نأتي الآن لنشأة الجيش السوري الحر، وقبل ذلك بالطبع لا بد من التطرق سريعاً لحيثيات هذا النشوء وأطرافه من خلال عرض لأحداث الثورة السورية.
1- مقدمة لا بد منها:
الثورة السورية إذاً أطلقها شباب ضاق ذراعاً بوضع غير محتمل، متسلحاً بالأمل الذي أججه الربيع العربي، بعد أن عانت الأجيال السابقة من الخوف والرعب وخصوصاً اليأس من إمكانية التغيير.
بدأت الثورة بمظاهرات تصاعدية من ناحية الشعارات والأعداد، ولقد بدأت عفوية تلقائية كعفوية وتلقائية الشباب وصارت تنتظم شيئاً فشيئاً.
النظام للصراحة ساعد كثيراً في تأجيج الثورة في عنجهية القوة التي يتميز بها، فهو لم يكن يحتمل ولا يتصور أن يثور عليه أحد، ولقد تبدى ذلك جلياً في حديث لبشار الأسد مع صحيفة أجنبية قبل شهر تقريباً من اشتعال الثورة السورية، حيث صرح بأن التغيير والإصلاح غير مستعجل الآن، وربما يبدأ بعد جيل أو جيلين.
كذلك فلقد تفاجأ النظام في المكان، فبينما كان مستعداً جيداً لوأد الثورة لو اشتعلت في دمشق أو حلب وخصوصاً حلب (كانت التوقعات في البداية متجهة نحو حلب لثقلها السكاني وكونها طرفية وللمعارضة القوية الموجودة فيها ولتميزها ببيئة متدينة ومحافظة ولمعاناتها من النظام خلال أحداث الثمانينيات).
لكن الثورة اشتعلت في درعا، الريف الحوراني الملاصق لدمشق والذي كان يعتبر تاريخياً خزاناً للبعث ومؤيداً للنظام على طيلة الفترة السابقة ويتميز أيضاً بتجانسه السكاني وتركيبته العشائرية الموالية عموماً للنظام، وكذلك لضعف الإسلاميين تاريخياً في هذه البقعة الجغرافية.
فكيف اشتعلت الثورة في درعا وكيف فاجأت النظام؟
البعض يعتقد خطأ أن المحرك الأساسي للثورة هي أطفال درعا، وهذا غير صحيح تماماً، فقضية أطفال درعا كانت عاملاً مؤججاً، ولكن التخطيط للثورة وللخروج بالمظاهرات بدأ قبل الحادثة بأكثر من شهر، بل إن الشباب الذين خرجوا في 18 آذار/مارس 2011 لم يكن ببالهم الأطفال المعتقلين (الذين لم يكونوا خرجوا بعد من المعتقل ولم يرى أحد علامات التعذيب عليهم). بل إن ما قام به أطفال درعا كان من الإرهاصات وبسبب وجود بيئة شبابية تعمل للتظاهر والبدء في الحركة الإحتجاجية.
فلماذا درعا إذاً؟
في البداية ورغم موالاة حوران التاريخية للنظام، فلقد بقيت مهمشة تنموياً لعقود طويلة، وذلك ضمن سياسة التجهيل للبيئات الموالية التي كان يعتمدها النظام، ومع ذلك فلقد خرج العديد من المتعلمين من حوران، وكثير من أبناء حوران من متعلمين وغير متعلمين هاجروا للخارج ولا سيما دول الخليج، لذلك تشكلت طبقة متوسطة شبابية مرتاحة مادياً نوعاً ما منفتحة على التقنيات الحديثة، وفيها جزء جيد من العاطلين على العمل الذين يعيشون في بيئة تفتقد لأسس التنمية، وفيها الأفق مسدود، هكذا بيئة هي البيئة المثالية لنشوء ثورة.
انطلقت الثورة فتعامل معها النظام بعنف شديد، متوقعاً قدرته على إخمادها بسرعة من خلال العنف من ناحية ومن خلال الضغط على العشائر من ناحية أخرى، ولكن ما اعتقده قوة له ارتدت عليه بشكل معاكس.
فالقوة المفرطة التي تعامل بها مع الناس أججت العشائر ووجد بذلك الشباب معيناً لهم، تلك الروابط الريفية العميقة، ومفاهيم مثل الفزعة (وهو مفهوم النخوة والمؤازرة). فانتقلت الشرارة سريعاً من درعا المدينة إلى كل ريف حوران خلال أيام قليلة (عشرة أيام). وبات النظام يتخبط.
لماذا استخدم النظام الجيش سريعاً في حربه على حوران؟
في حقيقة الأمر فإن الثورة السلمية كانت كثيراً ما تستخدم في مواجهة الأمن سلاح الحجارة الجماعي (مثل ما حدث في انتفاضة فلسطين)، وهنا اكتشف الشباب ضعف الأمن وترهله، إذ تكمن قوة الأمن من خلال الاصطياد الفردي للمعارضين، من خلال الاعتقالات الليلية بعدد كبير من العناصر، ثم التعذيب والتغييب وما إلى ذلك، لكنهم أصبحوا عاجزين عن مواجهة شباب بأعداد كبيرة في الساحات، فاستطاع الشباب طردهم في الكثير من الأحيان من محيط المظاهرات بوهرة أعدادهم أو ببعض الحجارة.
ولأن النظام كان مصراً على إخماد الثورة بأي شكل فلقد قام بزج الجيش في قمع المظاهرات وذلك بعد شهر واحد فقط من الثورة، وهنا ومع هذا القمع المفرط والوحشي، بدأت المحافظات الأخرى ولا سيما الريفية منها بالقيام بسرعة، وكذلك كان لوسائل الاتصال الحديثة دوراً كبيراً في قدرة التنسيقيات المختلفة التي كانت في طور النشوء على التواصل مع بعضها البعض وتبادل الخبرات وتخفيف المناطق عن بعضها البعض أمنياً ... الخ
وعندما اشتعلت في حمص وهي المدينة الثالثة في سوريا أدركنا بأن الثورة بلغت مرحلة اللاعودة، وأنه صار مستحيلاً على النظام إعادة الوضع لما كان عليه، ولكنه لعنجهيته وعدم قدرته على احتمال هذه الحقيقة استمر في غيه بغباء منقطع النظير، واستمر في تجريبه المجرب.
في نهاية هذه المقدمو، أحب أن أتطرق لمسألة مهمة، وهو سؤال يسأله أو سأله البعض، ولا سيما بعضٌ من مثقفي التنظير الجالسين في أبراجهم العاجية (كأدونيس مثلاً)، لماذا انطلقت في الجوامع؟
فلا بد لنا أن نعرف بأنه لم يكن في سوريا أي هامش ولو بسيط للحرية لا في التعبير ولا في التنظيم ولا في النشاط، وفترة ربيع دمشق لم تدم أكثر من سنة(2001)، والقوى الوحيدة التي كانت تعمل على الأرض من المعارضة (إعلان دمشق) كانت ملاحقة ومهمشة وضعيفة جداً بسبب القمع والمحاصرة، فمثلاً بعد انتخابات المكتب التنفيذي للإعلان في 2006 قام النظام في اليوم التالي له باعتقال كل قياداته.
فلم يكن من مكان يسمح فيه بالتجمع في لحظة محددة إلا الجامع، وعلى فكرة فالكثير ممن كانوا يخرجون في المظاهرات كانوا من اللادينيين وغير المتدينيين، وكانوا يصلون فقط للتواجد في اللحظة المناسبة وكثير منهم كان ينتظر خارج الجامع دون أن يصلي.
كما أذكر كيف أقام الشباب في جانب المسجد العمري بدرعا بعد أيام من اندلاع الثورة ساحة يطلقون فيها العنان لصوت مرسيل خليفة وسميح شقير، ويجتمع فيها من طوائف وأطياف مختلفة (كمنتهى سلطان الأطرش، وسهير الأتاسي وغيرهم الكثير). فيا عيني على هيك سلفية وهابية تكفيرية
ولكن يبقى للتدين والدين دور كبير لاحقاً مع ازدياد العنف كما أشار نضال، في إعطاء الناس القدرة على الصبر مع المصائب والمخاطر التي تحيط بهم. فمجتمعنا بشكل عام متدين، ولكن تدينه بأغلبيته تدين معتدل. وسأعود لاحقاً للحديث عن العلاقة بين الثورة والدين.
2- نشأة الجيش الحر:
بعد عدة أشهر من القمع المكثف بدأت تنشأ خلايا للجيش الحر، وكان ذلك تقريباً بين الشهرين السادس والسابع للثورة. فلقد ضاق الناس ذرعاً بالموت مجاناً، ولا أحد أتى لنجدتهم ولا أفق للحل، فماذا يفعلون؟
بدأت تنتظم صفوف بعض المدنيين والمنشقين، وبدأوا بتشكيل كتائب مهمتها الأساسية التصدي للنظام في قمعه للثورة والمظاهرات.
ويجب أن نلاحظ هنا أنه لم يكن هناك تجانساً ولا تنظيماً موحداً، ولا شكلاً واحداً لتشكل تلك الكتائب، فبعضها كانت قياداته مدنية، وأغلب عناصره من المدنيين، وبعضه شكله ضباط منشقون.
لذا نجد انضباطاً أكبر وعقيدة موحدة لدى التشكيلات العسكرية، التي ورثت من الجيش النظامي ثقافة الجيش والانضباط، بينما كان من الصعب في البداية ضبط المدنيين، واتسمت حركاتهم أحياناً كثيرة بالعفوية واتخاذ قرارات خاطئة، كإعلان منطقة محررة دون امتلاك الأدوات لمقارعة النظام والاحتفاظ طويلاً بتلك المنطقة لتحقيق مكاسب على الأرض.
اليوم المشهد مختلف لا سيما مع تشكيل مجالس عسكرية في كل المحافظات، والتي استطاعت وضع عسكريين على رأس أغلب الكتائب العاملة (ما عدا بعض الكتائب المدنية القليلة التي أثبتت نجاحاً وانضباطاً ولكن حتى هذه يجري اليوم الضغط عليها لوضع عسكري في قيادتها). واليوم أغلبية كتائب الجيش الحر منطوية تحت قيادات تحدد استراتيجيتها وحركتها، ولقد لاحظنا ذلك جلياً عند بدء مهمة المراقبين، فلقد استطاعت أن تثبت وقف إطلاق النار أكثر من النظام وجيشه، ولم يحدث أي خرق له إلا حين قررت قيادة الجيش الحر ذلك.
من ناحية العقيدة، فالجيش الحر أعلن ويعلن ويعمل على الأرض نبذه لأي شكل من أشكال الطائفية وأي عمليات انتقامية، ولقد شهدت بنفسي هذه الروح الوطنية لدى عناصر الجيش الحر، فرغم أنك قد تجد من المدنيين من يتحدث بالطائفية، فإنهم يرفضون أي كلام من هذا القبيل ويردعونه بشكل مبدئي بوعي يثير الإعجاب.
ولكن قد يتساءل البعض، ألم تحدث انتقامات، وهل هناك قتل على الهوية؟
بالطبع حدثت انتقامات، ولكنها فردية بأغلبها، وليس من أفراد في الجيش الحر، ولقد حدثت عمليات خطف وانتقام من الطرفين (سنة وعلوية) في مناطق عدة ولكني أراها بقيت محصورة بشكل كبير، وهذا أمر صعب تلافيه في ظل القمع الذي يقوم به النظام.
ولم يحدث ما يمكن تسميته قتل على الهوية من قبل الجيش الحر. أذكر مرة شخص موالي قال لي عن عملية اغتيال لضابط، والله حرام عمبيقتلوه بس لأنه علوي، قلت له: والله هلق عرفت منك أنه علوي، لم يقتلوه لأنه علوي بل لأنه ضابط يشارك في القمع والقتل.
كذلك هناك بعض النقاط المهمة جداً:
1- هناك ظاهرة فلتان أمني في مناطق بعينها لا سيما المدن التي خرجت عن سيطرة النظام ولكنها ليست تحت سيطرة الجيش الحر تماماً، وسببها إخلاء مقصود للأمن من قبل النظام لإشاعة الفوضى.
2- قيام النظام ببداية الثورة بإطلاق سراح كل المعتقلين لأسباب إجرامية كالقتل والسرقة والنهب، والإبقاء على المعتقلين السياسيين.
3- قيام النظام نفسه بعمليات إجرامية ينسبها للجيش الحر للإساءة إليه.
خلق ذلك وعلى هامش الثورة ظواهر عدة، منها أفراد أو مجموعات استغلت الحرب الدائرة لتحقيق مصالح شخصية أو للسرقة والنهب ونسبتها لأطراف معارضة، ولقد تصدى للكثير منها الجيش الحر.
مثلاً منذ أيام حدثني صديق بدمشق، بأنه كان في باص الدولة الذي يقلهم للعمل، فأقوفهم مسلحون ملثمون، وأخذوا الباص وأخلوا سبيلهم. طبعاً هذه عملية أنا متأكد أنها من أعمال النظام، فالباص تبع الدولة ماذا سيفعلون به؟ أصلاً باصات الدولة من عصر النبي "كيكي" عندنا أحدث واحد منها عمره ثلاثين سنة، وكما نقول عنا "مهرتك عايف التنكة تبعو"، هذه عملية القصد منها هي الإرهاب فقط، وإخافة الناس من الجيش الحر، ومن دلائل ذلك أن الجيش الحر لم يعد يقوم بعملياته ملثماً، ويلبس الزي العسكري.
ونجد مثلاً بأن الأمن مستتب تماماً في كل المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر سيطرة تامة، وفي المناطق الريفية أيضاً التي تخضع لسيطرة نسبية للجيش الحر.
هذا لا يعني أنه لم تحدث أخطاء من الجيش الحر، ولكنها تبقى هامشية، وليست من عقيدته، وكثيراً ما يحاربها ويقوم بتصحيحها وتصويبها شباب التنسيقيات والناشطون المدنيون.
3- حجم الدعم الخارجي؟
فأقول بصراحة، كنت أتمنى أن يكون الدعم أكبر مما عليه، وهنا لا أنكر وجود دعم بالمرة، ولكني أعتقده طبيعياً وهو التحالف الموضوعي المعروف في السياسة، ولكن ليس هناك علاقة هيمنة لأي قوى غربية أو عربية؟
بل لو كان الدعم فعلاً على مستوى كبير لسقط النظام منذ زمن طويل، ولنحكم العقل والمنطق، أليست تلك القوى بقادرة على تزويد الجيش الحر بمضادات للصواريخ؟ الجواب المنطقي بالطبع. وهذا السلاح كان سيحسم المعركة خلال أسابيع قليلة، فالجيش الحر يتميز عن النظامي بالبيئة الحاضنة التي يمتلكها فهو يتحرك في بيئته كالسمك في الماء، من درعا لريف دمشق لأغلب أحياء دمشق، لحمص، لإدلب لحلب لدير الزور .. الخ
النظام على الأرض ضعيف جداً، ويثبت ذلك قصفه الدائم في الفترة الأخيرة لسوريا الثائرة التي تشكل سبعين بالمائة من البلد من بعيد. فهو على الأرض منتهٍ.
لماذا إذاً لم تزودنا أمريكا أو فرنسا أو تركيا أو حتى الدول العربية بالمضادات؟
ذلك لأنه لا يوجد قوة تتحكم بالجيش الحر وقراراته، ولأنها متخوفة من سوريا حرة ديمقراطية، حتى الدول الخليجية والتي ترغب بسقوط الأسد بناء على مصالحها الإستراتيجية، ولكن نجاح الثورة سيزعجها ويرعبها وسيطرح لديها قضية الحريات والديمقراطية.
4- الجيش الحر والدين:
كما قلت في نقطة سابقة، الشعب السوري بأغلبيته مؤمن، وبجزء كبير منه متدين، لذلك من الطبيعي أن يكون في جيشه الحر الكثير من المتدينيين، وفي الحقيقة فهذه ليست مشكلة لأي ديمقراطي، فليست مهمة الثورة إسقاط الدين، ولا يجب أن يكون لديها مشكلة مع الدين، بل أن تنشأ غداً سوريا حرة للجميع، يستفيد من ثورتها الجميع حتى ممن لم يكن يدعمها.
ولكن هذا الدين هو الدين الشعبي التقليدي المعتدل، لا سيما أن سوريا ليس فيها تجانس ديني أساساً لدى السنة (أو للدقة ما يسمى السنة)، فلدينا أطياف واسعة من التيارات تمتد من السلفية للقرآنيين، وتمر بالصوفيين والأشاعرة بمذاهبهم كلها.
فهل هناك سلفيون في الجيش الحر؟ بالطبع، ولكنهم جزء من المجتمع السوري بالأساس، ولكني أعتقد بأنهم يشكلون قلة قليلة، وبأغلبيتهم ليسوا سلفيين تكفيريين.
من ناحية أخرى لا بد من التفريق بين الثورة والنهضة، فالنهضة تأتي لاحقاً للثورة، وتحتاج عدة عقود، وجيل أو جيلين لتتكرس وتحتاج جهود الجميع، الأولوية اليوم هي لإسقاط النظام، لإنتاج بيئة ديناميكية قابلة للتطور والتطوير والحراك والنشاط السياسي، فنحن كنا في حالة جمود، لا يمكن معها إنتاج أي شيء، لا على المستوى السياسي ولا الثقافي ولا المعرفي ولا الإقتصادي.
أتمنى أن يكون هذا العرض وافياً ومفيداً، وأكرر أنه يعبر عن مشاهداتي من الواقع السياسي والميداني، بالإضافة لتحليلات تعبر عن آرائي.
وأي أسئلة أخرى سأحاول الإجابة عنها بما أستطيع. وأعتذر مقدماً عن الإجابة على الأسئلة الكيدية، والمناكفين، والشبيحة
خالص تحياتي ومودتي
طارق