه النزعات الروحانية المتطرفة في الصوفية تؤدي عند المبالغة فيها الى الإنحلال من الشريعة كما حدث في المسيحية رغم ما جعلت في قلوبهم من رأفة و رحمة .

و من المعروف إن المبالغة في الإعتماد على نزعة الحب و الرجاء هي مظنة للتساهل في الشرائع ( بالزيادة أو بالنقصان ) بخلاف المبالغة في نزعة الخوف و الرهبة فإنها تؤدي للعكس ، و الإسلام كدين وسطية يأخذ بالتوازن بين الطرفين و شعاره في هذا المجال : " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" و أصدق من يمثلون هذا التوجه المتصوفة الذين عرفوا بالجمع بين الحقيقة و الشريعة .

ثانياً : ----------------------المـــــــاء ---------------------

أما الماء فإن جبريل عليه السلام يقول : " لو شربت الماء لغرقت أمتك" ، و لا شك إن الكثير يستغرب من معنى الغرق هنا و يقارنه بالشرب و ليس الأمر كذلك ، فإننا إذا أخذنا حقيقة الغرق و روحه لا صورته و كما تدل عليه قرائن أخرى من الكتاب و السنة نجد تاويله "غضب الله" و خصوصاً عند اقترانه بقيام الحجة بالتبليغ و الآيات على قوم عتوا و تجبروا مع ما جاءهم من العلم و البينات و الوحي (الذي يقابله الماء ) و ما نزل فيهم من الرسل .


فالماء من حيث حقيقته ما هو إلا مادة نزلت من السماء فكانت سبباً لإحياء الأرض و البلاد و العباد ، و هو ما ينطبق على الوحي و العلم و الهدى الذي جاءت به الرسل و الأنبياء ، و لكن الماء ينزل من السماء لرحمة أو لعذاب ، فإذا نزل بقدر ما تتقبله الأرض و تحمله الاودية كان رحمةً و اذا نزل فضاقت به الوديان أو كانت الأرض صلبةً قاسيةً فلا هي قبلته و لا هي حملته إلى غيرها من الوديان فالنتيجة الحتمية هي الطوفان ، و هذا هو المقصود من "لغرقت أمتك" ، و هذه هي حقيقة و روح الماء التي استعملت في عدة صور قرآنية و دأب العلماء على تسميتها بـ"المثل المائي" و فيها يعبر الماء عن الوحي ، و ما يرافقه من وعيد بالرعد و البرق و ما ينتج عنه من حياة تتمثل في أشجار الصدقة و الذكر ، و مثله ما ورد في السنة من أن غراس الجنة التسبيح و الذكر و كذل عبر بالوديانو الأرض التي تستقبل المطر بالقلوب حسب التفسير المعروف لآية : "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا " و ورد أن تصريف العلم بتعليمه و العمل به و بتدبره و هذا ما شرحه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله « مثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة قبلتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعَان لا تمسك ماء ولا نتنبت كلأ ، مثلَ منْ فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به » .


و ما صوره الرسول عليه الصلاة و السلام هنا عن أمة الإسلام ينطبق على اليهود من حيث الصورة و يختلف من حيث النتيجة فكثرة الأنبياء و الأسفار المنزلة عليهم رغم انها رحمة فإنها لم تصادف عندهم تربة نقية تتقبل الماء و لا تنقله الى غيرها ، و كما يتحول الغيث الى طوفان مغرق ان لم تتحمله الأرض الصخرية و ضاقت به الوديان فلم تحمله الى ارض تتقبله ، فكذلك القلوب التي لا تتقبل هذا الوحي فلا تعمل به و لا يثمر فيها أعمالاً صالحة و لا تعلمه لغيرها و التي هي قلوب "أقسى من الحجارة" حسب التعبير القرآني : "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً " هكذا قلوب مآلها الغرق الروحاني في غضب الله كما تغرق الأرض الصخرية ، فقوله :"لو شربت الماء لغرقت أمتك" و في رواية إنه شرب قليلاً فقال له:" لو ارتويت …." يعني بها إن قلوبهم قد تقسو و لا تتقبل ماء الوحي و لا تتشربه في جذر قلوبها و يصير علماؤهم "كالحمار يحمل الأسفار على ظهره" و ليس في عقله منها شئ ، و تقسو و تستعصي قلوبهم على هذا الوحي فلا يجاوز حناجرهم ، و يخرجون من الدين بقلوبهم مع بقائهم فيه ظاهرياً بأجسادهم ، فيغرقون في غضب الله و نقمته اذا لم تتداركهم عناية الله و رحمته ، و الله يقول :

"أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"


-----------تعقيب بشأن الماء و الخمر -----------------------------------------------------------
و لكي تكتمل الصورة فالماء و الخمر تعبير عن منهج اليهود و النصارى الذي بالغوا فيه و ما رعوه حق رعايته فأصبحوا داخلين في معنى "المغضوب عليهم و الضالين"، و هذه الآية من سورة الفاتحة تستثني منهج اليهود و النصارى من معنى الإستقامة التي يجب أن تكون عليها هذه الأمة ، فمنهجهما كامن في مبالغة و مجاوزة للحد في الأخذ بالحقيقة أو الشريعة اللذين رُمز لهما بالخمر أو الماء كل ٌ على حساب الآخر ، و لكن بما إن هذه المحاذير من هذه التجاوزات منتفية في الآخرة فإن ما ورد في الإسراء من تحذير بخصوص الخمر و الماء غير وارد في أنهار الجنة ، و ذلك مثل ما ورد من تفصيل بين الخمر في الآخرة و الخمر في الدنيا ، كقوله عليه الصلاة و السلام :" من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة " و قوله: " من سره أن يسقيه الله عز وجل من الخمر في الآخرة فليتركه في الدنيا"، فالغارق في خمر المحبة الإلهية في الآخرة لا يخشى عليه من تجاوز الشرع و الناهل من بحر ماء المخاطبات الإلهية يحيا بها قلبه و سمعه و بصره و هو في أمان من الغرق الروحاني في غضب الله بل أبعد ما يكون إليه حيث يحل عليه رضوان الله فلا يسخط عليه أبداً كما ورد في الحديث .
-------------------------------------------------------------------------------------------------

ثالثاً ------------------اللبــــــــــــــــــــــــن--------------------

أما اللبن فالظاهر من الحديث دلالته على الفطرة ، (حين أخذ قدح اللبن قال له جبريل : " الحمد لله الذي هداك للفطرة ") ، فالإسلام دين الفطرة و "كل مولود يولد على الفطرة " و كما إن المولود يستهل حياته بفترة الرضاعة المعتمدة على اللبن كغذاء وحيد كافٍ شافٍ ، فهو الغذاء الذي (فُطر) الإنسان عليه غريزياً عقب الولادة تماماً كما فُطر كل مولود على دين الإسلام ، لذلك نجد أن تأويل اللبن في المنام الفطرة كما في الحديث: " اللبن في المنام فطرة " و كذلك : " من رأى أنه شرب لبناً فهو الفطرة " .


و ارتباط هذا الغذاء بعدة دلالات في التراث الإسلامي قد يفسر بعضها كون الإسلام نشأ في مجتمع رعوي أساساً و لكن ذلك أيضاً لا ينفي المعنى الروحاني الإيماني و لا يلغيه ، و لنسق هنا بعض الأحاديث لتبيين دلالاتها على ضؤ هذا التأويل و لنبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث لا ترد الوسائد والدهن واللبن " و هنا يجب أن نلاحظ أن ما ورد في حديث تقديم جبريل اللبن له و اختياره له عليه السلام علاقة واضحة بهذا الحديث إن صح ،كما جاء في السنن ما يدل على خصائص الكمال في اللبن و طلب الإستزادة منه :" من أطعمه الله طعاما فليقل‏:‏ اللهم بارك لنا فيه ‏، ‏ وارزقنا خيرا منه‏ ‏، ومن سقاه الله لبنا فليقل‏:‏ اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ‏، فإني لا أعلم ما يجزيء من الطعام والشراب إلا اللبن‏ " أي أن الإستزادة منه خير و بركة و يفضل غيره من الأشربة لأنه غذاء كافٍ يغني الإنسان في فترة رضاعته عن أي طعام آخر ، و حتى لو كان هناك طعام آخر يتفوق عليه في خاصية أو أخرى فإنه يظل متميزاً بالكمال و كذلك الإسلام يغني عن كل ما ورثه أهل الكتاب من أنبيائهم من علم ، فالبساطة و الكمال صفتان من صفات الفطرة تتوفران في الغذاء الروحي الذي أتى به الإسلام ، فصفات الأنبياء جميعاً اجتمعت فيه عليه السلام و هذا أحد معاني الخاتمية لخير الرسل ، و أيضاً اجتمع علم الكتب السابقة في القرآن . و أما كونه "سائغاً" فهذا يتناسب مع كونه معدٌّ أصلاً للرضيع بجسده البشري الضعيف و كذلك الإسلام يتميز بيسره و مراعاته لحالات الضعف البشري المختلفة كما هو معلوم .



رابعـــاً -------------------العســـــــــل -----------------


أما الشراب الرابع و هو العسل فلا تتحد المصادر التي نستخدمها في هذا البحث على رؤية واضحة تجعلنا نجزم بمدلولها ، لذلك اتخذت في تأويلها منحاً خاصاً لا أستطيع وضعه ضمن البديهيات ، و أذكره هنا مع قليل من التحفظ .


فالعسل على ما يبدو من خلال سبر غور بعض النصوص أنه يعبر عن الحكمة التي أودعها الله في قلوب أوليائه ، الحكمة التي هي "شفاء للصدور" من حيث إنها تزيل الوساوس و الشكوك و بالتالي توصل إلى اليقين ، و هؤلاء العارفين بالله قد يستمدون حكمتهم من التفكر في آيات الله في القرآن أو من التفكر في آيات الله في الطبيعة أو في أحوال الناس أو من الإبتلاءات و المحن ، فهذه كلها مصادر لهذا العسل الروحاني و ما ذُكر في القرآن عن العسل المادي و النحل في الآيات التي ذكرناها سابقاً من سورة النحل : " ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " يعبّر بصورة مكونة من النحل و العسل عن العارف بالله و سياحته الفكرية و الحكمة التي يشتقها من مصادرها بتوفيق و إلهام من الله ، و تشبيه المؤمن بالنحلة بهذا الشكل يتقارب مع ما ورد في الحديث "مَثَلُ بِلالٍ كَمَثَلِ نَحْلَةٍ غَدَتْ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ، ثُمَّ هُوَ حُلْوٌ كُلُّهُ" و كذلك :" مثل المؤمن كمثل النحلة تأكل طيبا وتضع طيباً ."
فالعسل شفاء للأبدان يقابل الحكمة التي هي شفاءٌ للصدور ، ولفظ الشفاء ورد في القرآن مقروناً بالقرآن أو العسل ، و هذا ما لاحظه المفسرون ففي الدر المنثور عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :" إن العسل فيه شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور" عنه أيضاً "عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن " و روي مرفوعاً الى النبي عليه الصلاة و السلام بنفس اللفظ . فالقرآن من حيث كونه حكمةٌ تشفي الصدور يشبّه بالعسل و من حيث كونه منزّلٌ من الله هدىً للبشرية فهو يشبّه بماء المطر .

-------خاتمـــــة -------------------------
و ينبغي لنا أن نستدرك في نهاية هذا المقال على أمر مهم و هو حتى و لو فرضنا ان هذه الأنهار الأربعة و غيرها من المباهج هي حقيقية المعنى و حسية فإن ابراز الحكمة فيها و التدبر و التأمل مأمور به شرعاً ، فكيف و الآية تتصدّر بـ : " مَثَلُ الْجَنَّةِ " أي أن هذه الآية بالذات يصدق عليها ضرب الأمثال و استعمال المجاز، مع التسليم دائماً بأن حقيقة أمور الآخرة من عذاب و نعيم لا يعلمها إلا الله و لا يمكننا تصوّرها بل نكتفي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر " .
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 11-15-2011, 02:30 PM بواسطة صالح أبوبكر.)
11-15-2011, 02:23 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
الرد على: حكمة الأنهار الأربعة في القرآن - بواسطة صالح أبوبكر - 11-15-2011, 02:23 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  إستفتاء من هو إله أهل المذاهب الأربعة وأمثالهم البخاري أم محمد عليه السلام مؤمن مصلح 3 1,477 03-26-2010, 12:16 AM
آخر رد: على نور الله
  لماذا صلاة أهل المذاهب الأربعة والشيعة وأمثالهم فيها شرك؟؟؟ مؤمن مصلح 8 3,973 03-14-2010, 11:19 AM
آخر رد: بوشاهين البحراني
  أي حكمة وأي منطق من وراء نسب الرضاعة في الإسلام؟ philalethist 45 9,160 03-12-2006, 12:24 PM
آخر رد: philalethist
  ذكاء و حكمة الرب فى العهد القديم اين هما فى العهد الجديد ؟ الزعيم رقم صفر 1 816 04-20-2005, 08:24 PM
آخر رد: الزعيم رقم صفر

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS