بالنسبة لموضوع الإسلاموفوبيا ولا سيما في عالمنا العربي، أحيلكم إلى هذا المقال الدسم(من سلسلة مقالات للكاتب)، والذي وإن كان يتطرق بالتفصيل للحالة السورية فإنه ينسحب أيضاً على غيرها من حالات.
تحياتي
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=149870
سيناريو فوبيا الإسلاميين...كيف تصنع الوحش الذي تخشاه؟
بقلم:
إياد الجعفري
تعبيرات ومظاهر فوبيا الإسلاميين في سياق الأزمة السورية
تشكّل الخشية من الإسلاميين واحدة من الزوايا التي تقرأ أطراف معينة على أساسها الأزمة السورية، وتحدّد موقفها منها.
وإن كان النظام في دمشق، عبر منظريه والإعلاميين المدافعين عنه، يجدون في هذه الزاوية قيمةً مضافةً ثريّةً لتخويف أطراف محلية سورية وإقليمية ودولية من نتائج التغيير في سورية، فإن هذه القيمة فعلت فعلها بنسبة كبيرة.
فتخويف الأقليات الدينية –مسيحيون- والمذهبية –مسلمون من غير السنّة- في سورية وفي محيطها الإقليمي –تحديداً في العراق ولبنان-، وتخويف قوى دولية مثل روسيا، من تداعيات سيطرة إسلاميين متشددين على السلطة في سورية، كانت له نتائج فاعلة لصالح النظام.
ويمكن للمراقب المحلّي في سورية أن يرصد حالة حساسية عالية وخشية واضحة للعيان في أوساط بعض المسيحيين وبعض أبناء الأقليات مما يُوصف بأنه حالة "أسلمة" للحراك الاحتجاجي في سورية.
ويمكن للمتابع في وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنيت، وعبر حالة رصد موضوعية لما يكتب من جانب بعض أبناء هذه الأقليات، أن يدرك بأن التخويف من الإسلاميين مؤثّر نسبياً، وإن كان ذلك لا ينفي أن ناشطين فاعلين للغاية من المسيحيين ومن أبناء المذاهب الإسلامية من غير السنّة كان لهم السبق في النشاط الاحتجاجي في سورية، بل وفي قيادة بعض فعالياته....لكن الموضوعية تأبى إلا أن نعترف بأن الأقليات في سورية ككتل اجتماعية، لا كأفراد، تأخذ موقف الحذر، إن لم يكن في بعض الحالات، العداء، للحراك المناهض للنظام في سورية.
وبغض النظر عن مواقف المؤسسات الدينية المسيحية والخاصة بالطوائف المسلمة من غير السنّة في سورية، والتي اتخذت في معظمها موقفاً أقرب إلى النظام، أو فضّلت في بعضها الآخر الحياد الحذِر، فإن أبرز تعبير للخشية من الإسلام السياسي ظهر في تصريح أثار الكثير من الجدل للبطريرك الماروني بشارة الراعي في لبنان في مطلع الخريف المنصرم، حينما أبدى خشيته على مصير المسيحيين في سورية من تداعيات تغير نظام الحكم في دمشق.
وإن كان البطريرك الراعي ذاته أطلق لاحقاً تصريحات أخرى خفّف فيها من وطأة تصريحه المشار إليه، وأدان ممارسات النظام السوري، إلا أن التصريح المشار إليه لم يكن زلّة لسان، بقدر ما كان تعبيراً عن مخاوف جديّة وجدت لها تعبيرات أخرى في الكثير من التصريحات والمواقف لقوى محلية وإقليمية، نذكر منها في هذا السياق مخاوف أطلقتها قيادات شيعية في العراق بخصوص نتائج صعود تيار إسلامي إلى سدة الحكم في سورية، وكان تصريح سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، الخاص بخشية روسيا من قيام "نظام سنّي متطرف" في سورية، تعبيراً آخر عن بعدٍ دوليٍّ لتلك المخاوف.
تداعيات فوبيا الإسلاميين على تطور الأزمة السورية
كانت من أبرز تداعيات فوبيا الإسلاميين على تطور الأزمة السورية، كما سبق وأشرنا، وقوف جزء كبير من المسيحيين والمسلمين من غير السنّة إما على جانب العداء للحراك المناوئ للنظام، أو على جانب الحياد.
لكن الأهم من ذلك أن حالة الفوبيا هذه من الإسلاميين كانت واحدة من العوامل التي عزّزت تحالفاً إقليمياً داعماً للنظام يشمل قوى في العراق ولبنان، كما أنها كانت إحدى ذرائع دعم روسيا للنظام السوري "العلماني"، مع إشارة بعض مسؤوليها إلى خشيتهم من طبيعة المعارضة السورية التي يغلب عليها التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون)، كما كان لذلك بعض الأثر الذي دفع أطراف غربية إلى التردد حيال طبيعة المعارضة السورية، ومصير الأقليات في سورية، في حال دعمها للوصول إلى السلطة.
بعد هذه المقدمة يمكن لنا الآن أن نطرح التساؤل التالي: هل المحذرين من الإسلام السياسي ومصير الأقليات في سورية يملكون أسباب موضوعية لهذه الخشية؟
ظاهرة التديّن وتسييس الدين...ظاهرة عالمية
قد تكون أولى الدوافع المؤسسة لهذه الخشيّة من الإسلام السياسي نابعة عن فكرة مغلوطة سائدة في أوساط الكثير من النخب الفكرية والأكاديمية العربية منها والغربية، وحتى في أوساط العامة من الناس في العالم العربي، وحتى في المجتمعات الأخرى غير العربية، مفادها أن المجتمعات العربية في معظمها متشددة دينياً.
وقد تحدّث الكثير من الأكاديميين الغربيين عن صعود حالة التديّن والإسلام السياسي شعبياً في العقود الثلاثة الأخيرة، في العالم العربي، متجاهلين عن عَمد حقيقة يقرّها أقرانٌ لهم في الغرب، أن ظاهرة عودة التديّن، وتسييس الديّن، في العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخنا المعاصر، هي ظاهرة عالمية، وأن المجتمعات العربية لا تشذ في ذلك عن باقي المجتمعات الإنسانية إلا ربما في شكل هذا التديّن، وبروز الطقوس والعبادات إلى الواجهة في مجتمعاتنا مقارنةً بالمجتمعات الأخرى التي يكون التديّن فيها، في حالات، أقل طقسيّة.
وإن كنا لسنا في سياق مناقشة هذه الظاهرة، ظاهرة التديّن العالمية، وأسبابها وأشكالها، فإنه كان لا بد لنا من أن نعرّج على هذه النقطة لتوضيح أن حالة التديّن الظاهرة في مجتمعاتنا ليست حالة شاذة عن باقي المجتمعات الأخرى، كما أنها ليست، وهو الأهم، ظاهرة يمكن استئصالها أو محاربتها فكريّاً أو التضييق عليها بطرق أمنيّة، لأن لذلك نتائج شديدة الخطورة على استقرار مجتمعاتنا وسلمها الأهلي.
وفي هذا الإطار يمكن للمهتمين أن يراجعوا كتاباً مثيراً للاهتمام للمفكر اللبناني جورج قرم بعنوان "المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين" عام 2006، يوضّح فيه الكاتب بجلاء مظاهر عودة التديّن وصعود القوى السياسية ذات الخلفية الدينية والعَقَديّة في الغرب المسيحي في الوقت الراهن.
فاعلية الأصوليات سياسياً...ظاهرة عالمية
أبعد مما سبق، يوضّح الباحث فواز جرجس في مؤلّف بعنوان "الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي في العالم العربي" من إصدار مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية عام 2002، أن أهم الحركات الأصولية –الدينية- المؤثّرة هي تلك الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية والهند وليس في المنطقة العربية، وأن الأصوليات المسيحية واليهودية والهندوسية أكثر انتشاراً وتأثيراً وأهمية من حيث الدور الذي تؤديه في مجتمعاتها من الأصولية الإسلامية، على عكس ما يظن أو يروّج الكثير من الباحثين العرب والغربيين.
ما الفرق بين واقع الأصوليات في العالم...وواقع الأصولية الإسلامية في العالم العربي؟
الفرق في تعامل الأنظمة السياسية تحديداً، ففي حين وجدت الأصوليات في معظم دول العالم، على اختلاف خلفياتها الدينية، فرصاً متاحة للتعبير عن نفسها سياسياً بأساليب سلميّة مشروعة وقانونية، لقيّت معظم قوى الإسلام السياسي على اختلاف أصنافها، في معظم الحالات العربية، شتى أصناف التهميش والإقصاء، وفي حالات أخرى التنكيل والاجتثاث بالقوّة والعنف.
لماذا تسود قناعة بأن العنف سِمة لحركات الإسلام السياسي؟
يعود ذلك لجملة من الأسباب نابعة في معظمها من أداء الأنظمة وتعاملها مع هذه الحركات، ومن ذلك:
1- وجود حالة من التعتيم المقصود إعلامياً على تنوع الحركات الإسلامية، مقابل تركيز الأضواء على الحركات المتطرفة وتصويرها على أنها النموذج لباقي الحركات الإسلامية، وأنها المستقبل القادم والبديل المحتمل في حال سقوط الأنظمة في العالم العربي.
وفي هذا السياق يمكن للمطلع أن يميّز بين عدّة أنواع من حركات الإسلام السياسي، لم تشكّل الحركات المتطرفة منها إلا جزءاً يسيراً في معظم المراحل التاريخية المعاصرة.
2- تطرف النظم السياسية العربية باستخدام القوة المفرطة والعنف غير المبرر ضد المخالفين السياسيين وخاصة منهم الإسلاميين، وهي حالة لم تشهدها المجتمعات الأخرى، مما أفرز ظروف موضوعية زادت من حالات التطرف وولّدت المزيد من الحركات الإسلامية ذات الطابع الإقصائي.
3- إنكار الممسكين بزمام السلطة في معظم الدول العربية، والكثير من رموز النخب العربية، حقّ الإسلاميين في طرح مشروعهم السياسي أسوةً بنظرائهم من ليبراليين وشيوعيين واشتراكيين وقوميين، وهو نتيجة قناعة هذه النخب الحاكمة أن تلك التيارات الإسلامية تتمتّع بشعبية كبيرة في مجتمعاتها وأن أية عملية ديمقراطية سليمة ستأتي بها إلى السلطة وتفقد تلك النخب مراكزها ومصالحها التي تمتّع بها بصورة مطلقة، وهي حالة تعاكس ما هو قائم في معظم المجتمعات الأخرى حيث تحظى القوى السياسية ذات الخلفية الدينية بحقوق مشاركة محفوظة في الحياة السياسية بصورة مباشرة كأحزاب، أو بصورة غير مباشرة كجماعات ضغط، وأبرز مثال على الحالة الأخيرة ما هو قائم في الولايات المتحدة الأمريكية.
الإخوان المسلمون...بين حقبتين
قد يكون نموذج الإخوان المسلمين، أبرز النماذج التاريخية التي تؤكد صحة النظرية القائلة أن تطرف الأنظمة، هو الذي يصنع تطرف القوى الإسلامية.
فإن راجعنا تاريخ الأخوان المسلمين بصورة موضوعية وحيادية- ويمكن في هذا السياق مراجعة موسوعة الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية من إعداد نخبة من الباحثين في المركز العربي للدراسات الاستراتيجية في دمشق مطلع العقد المنصرم- يمكن لنا أن نلحظ أن جماعة الأخوان المسلمين في مصر في حقبة الحياة الديمقراطية ما قبل ثورة 23 تموز عام 1952 كانت كقريناتها من القوى والأحزاب السياسية كحزب الوفد ومصر الفتاة والأحرار الدستوريين، تلتزم قواعد اللعبة السياسية، وتنتظم وفق المؤسسات الدستورية، وتخضع للقوانين الساريّة على الجميع.
ومن يراجع تاريخ الجماعة في تلك الفترة –فترة حسن البنا مؤسس الجماعة- يلحظ بوضوح أن الشخصيات التي كانت تنادي بتغيير الوضع القائم بالقوّة في أوساط الجماعة سرعان ما تنبذ أو يضيّق عليها، وأن الاعتدال والالتزام بقواعد اللعبة السياسية كانت سمّة الجماعة طوال تلك الحقبة.
كما أن مراجعة تاريخ الجماعة حينها يوضّح لنا أنها كانت ابنة مجتمعها، ونتاج واقعها، فحينما عرفت معظم القوى السياسية المصرية أجهزة سريّة تورّط بعضها في اغتيالات متبادلة –حزب الوفد كان أولها-، بدأت الجماعة تسير في ذات الاتجاه، وبعدما أسّست معظم الأحزاب المصرية فرق كشافة واستعراض –بدأ ذلك على يد حزبي الوفد ومصر الفتاة- فعلت الجماعة ذات الأمر.
كانت الجماعة في تلك الحقبة تتحالف مع قوى سياسية مختلفة، وتتنافر مع أخرى، وتعود لتتحالف مع قوى مختلفة، لتتنافر مع أخرى، في سياق المشهد السياسي المصري الذي كان قائماً يومها، ولم تكن الجماعة حالة "نشاذ" عن باقي ما هو قائم، ولم تكن أوساطها تنحو إلى العنف، حتى أن حسن البنا ذاته أدان في مرحلة من الثلاثينات قيام كشّافة حزب مصر الفتاة بتحطيم الحانات باعتبار ذلك من قبيل الخروج على القانون.
وفي سورية لم يكن المشهد مختلفاً للجماعة عنه في مصر في حقبة ما بين عامي 1946 -1958، بل كان مصطفى السباعي مراقب الأخوان في سورية حينها أكثر اعتدالاً من نظيره في مصر، إذ لم تنص الجماعة خلال طورها التأسيسي على تطبيق الشريعة صراحةً، مراعاةً لطبيعة مكونات المجتمع السوري، واقتربت في تطورها واندماجها في الوسط السياسي السوري حتى كادت تصبح شكلاً من أشكال الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وكان السباعي يدرك ذلك ويدفع باتجاهه، سعياً للتماشي مع البيئة السياسية السائدة في سورية حينها.
الإخوان المسلمون في حقبة الإقصاء والاستبداد
بدأت مشاكل الأخوان المسلمين في مصر بعد أن بدأت مساعي الملك فاروق في نهاية الأربعينات من القرن الماضي تقترب من غايتها المنشودة في إضعاف جميع القوى السياسية المؤثّرة في الشارع المصري وتحطيمها، بغية السيطرة التامة على المشهد في البلاد، وكان حزب الوفد قد نال نصيبه من مساعي الملك فانكفأ في حالة تراجع لشعبيته، وبقي الأخوان المسلمين الذين كانوا قد تحولوا إلى قوة مليونية صَعُب على الملك لجمها، فكانت حرب الاغتيالات التي تورّط فيها الجهاز السريّ للأخوان والذي تشير المصادر التاريخية إلى أنه خرج عن سيطرة البنا مؤسس الجماعة، واختتمت حرب الاغتيالات هذه باغتيال البنا ذاته على يد البوليس السريّ التابع للقصر.
لم يؤثّر ذلك في منهج الأخوان ولم ينتهجوا العنف، وبعد ثورة 23 تموز عام 1952 بدأت مرحلة جديدة في مصر سعى فيها الضباط الأحرار، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، لإحكام السيطرة على المشهد المصري، وبعد مساعٍ لشقّ جماعة الأخوان المسلمين لصالح عبد الناصر باءت بالفشل، حصل حادث محاولة اغتيال عبد الناصر الشهير في المنشيّة، والذي اتهم فيه الأخوان، واتخذه عبد الناصر ذريعة للقيام بحملة تاريخية من الاعتقالات والإعدامات لكبار الناشطين من الأخوان ومن الشيوعيين، وسجن وعذّب الآلاف من الأخوان، وعلى رأسهم مرشد الجماعة حينها حسن الهضيبي، وتكرر المشهد بصورة أكثر درامية في مطلع الستينات حينما لحظت السلطات المصرية مؤشرات لعودة نشاط الجماعة السريّ.
وتمخّض عن جيل السجون والمعذّبين فيها زمرة اعتمدت التطرف، كان رمزها سيد قطب في كتابه الشهير "معالم في الطريق"، وهو من أبرز سجناء الأخوان المسلمين ومعذبيهم في المعتقلات المصرية.
ومن عباءة سيد قطب خرجت لاحقاً كل الحركات المتطرفة الإسلامية، ومن أبرزها جماعة الجهاد المصرية والجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، في حقبة كانت سمتها استئثار الأنظمة السياسية العربية بالحكم وإقصاء كل منافسيها السياسيين وانتفاء الحياة السياسية الديمقراطية.
وفي سورية لا يختلف المشهد كثيراً، إذ لم يعرف تاريخ سورية سجلاً لعنف الأخوان المسلمين إلا بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في 8 آذار عام 1963، حيث استبدّ بالسلطة ونكّل بشركائه من الناصريين، ومن ثم قرّر فرض نموذجه على الحياة السياسية السورية، بفكره القومي الاشتراكي، دون أي استعداد لأي حوار أو مشاركة مع قوى سياسية أخرى، فكانت أن بدأت أولى فصول المواجهة بين الأخوان المسلمين والبعث في عصيان حماه الشهير عام 1964، وتتالت هذه الفصول لتكون في أكثر صورها دموية في ثمانينات القرن الماضي.
ورغم الفصول الدامية للصراع بين البعث والأخوان في سورية في سبعينات القرن الماضي، تُورد أدبيات الأخوان على لسان مرشدهم الأسبق سعيد حوّى مبادئ سياسية تقرّها الجماعة في أية حياة سياسية سليمة في سورية، من أبرزها المساواة بين جميع المواطنين على اختلاف الدين والعرق، وحرية الاجتماع والعمل السياسي ومؤسسات الأقليات والمجتمع المدني، وأن تكون سلطة القانون أعلى سلطة في البلاد...وأن تحافظ الدولة على حرية التعبير سواء الفردية أو العامة. وفي هذا السياق يظهر حوّى حساسية خاصة ودعماً قوياً للمساواة في الحقوق بين الأقليات السورية والأغلبية، ويدعو إلى التمثيل العددي لكل طائفة، وأن تكون لكل منها محاكمها الدينية دون تدخل الدولة أو الطوائف الأخرى.
معادلة الاعتدال والتطرف في الحركات الإسلامية
تجربة الأخوان المسلمين في مصر وسورية المسرودة بإيجاز آنفاً، لا تختلف عن قرائنها في الجزائر أو في تونس كثيراً إلا في التفاصيل والتطورات، لكن جميع هذه التجارب تولّد معادلة واحدة تحكم حالة الاعتدال والتطرف في حركات الإسلام السياسي، مفادها أنه حينما تكون الحياة السياسية سليمة والمشاركة السياسية متاحة لجميع الأطراف دون إقصاء لأحد، ووفق قواعد لعبة متعارف عليها ومقنّنة، ينتظم الإسلام السياسي في هذه الحياة السياسية وفق طبائعها ويتلائم مع مشاهدها ليكون واحداً من اللاعبين في المشهد السياسي لا أكثر، وحينما يسود الإقصاء والاستبداد والتنكيل بأي حراك سياسي لا ترضى عنه السلطة، تكون النتيجة خروج حركات متطرفة من عباءة القوى الإسلامية المعتدلة التي تكون في طور التهميش والإقصاء، مما يولّد صدامات سياسية ومجتمعية تهدد استقرار المجتمعات العربية وسلمها الأهلي.
استبداد الأنظمة يصنع التطرّف
وفي توضيح هام يُجمع عليه معظم المختصين في علم السياسة، يشير فواز جرجس في كتاب "الحركات الإسلامية والاستقرار السياسي في العالم العربي" إلى أنه بينما تولّد النظم الليبرالية معارضة ديمقراطية سليمة تعتمد تداول السلطة، فإن النظم السلطوية أو الاستبدادية التي تسدّ منافذ التغيير السياسي المشروعة، تدفع بالمعارضة إلى العمل السريّ والتخطيط للاستيلاء على السلطة مستخدمة الأساليب نفسها والآليات غير الديمقراطية التي مورست ضدها لقمعها وحملها على الانكفاء عن المسرح السياسي.
المعارضة هي الوجه الآخر للنظم السياسية القائمة، حيث تتعلّم أساليبها وتتبنى أطرها وآلياتها وسلوكها العام.
خلاصات في الأزمة السورية
اليوم، وفي ظل الأزمة السورية الراهنة، يروّج النظام ومنظروه، ضمن ما يروجوا، إلى أن الحل الأمني – العسكري للقضاء على الحراك الاحتجاجي "المأسلم" في سورية، هو حبل النجاة الأبرز لإنقاذ الأقليّات من كارثة سيطرة الإسلاميين على السلطة في البلاد...لكن النظام فعلياً عبر الحل الأمني – العسكري يصنع –في الأغلب- الوحش الذي يخيفه ويخيف الأقليات، فحينما تعتمد الإقصاء والتنكيل، فإن عليك أن تدرك أنه في حال انقلاب موازين القوى فستنال الإقصاء والتنكيل.
إن دققنا في احتمالات ما سيؤول إليه الحل الأمني – العسكري المعتمد من النظام السوري في صراعه مع حراك سياسي "مأسلم" -كما يدعي-، فإننا أمام ثلاث احتمالات:
1- الأول، وهو أضعفها، تكرّر سيناريو الثمانينات بأن ينجح النظام في إخماد هذا الحراك بالقوّة، بخسائر بشرية هائلة، مع تعميم مجزرة حماه 1982 على معظم المناطق السورية، وحينها يمكن لأي عاقل أن يتصور مقدار الشرخ الأهلي بين السوريين واحتمال تفجّره في أي لحظة مستقبلية تتغيّر فيها موازين القوى، وتعلو حينها أصوات القصاص.
وإن كان هذا الاحتمال أضعف الاحتمالات، ذلك أن مؤشرات قدرة النظام على إخماد هذا الحراك بالقوّة ضعيفة للغاية، إلى جانب اختلاف الظروف الموضوعية بين الثمانينات واليوم، من حيث تأثير الإعلام، وأثر المشهد الديمقراطي الصاعد في معظم الدول العربية، وتوازنات القوى الإقليمية – الدولية التي لا يُعتقد أنها ستخدم النظام في حال حصول مجازر كبيرة.
2- الثاني، أن يستمر الصراع الدامي بين النظام وبين مناوئيه، وأن يتفاقم بصورة دراماتيكية، وسط تأييد أطراف محلية سورية للحل الأمني – العسكري بحجّة حماية الأقليّات، ومن ثم تنقلب الكفّة لصالح مناوئي النظام، الذين لقُوا حالات قاسية من التنكيل الدامي بهم، وحينها سيصعب ضبط رغبات القصاص أيضاً، بحكم أن التنكيل بهؤلاء تتم تحت يافطة حماية الأقليّات.
3- الثالث، أن ينصاع النظام، وأن ينصحه الناصحون المؤثرون، وخاصة منهم من أبناء الأقليّات، علناً اليوم وليس ضمناً، أن ينصاع باتجاه تسوية سلمية للأزمة قبل أن يفقد قدراته على الأرض، وأن تكفل هذه التسوية، قبل فوات الأوان، أمن ومصالح الأقليّات، برعاية إقليمية – دوليّة، تنقذ ما بقي من سلم أهلي في سورية، وتحفظ للسوريين كيانهم المشترك.
وفي النهاية
يمكن القول بأن التخويف من خطر الإسلاميين، وتبرير استخدام العنف المفرط ضدهم، هو فعلياً صناعة للوحش الذي تخوّف منه، فالتطرف الإسلامي نتاج موضوعي لظروف القهر والإقصاء والتنكيل، وليس حالة فريدة من نوعها عالمياً، ويمكن لأصحاب العقل الموضوعي أن يبحثوا في التاريخ ليكتشفوا بأنها معادلة حتميّة، أن الاعتدال يولّد الاعتدال، وأن العنف والإقصاء، يولّد العنف والإقصّاء.