فساد الأدمغة /1 .

" صرنا نفتقد المفكر المستقل ، الذي هو أداة الحركة للأفكار و للتاريخ و عنوان الحقيقة و إبداع العقل البشري".

من البداية خصصت هذا الشريط للتعليق السريع على موضوعات طارئة ، بل و فكرت أن يكون مزيجا من الفصحى غير الفصيحة و العامية غير العمومية ، يعني ببساط شريط خفيف العبارة ثقيل المعنى قدر الإمكان .
اليوم سأضع مداخلة جديدة لا علاقة مباشرة لها بالأحداث الجارية ،و لكن موضوعها هو قراءة تلك الأحداث و فهمها ، ببساطة إزاي نقرأ ما نقرأه و لكن بعقل مدرب و سليم .
في كلية الهندسة حيث كنت طالبا حكى لنا أستاذ معروف وقتها بقسم الهندسة الكيميائية اسمه " د. محمد علي صالح " حكاية موحية تستحق التوقف ، القصة عن مصنع لإنتاج الصابون حدثت لديه مشاكل في إحدى الورديات ، مما أدى إلى خطأ في تحديد النسب للمواد المختلفة ، فكانت النتيجة طبخة فاسدة كريهة الرائحة لا تصلح للإستخدام . فكر المدير أن يسوق منتجه في الأرياف تحت اسم جذاب " صابون الذوق المفتخر " و هذا ماكان أما المهندس المسئول فطرده شر طرده . بعد أيام حضر الموزع و طالبه بتغيير الطلبيات كلها إلى النوع الممتاز الجديد " صابون الذوق المفتخر " لأن الناس أحبوه و أصبحوا يطلبونه و يرفضون النوع الأصلي " السليم " ، فما كان من المدير إلا ان أعاد المهندس المهمل إلى عمله و قام بترفيعه ليصبح مسئول الإنتاج ، و خصص المصنع كله لإنتاج النوع الفاسد أكثر منذ ذلك رفع سعره ، القصة حقيقية و معناها لا علاقة له بصناعة الصابون فقط بل بصناعة العقول أيضا . العقول الفاسدة مرتفعة التكلفة . من يعتقد أنني أتحدث عن الإعلام العربي او نادي الفكر فهو محق أيضا !.
شيئا مثل هذا يحدث في الفضاء العام و الإعلام خاصة . هناك تجريف مستمر للعقول اللامعة ، أكثر من ذلك للأفكار اللامعة لصالح القمامة التي أصبحت مطلوبة بل و مرتفعة القيمة و الثمن ، حتى أدمن الناس عليها . فالإعلام لم يعد أن تعلم الناس كيف يفكرون بل كيف يلغون عقولهم ، و الحوار ليس أن تحاور الآخر بل أن تكبته و تفرض رأيا ليس حتى هو رأيك أنت بل رأي الشيخ أو أبونا أو كاتب مرتزق تافه في صحيفة صفراء أو فضائية ديماجوجية ،و في النهاية أن يثبت التافهون لأنفسهم أن التفاهة فضيلة ،و أن الحكماء مدعون ليس أكثر فالحكمة أكذوبة و التفاهة للجميع .
في موضوع طرحته " تصدع العالم " كتبت أن المادة الإعلامية هي مادة دعائية لا تعكس سوى الثقل النسبي للجهات الممولة ، و أن الإعلام في البيئة العربية مادة ضحلة تعبر عن أشد الفئات جهلا و تعصبا و تعكس الأفكار و القيم التقليدة ،و أنه مع ثورة الإنترنت و الفضائيات زادت طبقة المزيفين و أنصاف المثقفين إلى أقصى حد ،و أن الكلمة الآن متاحة للجميع جدها و غثائها و علينا أن نميز بين هذا و ذاك كمحنة جديدة للبشرية . هذا كله صحيح و أطلب من وصل إلى هنا أن يعود للفقرات الأخيرة و يعيد قرائتها جيدا .
النتيجة هي أنه في وسط هذا الركام من بقايا كل شيء لم يعد لدينا شيء يستحق أن نعرفه ، و عندما نتابع الحوارات التي تتناول أحوال مجتمعاتنا العربية أو المحلية نشعر أن المتحاورين يتحدثون عن عوالم مختلفة و ليس عن عالم واحد نعيش فيه جميعا ، وهذا يعني أنه لا يتوفر لنا أي نموذج متفق عليه عن العالم الذي نتحدث عنه . هذا النموذج القياسي الذي نسترشد به في حكمنا على الأمور .. عن الصح و الغلط و الجميل و القبيح غير موجود نهائيا .. يعني مزيج من مأساة و فضيحة و جهل كله على بعض .
النتجة الأكثر قبحآ أننا صرنا نفتقد المفكر المستقل ، الذي هو أداة الحركة للأفكار و للتاريخ و عنوان الحقيقة و إبداع العقل البشري ، و حتى لو صادفنا أحدهم بشكل عرضي تماما فلن نتبينه ، لأننا أصبحنا نحكم على الآخرين بأدمغة فاسدة من عينة "الذوق المفتخر " . هذه الأدمغة الفاسدة ستمجد الفاسدين و المنخورين و التافهين كألقين أبطالا ، فهم من نفس معدنها " المنخفض القيمة " ، أما الكبار فهي لن تلحظهم أساسآ فالزواحف البشرية تتعارف ولكنها لا تنظر أعلى من الأحذية .
و نستكمل ربما اليوم أيضا .