المؤسسات في سوريا موجودة.. ولكنها "قمعية".. بقلم نضال معلوف
ثورتي على جمال الطويل*؟! ...(الجزء الثالث)...
اثارت الاجزاء الاولى التي كتبتها الجدل حول كثير من النقاط التي اجد انه من المفيد التوسع قليلا فيها وتوضيحها ، واهمها موضوع وجود المؤسسات في سوريا، وانا اوافق على الرأي القائل بوجودها ولكن يجب اضافة كلمة واحدة جانب كلمة المؤسسة عندنا لتصبح : المؤسسات "القمعية" في سوريا.
نعم يوجد في سوريا مؤسسات، هناك نقابات واحزاب وجمعيات.. ولكن كلها تمارس دور الضبط والسيطرة ونقل الاوامر من اعلى الى اسفل، فيما ومع الزمن اصيب اتجاه النقل (على ضيقه) من القاعدة الى رأس الهرم بالانسداد التام.
ساذكر مثالا بسيطا، وهو قرار رفع الدعم عن المازوت الذي صدر في ايار في العام 2008.
القرار صدر عمليا في بداية شهر ايلول من العام 2007، وقبل ان يعمم ويصبح ساري المفعول جرت معركة بين معارضين لهذا القرار (بينهم وزراء ومستشارين وقادة رأي) يعملون في مواقع قريبة من الدائرة الضيقة صاحبة القرار وبين رئيس الفريق الاقتصادي حينها عبدالله الدردري ومن ورائه .
وكان رأي المعارضين للقرار بان رفع سعر المازوت من 7 ليرات الى 25 ليرة، وكانت بداية موسم المدارس وصادف انه كان شهر رمضان على ما اذكر، سيؤدي الى ثورة في الشارع السوري.
فيما نظر "صقور" دوائر الحكم الى هذا الرأي بازدراء ولسان حالهم يقول "عما تتحدثون انتم.. ثورة.. ما هذا الذي تتحدثون عنه".
ونجح المعارضون حينها بايقاف القرار قبل يوم من صدوره، وكان الرأي على اجراء استبيان للشارع السوري يستطلع اثر رفع سعر المازوت بهذا القدر وردة فعل المواطن عليه (وكانت هذه نقطة مضيئة في تاريخ دوائر الحكم بان يقبلوا بمبدء استطلاع رأي المواطن).. وهكذا كان
واظهرت النتائج صوابية رأي معارضي القرار، بأن رفع السعر بهذا المقدار دفعة واحدة من الممكن ان يفجر الغضب في الشارع وتفلت زمام الامور وطوي القرار بناءا عليه.
ولكن الى حين..!؟
والذي جرى بأن القرار بقي قائما وأُستخدِمت المؤسسات وتم توجيهها بكل حزم لضبط اي انفلات يمكن ان يحصل عند صدور القرار.
وهكذا صدر القرار في ايار 2008، ضاربا عرض الحائط بنتائج الاستبيان، وبالفعل لم تذكر كلمة اعتراض واحدة لا من وسائل الاعلام (بما فيها سيريانيوز) ولا من نقابة ولا من محلل ولا من اي فرد.. لم يحدث اي شيء، كانت المؤسسات فاعلة جدا في ضبط و"قمع" اي ردود فعل ممنكة من قبل المواطنين.
وربما تكون سوريا البلد الوحيد في العالم (ربما كوريا الشمالية تكون الثانية) التي يرفع فيها سعر مادة اساسية تأتي بعد الخبز في حياة السوريين حوالي 300%.. بدون اي كلمة اعتراض.
وقد ذكرتها في جزء سابق، بانه تم حذف كلمة "المازوت" في ذاك الوقت، حيث جاءت في سياق قصيدة غزلية نشرت في موقعنا كمساهمة من احد القراء، بعد اتصال من شخصية ذات شأن.
ملاحظة : انا اتكلم على ردة الفعل الانية العفوية التي يمكن ان تحدث في اي مجتمع طبيعي، في ذاك الوقت وعلى امتداد اشهر منع اظهار اي ردة فعل مهما كانت حول هذا القرار، ولاحقا تمت مناقشة هذا الموضوع وسمح بالتدريج وتحت المراقبة الشديدة الحديث فيه وتعديل سعر المازوت لاحقا لاسباب كثيرة ومعقدة ليس مكان ذكرها هنا.
الحقيقة ضبط الامور بهذا الشكل، واستغلال هذا الضبط من قبل رجالات السلطة في كل المفاصل لاظهار الولاء للقيادة والقدرة على تنفيذ المهام الموكلة من الحلقة الضيقة بدون وجود اي ردود افعال، حتى ولو كانت هذه المهام تتعلق بلقمة عيش المواطن السوري، اعطى اشارات خاطئة (في رأيي) للقيادة.. وقد تكون الثورة في سوريا بدأت من عند هذه النقطة بالتحديد.
فقد بدت الصورة للقيادة بان الامور تحت السيطرة التامة وان المجتمع "ميت" لا حياة فيه، فإن لم تحركه قرارات من هذا النوع (فوق كل ما لدينا من سلبيات من قمع للحريات العامة والفساد.. الخ) فانه لن يتحرك ابدا.
وللتذكير لمن يعلم ولكي نشرح الامر لمن لا يعلم، بأن الاتصال بين دوائر الحكم في سوريا بين المستوى الادنى الى الاعلى ليست بالعملية المستحبة (للمستوى الادنى) على الاطلاق خاصة اذا كانت تحمل اخبارا "غير سارة" او ليست على مزاج من هم "فوق".
فبسبب الطابع (الامني العسكري) للنظام في سوريا واستخدام الخوف اداة اساسية (وربما وحيدة) في السيطرة على الحكم، فإن التواصل بين المستويات في الطبقات المختلفة لم يكن امرا يسيرا.
وهذا كان يُحدثُ قطعا تاما في مراقبة اثر الخطط (الاوامر) على الارض ومنع اي رجع صدى من القاعدة او من المحيط باتجاه المركز، وهذا في العموم، ولكن ايضا هناك استثناءات ومحاولات للتعامل مع هذه الحالة ولكنها لم تتحول الى الية عمل، ولم يجر اعتمادها في آليات الحكم لتشكل جزءا اساسيا منه (اقصد رجع الصدى).
وبالتالي عندما تجيّر الملفات للمتابعة من قبل المسؤولين ورجالات السلطة من الحلقات العليا الى من هم في حلقات ادنى، مع الزمن يصبح هؤلاء (من هم في الحلقات الدنيا) الامر الناهي في الملفات التي تكون في ايديهم، ويعتقدُ من هم في المستوى الاعلى بان كل شيء على ما يرام.
فبالاضافة الى عدم رغبة هؤلاء في نقل اي وجهة نظر او نقد لما يطرح الى الدوائر العليا، فان الخوف يجعلهم يتحرجون ويتجنبون اي اتصال بالذين هم اعلى منهم.
وهذا ليس في الامن وادارات الدولة فحسب، بل في الدوائر المدنية ايضا التي كانت تسيطر على المجتمع والاقتصاد.
وهنا جدير بأن نذكر مضمون كثير من التعليقات التي وردت على الاجزاء السابقة من هذا المقال، باني (ومجموعة كبيرة من العاملين بالشأن العام) اصبحنا هكذا جزء من هذه الحلقات؟
والجواب نعم.. ليس نحن فقط..
هذه الحلقات كان يدور في فلكها كل المجتمع السوري.. كله حتى منتقدينا.. ببساطة لماذا لم يحتج احد ويتظاهر على قرار رفع سعر المازوت (على سبيل المثال)..؟
كلنا كنا ندور في تلك الدوائر.
وبالعودة الى موضوعنا، فبنتيجة هذه السياسة جير ملف المواقع الاخبارية من مستوى الى مستوى ليصل الى عنصر في قسم في فرع امن، ويدعى هذا الشخص "رمضان" (يقابله بالنسبة لباقي وسائل الاعلام رئيس قسم في وزارة الاعلام لا يقل سوءا عنه)، واصبح المسؤول عن متابعة شأن المواقع الاخبارية، وبات هذا العنصر (بالنسبة لنا) هو من يتصل بهذه المواقع ويوجه عند الضرورة بما يجب ان يكون.
ولا يمكنك باي حال من الاحوال ان تناقش، ليس خوفا، وانما لان الطريق مقطوع وهذه هي اوامر "المعلم"، ولا تعرف انت اي "معلم" منهم (في اي حلقة) وتترك الامور لتقديرك بأن تنصاع او لا تنصاع لما جاء من على لسان رمضان.
وكان افضل ما يمكن فعله عندما تأتي التمنيات (الاوامر) وتراها مخالفة للعقل والمنطق احيانا للمصلحة العامة وحتى للمفاهيم الانسانية.. هو ان تناور وتخاطر.. وان خاطرت فان العواقب تكون دائما غير محسوبة.
وبناءا عليه يفرز الافراد المؤثرين في المجتمع (ماليا، دينيا، اعلاميا.. الخ) الى "منصاع" و"منبطح" وهو النوع المتسلق المفضل والذي يرتقي في سلم الحلقات، والنوع الثاني المشاكس و"الجقر" (ينظرون اليه على اساس انه حمار) وهو نوع غير مرغوب فيه ولكنه امر واقع يجب التعامل معه.
وهكذا كان، رمضان يسمح.. ورمضان يمنع.. ورمضان يتصل في اي وقت واي مكان، ورمضان يدعو للاجتماعات التي عادة ما تكون عاجلة مع "المعلم" (يعطيك نصف ساعة من الوقت لتصل للاجتماع)..
والمعلم مصنف في الحلقة "الثالثة" (في احسن الاحوال) من دوائر الحكم، وتجتمع رؤوس الاعلام في حالتنا (وهي تنسحب على جميع القطاعات بآليات مشابهة) امام "المعلم"، لنجلس صاغرين مصغيين للتوجيهات التي تصدر في قالب "اخذ الرأي" و"النقاش"..
اعلامُ الإعلام المختصين في سوريا (ومنهم من اصبح رئيس المجلس الاعلى للاعلام لاحقا)، في حضرة رجل امن يناقشنا (لنقتنع حكما بوجهة نظره) وهو بالطبع ليس له اي باع في هذا الاختصاص..
فكيف برأيكم سيسير الاجتماع..؟
يتبع..
http://www.syria-news.com/readnews.php?sy_seq=152281