تكثر الأنظمة العربية دوما" من حديثها عن السيادة الوطنية والحفاظ على الهوية الوطنية والقرار الوطني المستقل وغيره من الأقوال والشعارات .. بينما كل المؤشرات والدلائل تؤكد على أن تأثير الوضع الدولي على مستقبل النظام الإقليمي العربي والتوجه إلى التدخل في تقرير مصيره ، قد أصبح حقيقة ، وخاصة مع تزايد القناعة لدى القوى الدولية الفاعلة بأن النظام العربي الحالي هو بمثابة "رجل القرن الحادي والعشرين المريض"كما كان عليه حال الإمبراطوريةالعثمانية في القرن التاسع عشر وأن سياسات أنظمته هي المسؤولة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعن نمو مشاعر اليأس والاحباط بين شعوبه...
وبالعودة الى الماضي،نجد أنه في الوقت الذي كانت دول العالم تتنافس فيما بينها على تطوير أنظمتها السياسية وبنائها بشكل متين وقوي ، وتطوير إقتصادياتها ، وتحسين الخدمات المقدمة لشعوبها ، كانت الأنظمة العربية تبيع شعوبها أوهاماً وتبني انظمة فاسدة مستبدة...
فمعلوم أن الوطن العربي قد وقع تحت الاستعمار الغربي بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وبعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت الدول العربية تأخذ استقلالها لتكتمل سلسلة هذه الإستقلالات في ستينيات القرن العشرين وهو الأمر نفسه الذي حصل لكافة الدول الأخرى في العالم...
كما وتزامن تزامن قيام دولة اسرائيل على أرض فلسطين مع بداية هذه الحقبة... وخلال هذه الفترة التي تتجاوز ال60 عاماً ماذا حصل لدول العالم الأخرى التي كانت أوضاعها مثلنا ، وماذا حصل بالمقارنة للدول العربية ...
لقد وصلت إلى كراسي الحكم في معظم الدول المستقلة حديثاً أنظمة ديكتاتورية وإستبدادية -إلا ماندر كحالة الهند - والأمر نفسه انطبق على كافة الدول العربية ولكن الفرق بين الحالتين أن في دول العالم الأخرى كانت تحكمها أنظمة استبدادية ولكنها وطنية عملت على بناء نهضة دولها وها هي اليوم تحصد نتائجها ، ولا أدل على ذلك من دول أسيان كأندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة ..وحتى الصين التي يتغنى اليوم بنهضتها بعض نخب العرب السياسية و الثقافية ألم يكن نظامها شمولياً ومستبداً...وماليزيا التي حكمها مهاتير محمد أكثر من 27 عاماً ماذا كان هذا النظام؟ !..
وأيضاً كوريا الجنوبية ألم يحكمها نظام عسكري مستبد ..والامر نفسه ينطبق على تركيا وعلى البرازيل والأرجنتين أيضاً وغيرها وغيرها ...أما في دولنا العربية فرغم أن شعوبها أعطت الفرصة تلو الفرصة لوجود أنظمة استبدادية فيها فالنتيجة في التطور كانت صفراً...بل إن هذه الأنظمة المستبدة وعبر تحالفها مع المؤسسة الدينيه المصنعة لديها والمثقفين المدجنين ،عملت على زيادة تخلف هذه الدول والسيطرة على مواردها وتحويلها لصالحها...وبنت جيوشاً بدعوى حماية حدودها وتحرير فلسطين.. بينما كانت في الحقيقة أداة لترسيخ وجودها والمحافظة على حكمها الذي حولته إلى حكم عائلي فاسد ..وبدلاً من أن تستفيد من الثورة العلمية بتطوير شعوبها عملت على الإستفادة منها في تقوية وتجذير حكمها المستبد وخنق شعوبها وترسيخ حكم الفرد الفاسد ، مستغلة في ذلك كل المؤسسات الحكومية التي بدل أن تقوم بتقديم الخدمات لمواطنيها عملت على ترسيخ عبوديتهم للفرد .. وتحولت دولهم بفعل إنجازاتهم الوهمية إلى ما كانت عليه ممالك وإمارات أوربا في العصور الوسطى ...
هذه هي الحقيقة لقد أصبح النظام العربي بدوله كافة عالة على العالم لتخلفه مئات السنين عن ركب التطور العالمي ..
تكمن المفارقه في أن الدول العربية والتي يشهد نظامها حالة اختلال حاد بين حجمه الكبير وتأثيره الدولي الضئيل ، قد وفرت المنطقة الجغرافيه العربية له الكثير من الموارد والثروات ..والتي تؤمن له القدرة على التصدي بنجاح لكل التحديات التي تواجهه ، فعلى سبيل المثال يمتلك أكبر احتياطي من النفط (يتجاوز 62%من اجمالي الاحتياط العالمي) حيث أن أكثر من 33%من الاستهلاك العالمي للنفط يخرج من أراضيه...كما أن أكثر من 1000 مليار دولار من الاستثمارات العالمية مصدرها عربي؟!..علاوة على سوق تجارية واسعة قدرت تعاملاتها عام 2010 بنحو 450 مليار دولار.. وعلى موقع إستراتيجي فريد ..ومن المتوقع أن تتزايد أهمية المنطقة العربيةفي الصناعة النفطية والغازية العالمية لتلبية الطلب العالمي المتزايد في الأجلين المتوسط والطويل...ولكن للأسف فهو يمتلك أكثر النخب السياسية الحاكمة في العالم جهلاً وأقلها وطنية وأكثرها جعجعة ونفاقاً في حديثها عن الوطنية وعن الإنجازات التافهة ..وأكثرها دموية
وإستبداداً وتمسكاً بالحكم ..مضيعة على أهل هذه المنطقة فرصاً غالية في اللحاق بركب التطور العالمي الذي يسير تاركا" إياها على مسافة كبيرة من ذنبه ..!
لقد كانت دول كثيرة مثل الهند وماليزيا والبرازيل وجنوب افريقيا وتركيا وأندونيسيا وكوريا الجنوبية والفلبين وسنغافورة الارجنتين ..وحتى الصين ، كانت جميعها مشابهة بأوضاعها لأوضاع الدول العربية وفي نفس درجة تخلفها الفكري والاقتصادي والسياسي قبل حوالي 40 عاماً ، ولكن لننظر الى وضعها الحالي والى أي درجة وصلت إليه حاليا" في الاصلاح السياسي والفكري والتطور الإقتصادي والإجتماعي ومقارنته مع الواقع الحالي للدول العربية ..والمفارقة أن بعض الدول كالبرازيل والهند قد وصل بها الأمر إلى حدود مطالبة هيئة الأمم المتحدة بإدخالها ضمن مجموعة الأعضاء الدائمين في
مجلس الأمن ، وربما طالبت بذلك دول أخرى فأين هي الدول العربية من ذلك..
أما اسرائيل والتي تكونت مع مرحلة إستقلال الدول العربية من الإستعمار ، بل أن بعض الدول العربية تباهي بأنها كانت مستقلة قبل ذلك.. فقد عرفت كيف تثبت نفسها في محيط المنطقة وتبني دولة قوية أصبح الغرب يخشاها ، وتبني نظاماً سياسياً مستقراً ..وتتباهى بيهودية دولتها رغم وجود الكثير من العرب المسلمين والمسيحيين على أرضها...في الوقت الذي تتباهى حكومات الدول العربية وقادتها بمحاربة الاسلام تحت مسميات اخترعها لهم الغرب وساروا هم بها أكثر مما سار بها هو ، كمحاربة الارهاب والتكفير وما إليه من شعارات ...أما إيران التي إشتهرت على مستوى العالم بالمروق والإرهاب ، ورغم الحصار عليها استطاعت أن تبني دولة يخشاها الغرب ويعمل على محاورتها ، بينما يلقي بالأوامر على حكام العرب الخائفين الخانعين أمامها ، والمستأسدين على شعوبهم.
إن النخب والعائلات الحاكمة في الدول العربية تتحمل المسؤولية الكاملة عن إضاعة الفرص بالنهوض بالدول التي حكموها ، وما زالوا يحكمونها ويديرونها وكأنها مزارع في زمن زالت الأنظمة الشبيهه بها في معظم دول العالم ،ويشاركهم في هذه المسؤولية من يسمون أنفسهم مفكرين ، وهم ليسوا أكثر من أدعياء فكر ، فبلادنا العربية ومنذ زمن طويل لم يولد على أرضها ، أو يعيش عليها أي من المفكرين الذين يغيرون دفة التاريخ ويصنعون تاريخاَ جديداَ ..وأيضاً المؤسسات الدينية التي تعيش على فتات النخب الحاكمة .. يشاركها بهذه الجريمة النخب الثقافية التي تقوقعت على نفسها ، وإبتعدت عن قواعد الشعب ، وعزلت نفسها في برج عاجي مع النخب الحاكمة وشاركتها الفساد..
إن هذا الواقع سيؤدي الى تكاثر المشروعات الدولية التي تهدف الى تغيير خريطة المنطقة العربية وإعادة هيكليتها حسب المخططات التي أعدها الآخرون ويعدونها...
ولكن يبقى الأمل موجودا" بالمارد الذي خرج من قمقمه ، شباب الربيع العربي ..