لا أعرف بالضبط كيف أشرح الأمر، إنه يشبه إلى حدٍ ما زيارة الملائكة الساكة صوت فيروز صباحاً عبر موجات الراديو بهدوء صاخب لذيذ يعيد للنفس توازنها وللروح جمالها الأول، تبدأ بالغناء معها بصوتٍ خفيض، يتمايل رأسك طرباً وانتشاءً وحبال صوتك رقصاً، تغمض عينيك لأنك تعلم بأن مثل هذا الجمال لا يُرى بالعين، بل لا حاجة أصلاً للرؤية، إذ تطغى ملائكة صوتها وتتفوَّق على كل ما حولها تظن أن تلك الملائكة خاصَّتك، وتتوالد من حارات قلبك الدافئة الحانية.
حادةٌ هي الفاجعة، حين تصمتُ فيروز على حين غرة ويبقى صوتك! تُصدَم أن ملائكة قلبك ما هي إلا عفاريت زيَّنت لك سوء صوتك، وقتها لا تمتلك من أمرك شيئاً غير الالتفات حولك داعياً الله راجياً إياه أن لا تكون انكشفت عفاريتك لغيرك، تعدٍّل من جلستك وتطفوا مرة أخرى هواجس يومك على سطح تفكيرك و...

هذه الحالة كانت تتلبّسني كل صباح في باص العمل الذي يُقلّني إليه، وقبل أن يمر بمنطقة "وسط البلد". ظننتني شغوفةً بهذه المنطقة، كنت أرخي رأسي على النافذة وتلتقط عيناي -المفتوحتان على اتساعهما- ما تستطيعان من تفاصيل، زحام كثيف في حركة السير: سيارات وحافلات النقل العام، وسيارات السرفيس، ومئات الأشخاص تتقافز على الطرقات وقطع الشوارع.

كنتُ كل صباح أنتظر اللحظة التي نصل فيها رصيف "الساحة الهاشمية" كي أرى "عمي الورّاق" هكذا أسميته إذ امتزجت حالتي بالحزن والعصبية حين سمعت من يقول عنه "أحد مجانين وسط البلد"، شعور غريب متداخل أشعره كلما رأيته لكني على الأكيد أرفض تسميته بمجنون! رجل ستيني، صحته بحال جيدة جداً –أو على الأقل هكذا يبدو بضخامة جسده وكرشه العامرة العامرة- يرتدي صيفاً "دشداشة" يزيد عليها في الشتاء جُبّة سميكة كلتاهما في حالة يرثى لها بسبب اتساخهما الدائم، شعره طويل ولحيته يتخللهما الشيب. والغريب في "عمي الورّاق" أنه دائم السير وهو يقرأ، دائم السير وهو حامل كيساً به أوراق كثيرة موضوعة على غير ترتيب، كم تمنيتُ –وما زلتُ- الحديثَ معه، وتصفح كتبه وأوراقه، تبيَّنت ما كان بين يديه أكثر من مرة، القرآن الكريم، كتاب شعر، وبالأمس كان يحمل مجلّداً ضخماً. وكم تمنَّيتُ أيضاً –وما زلتُ- تصويرَه. أسئلة كثيرةٌ تتراقص في رأسي كلما رأيته أو بحثت عنه بين المارة: حقيقة ما حدث معه وله، ولماذا بقي متمسكاً بالكتب والأوراق، وهل حقاً يقرأ بتمعن؟ يا الله، قبل أيام وفي طريق عودتي للبيت وحين رأيته، أخبرتني زميلاتي -وهن العارفات ببحثي عنه وباهتمامي به، بل ونتندَّر جميعاً بأن حالي سيصبح مثل حاله إن بقيت الكتب هي رفيقتي الأثيرة :)- أنهن رأينه يخرج من مكتبة الأمانة وبالطبع يقرأ أيضاً.

سألتُ عن سبب ما آل إليه حاله، وبالطبع لم أصل إلى إجابة مؤكدة، إحدى الروايات تقول، بأنه كان صاحب مال كثير، وأن أخاه بطرق ملتوية خلّصه إياه، فجنَّ الرجل وأصبح يحمل الأوراق والكتب ليبحث عن الطرق التي سُرق بها!

لم أستطع قبول تلك الرواية، قد يبدو مُرجحاً لو أنه يحمل ورقاً وحسب، لكن الرجل يحمل كتباً ودائم القراءة والمشي، وكم حزنت حين أتى رجل من خلفه يوماً ورفع طرف دشداشته وشبكه في رأسه، يومها استدار عمي الورّاق، رأى الرجل بهدوء كبير لا يتناسب وحجمه الضخم، أنزل دشداشته بهدوء وأكمل سيره متابعاً قراءة ما كان بين يديه!

لماذا أكتب عنه اليوم، ربما الاعتياد على رؤيته، وبحثي اليومي عنه، إذ كنت قبل عامين أبحث عنه كل صباح، والآن ومنذ أشهر صرتُ أبحث مساءً بعد أن صارت تُوْصِلني أختي لعملي صباحاً دون المرور من وسط البلد، ودون الاستماع لملائكة صوت فيروز. وأكتب عنه لأنني بالأمس فقط تمعّنت في ملامح وجهه حين كانت إشارة المرور حمراء وكنت داخل السيارة ومرَّ بجانبي تأملتُ وجهه، وتأملني، أُخِذتُ باللحظة ونسيت بل طارت عن بالي فكرة إخراج الكاميرا وتصويره.

عشراتُ الأفكار تزاحمت في رأسي بينما كنت أتأمل عينيه الصغيرتين، تراه ماذا فكّر حين تأملني وتبادلنا النظرات الفاحصة؟
ما أنا متأكدة منه، أنني أحبك عمي الورّاق، فلا تغب، ولا تحرمني رؤيتك كل يوم...

13/10/2005
الخميس
(f)