محمد بن علي شرف الدين:
شاعر حميني ، ولد في 15 رمضان سنة 877 هـ من أسرة أرستقراطية مالكة ، فقد كان جده إماماً وعمه المطهر الشخصية التاريخية الأولى في تاريخ اليمن الوسيط ، نشأ بحصن حضور ودعا لنفسه بالإمامة في جمادى الأولى سنة912 هـ بظفير حجة ، وقعت بينه وبين السلطان عامر بن عبدالوهاب حروب كبيرة .
ورغم انغماسه في السياسة إلا أن الملمات التي أحدقت بمشواره السياسي جعلته ييمم وجهه صوب الشعر ، فتدفقت رومانسيته وعزف على قيثارتها الفريدة أعذب القصائد الحمينية التي بدأ من خلالها شاعراً للحب ومغنياً للجمال ، ولأنه من أكابر القوم كان انتماؤه إلى هذا النوع من الصناعة الشعرية مكسباً للشعر الحميني الذي كان يلاقي ويلات الرفض والازدراء في ذلك العصر ، ومثّل بكتاباته رفيعة المستوى مصدر إلهام لمن جاء بعده من الشعراء .
له عدة مؤلفات وقد توفي في ليلة الأحد 7 جمادى الآخرة سنة 965هـ
محمد محمود الحارثي:
من مواليد كوكبان قضاء المحويت سنة 1934 م
•هاجر أبوه إلى الحبشة وهو في مرحلة طفولته الأولى وانقطعت أخباره عنه وعاش اليُتم مبكراً وقد وجد نفسه يميل إلى الغناء
•تتلمذ على يد كبار الفنانين في شبام كوكبان معقل الفن اليمني مثل قاسم الاخفش وغيرهم
•لقي كثيراً من الصعوبات والعناء في عهد الإمامة بسبب موقفها المتخلف من الغناء اليمني في ذلك العهد ورغم ذلك تنقل في عدة مدن يمنية وأحيا العديد من الحفلات الفنية سراً قبل ثورة 26 سبتمبر 1962.
•فجر بصوته العذب الكثير من الأغاني الوطنية من إذاعة صنعاء عقب قيام الثورة مباشرة
•يعتبر أستاذا للغناء الكوكباني الذي يتميز بعزف العود واستخدام الصحن أو الطار العادي
•أحيا الحارثي تراث كوكبان العريق من خلال تغنيه بتراث ابن شرف الدين والقارة وموسى بهران وغيرهم ومثل بأعماله الخط الكلاسيكي في الغناء اليمني بكل قواعده وجمالياته وأصوله التقليدية .
•شارك الجماهير بالثورة بعدد من الأغاني التي الهبت الحماس وسكنت في الوجدان الشعبي.
•منح عدداً من الأوسمة وشهادات التقدير وقد وثق له مركز الموسيقى العالمي عشرات الألحان الفريدة
اقتباس:يمثل الشاعر محمد بن عبد الله شرف الدين المتوفي سنة 1016هـ حالة خاصة في الوجدان اليمني، حالة لا تكاد تقارن بأية حالة أخرى. . فهو يحتل المكانة الأولى بين مبدعي الأغنية الصنعانية. . وقصائده المغناة لا تزال رغم مرور أربعة قرون كاملة على كتابتها - تتمتع بقدرة هائلة في التعبير عن عواطفنا ووجداناتنا . . إنها حتى اليوم . . تبدو طرية طازجة ومنافسة لكل جديد. . على اختلاف الزمن وتطور اللغة وتبدل كثير من مفرداتها تبعاً لتبدل مفردات الحياة بشكل عام.
ولكن ابن شرف الدين الذي يحظى بكل هذه المكانة والشعبية الواسعة وتتردد أغانيه كل يوم في كل بقعة من أرض اليمن . . لم يقرأ ديوانه بعد قراءة مكتملة . . يتم من خلالها دراسة لغته وثقافته ومرجعياته . .
إن كل ما كتب عن ابن شرف الدين حتى الآن لم يتجاوز المعلومات العامة عن سيرته التي تم استقاء معظمها مما أورده جامع ديوانه عيسى بن لطف الله، والمرور العابر السطحي بشعره الذي ربما لعبت شهرته وكثرة تردده على الألسنة دوراً ليس بالقليل . . في عدم غوص الدارسين إلى أعماقه والتشعب في درسه وتفكيك مرجعياته الثقافية واللغوية بكل ما يعنيه اللفظ الأخير من حيث المعجم والأساليب والبناءات البلاغية والفنية.
لن نكون مفتئتين إن قلنا إن الاهتمام الكبير الذي لقيه ديوان الحميني اليمني تحقيقاً ودرساً منذ منتصف القرن الماضي، قد حُفَّ بعيوبٍ كثيرة رغم أن الذين تصدوا له كانوا من أهم -إن لم يكونوا أهم رموز العلم والأدب في بلادنا- .
فالذين تصدوا للتحقيق لم يلتزموا بقواعد التحقيق ومناهجه كما أنهم عمدوا إلى القريب المتوفر وكان عملهم دافعه الشعور بالواجب أكثر من كونه مشروعاً .
والذين تصدوا للدرس والبحث لم يكلفوا أنفسهم عنت التنقيب والتفتيش عن البدايات وروادها . . واكتفوا بالحاصل المتوفر وأضاعوا الكثير من الجهد في تعليل التسمية والبحث عن أصلها دون طائل.
ولأن الفريقين محققين وباحثين . . كانوا كباراً جداً . . فقد كانوا ثقةً نقل عنهم كثيرون دون مراجعة ولا تمحيص . . فظلت الأخطاء التي وقعوا فيها تتكرر . .
حتى بعد أن أثبت باحثون جدد خطأ كثيرٍ مما ذهب إليه أولئك الرواد . . فإنّ أحداً لم يلتفت إليهم لأسباب كثيرة منها العناد ومنها كون هؤلاء الجدد ليسوا مشهورين تُسمع كلمتهم وتصل إلى الناس.
ولعل أفضل دليل على عدم وصول مستجدات البحث الجديد في هذا الشعر وكتابه إلى الناس . . حتى الباحثين منهم . . ورقة الأستاذ/ جوليان ديفور المقدمة إلى هذه الندوة (1).
لقد دفعتني ورقة الأستاذ: جوليان ديفور إلى كتابة مجموعة من الملاحظات طالما فكرت في كتابتها وسأوردها اختصاراً على النحو التالي:
أولاً: أن ما أورده عيسى بن لطف الله في مقدمته لديوان ابن شرف الدين من كون ابن فليته (أول من أظهر حجته -أي الحميني- فاتضحت محجته في الديار اليمنية) (2) .
لم يقرأ قراءة صحيحة . . فقد فهم المحققون والدارسون منه أن ابن فليته هو الرائد الأول لهذا الشعر . . وشاع هذا الخطأ عنهم وانتشر . . وكان يمكن أن يفهم من العبارة أن ابن فليته كان يتمتع بموهبة ومكانة كبيرتين مكنتاه من إيصال النص الحميني إلى كل أصقاع اليمن وإشهاره وجر عدد كبير من الشعراء إلى ساحته، وهذا معنى قوله: (أول من أظهر حجته فاتضحت محجته في الديار اليمنية) فبعد ابن فليته توسع الناس في كتابة الشعر الحميني.
والدراسات الحديثة التي قدمها الباحثان عبد الجبار باجل، وعبد الله خادم العمري تؤكد ذلك.
فقد سبق ابن فليته كل من الفقيه أبو بكر بن عيسى بن حنكاش(3) المتوفي في زبيد سنة 664م وكان إماماً للمذهب الحنفي ومن شعره:
بيت
تقول عاد الأحبابُ
يرعوا وداد المستهام
ويذكرون لمغيابْ
عند احتسا كاس المدام
أما أنا قلبي ذاب
في فقد ممشوق القوام
وامعيش لي ما عاد طاب
ولا هنا جفني المنام
توشيح
ويلاه ما شق امتجافي وامفراق
لا كان لا كان ما أمرّه يا رفاق
حملت عشر عشرة لا يطاق
تقفيل
ناديت خلي ما أجاب
ولا شفاني بامكلام
وامسيت حايرْ مرتاب
كالطفل إذ قاسي الفطام (4)
والشاعر عفيف الدين أبو بكر بن إبراهيم بن يوسف الحكاك الجوزي (5) الذي ربما عاصر ابن حنكاش ولكنه توفى بعده في نهاية القرن السابع الهجري وهو من أهل الجوز بمنطقة الحمينية التابعة لمديرية حيس في تهامة التي يثبت باجل بأدلة كثيرة أخذ تسمية الحميني من نسبته إليها. وهو شاعرٌ متصوف ومن شعره:
يسر لنا يا رب ما تعسر
يا غوث يا بر
ونجنا مما نخاف ونحذر
واكفنا الشر
تقول لي ذات املحاظ امحور
الباز أغبر
ومهجتي تطوى لها وتنشر
والقلب ينشر
ناديتها وا ربة امعصفر
وامخد امصفر
ترفقي بي فالقضا مقدّر
والحق أقدر
بيت
قالت بلا هدرة تعال "لمد لك"
عليك مثلك
واني معي شكلي فروح لشكلك
من قبل تهلك
والا تراني أرمي عليك بحبلك
واسحب برجلك
وقل لمن حولي تقول لك خر
وان شئت قول در
بيت
حرام شبابي من عناق شيبك
نعم وعيبك
أنت تلقى من يشق جيبك
نيبه كنيبك
تشف ريبه ويشف ريبك
مثلك حبيبك
جأذور لارميك بقوس عنتر
إذ لم تقرر (6)
ثانياً: يفهم المحققون والباحثون من قول عيسى بن لطف الله (أنه لا يوجد في شعر بن شرف الدين . . ما يذهب إليه أرباب الأوصاف من الكناية عن المحبوب بالصفات الإلهية والسمات النبوية كما ورد في شعر عبد الرحمن العلوي ومن سلك مسلكه) (7) . أن متلازمات الشعر الصوفي تنتفي عن شعر بن شرف الدين وهذا الفهم ترده وتدحضه عباراتٌ وألفاظ . . ومعانٍ واضحة في نصوص ابن شرف الدين.
قد يكون ابن شرف الدين ابتعد بوعي عن متابعة المتصوفة في وضوح (الكناية عن المحبوب بالصفات الإلهية والسمات النبوية) متابعاً في ذلك عقيدته ومرجعيته كونه زيدياً معتزلياً، وقد يكون فعل ذلك بسبب مزاجه الشخصي الذي يجعل المرأة عنده محور الحياة وغاية الروح والجسد. . إذ المعروف أن ابن شرف الدين كان من العشاق الكبار.
ولكنه لم يستطع الابتعاد عن الملفوظ الصوفي ومتلازماته في كل شيء، ففي ديوانه تحضر بوفرةٍ الأماكن التي تغنى بها شعراء التصوف وجعل تغنيهم بها، مجرد ذكرها باعث أشجانٍ ووجدٍ وذكرياتٍ وتداعياتٍ روحية. . كونها مواضع تمر بها القوافل في طريقها إلى مكة والمدينة. . من مثل:
يا عريب الحي من ذي سلم
وأهيل المنحنى والعلم
هل علمتم أن من هجركمُ
أمزج الدمع اشتياقاً بدم (8)
ومثل:
إن حجت الركبان حجة
قف لي وحيي الدما والدمن
قل كم وكم زفرة ونشجة
له حين يذكركم وكم دمع شن
لو دونهم زاخر ولجة
لا خوض موج البحر واطفي الشجن
واسابق الطير السوابق
وانزل حمى من منزلي منزله(9)
ومثل:
لي في ربا حاجر غزيل احور
مثل القمر (10)
كما تحضر في ديوانه أيضاً أساليب الاستغاثة عند المتصوفة التي يستعمل فيها المصطلح الصوفي على طريقة القوم مثل قوله:
ألا يا آل ياسين
سحر الهوى في الحب قد طماني
عواذ ذالحين ذالحين
فالموج في غب الهوى رماني
ومن بين المحبين
ما احد مثيلي للهوى معاني
فيا أهل العنايات تلفت
بالله عجلوا تلافي (11)
ومثل قوله:
عجل يا هل العناية
بالله عليكم والنبي جماله
بحرمة كل آية
بالله تولوني بكل حاله
وراعوني رعاية
يا اهل الجميل الجم والجماله
عليكم جبر ما فات
والعلم يكن بالمراد كافي (12)
وجود الملفوظ الصوفي والمصطلح والعبارة . . ليس غريباً في عصرٍ غلبت فيه روح التصوف على كل ما عداها . . ولم يقتصر التأثر بأساليب المتصوفة في التعبير على الشاعر وشعره بل لقد ورد ذلك في الحكايات والأخبار التي يرويها عيسى بن لطف الله تقديماً لقصائد أو تعقيباً على قصائد في الديوان. . كما جاء في التعقيب على قصيدة (قل لمن عربد في تيه الصبا) يقول ابن لطف الله: (كنت عند سيدي محمد بن عبد الله في بعض السمرات وعندنا بعض أصحابه وهو فقيه يقال له عبد الله بن صلاح العماد وكان منقطعاً إلى سيدي فخر الدين عبد الله ابن الإمام شرف الدين رحمه الله تعالى وكان لا يفارق سيدي محمد طرفة عين لأنهما نشأ معاً، فلما وصل سيدي محمد بن عبد الله إلى صنعاء في الأيام الأخيرة اجتمع به الفقيه المذكور فجرى ذكر هذه القصيدة وسبب نظمها، فقال الفقيه عبد الله: أنا حافظ لها، فتلقيتها منه وأسمعتها سيدي محمد بن عبد الله، ثم إني قلت للفقيه المذكور: حدثني بموجب نظمها فقال: كنت في شبام عند سيدي محمد بن عبد الله وكان والده في الحج وقد كان قريب العيد ولم يكن تلك الساعة عند سيدي محمد شيء ذلك اليوم فخرجت من عنده على بنا أن أشتري له كلما يحتاج إليه من عندي فلم يشعر سيدي محمد بن عبد الله إلا وقد وفد إليه رسول من حضرة الخليفة الملك الناصر المطهر بن الإمام بكتاب يذكر فيه على أني عثرت على شيء من شعركم فأعجبني وسرني وأفرحني فحمدت الله على ما منحت به من الفصاحة والبلاغة: وقد صدر إليك صحبة الرسول ما تقضي به حوائجك في هذا العيد المبارك، قال الفقيه المذكور ثم إن سيدي محمد بن عبد الله بعث خلفي من يطلبني فعدت إليه فإذا الدراهم بين يديه فقلت له: من أين هذا الفتوح الرباني! فقص علي القصة فعند ذلك تصرفت له منها) (13).
لاحظ أنه قد ورد في سياق الكلام ثم إن سيدي محمد بن عبد الله بعث خلفي من يطلبني فعدت إليه فإذا الدراهم بين يديه فقلت له: من أين هذا الفتوح الرباني؟ . . معروف أن هذه الجملة الأخيرة جملة صوفية خالصة فالفتوحات الربانية من المصطلحات الصوفية الخاصة جداً.
الملاحظة الثالثة: ترتبط بسابقتها . . أو تتفرع منها .
لأستاذنا الشاعر الكبير/ إبراهيم الحضراني رأي جميل . . يفيد أن الشعر الشعبي في اليمن . . يختلف باختلاف المناطق واللهجات، فلكل لهجة خصائص تتعلق بالقلب والإبدال والتصحيف والتحريف وكذلك أساليب النبر وبناءات العبارة وبعض المفردات الخاصة التي قد لا تكون مستعملة بلهجة أخرى.
أما الحميني والكلام للحضراني فإنه يكاد يكون واحداً في لغته وبناءاته . . في سائر أنحاء اليمن .
وتكميلاً لرأي أستاذنا الكبير أقول: أن الملاحظ أيضاً أن ألفاظاً وعباراتٍ ومفردات من اللهجة التهامية تنتشر بأغلب هذا الشعر . . لا أقصد ما كتبه شعراء الحميني في تهامة . . مثل: ابن فليته، والمزاح، والعلوي، والفقيه مهير، وغيرهم . . أو ما كتبه شعراء الحميني المنتقلون إلى تهامة للدرس أو العيش أو السياحة أو حتى أولئك الذين انتقلوا إليها بوصفهم قضاةً وقادةً وحكاماً . . مثل: الآنسي، والعنسي، وابن المفتي، كذلك لا أقصد شعراء الحميني المنتقلين من تهامة إلى مناطق أخرى في اليمن مثل: القطب الكبير/ عبد الهادي السودي، وإنما أقصد الشعراء الذين عرف عنهم أنهم عاشوا في مناطقهم ولم يرتبطوا بتهامة إلا عن طريق قراءة وتلقي الـمُنْتَجِ الحميني الواصل من تهامة أو الاحتكاك بمن جاء من تهامة لأسباب مختلفة. وذلك يعود في رأيي ورأي دارسين آخرين مثل: العمري، وباجل (14)، وغيرهما إلى:
1- الازدهار الكبير الذي شهدته زبيد وغيرها من مدن العلم في تهامة من بين القرنين السادس والعاشر الهجريين. . وهو ازدهار من ذلك النوع الذي يجعل الـمُنْتَجِ الإبداعي القادم من الجهة المزدهرة مغرياً ونموذجاً يقلد ويُتَشْبَّهُ به.
2- الرواج الكبير الذي تحقق للقصيدة الـمُنشدة - والقصيدة الحمينية كانت جزءاً من الشعر الـمُنشد- على أيدٍ متصوفة في عصر الزخم السماعي الذي تبناه مجموعة من الأولياء الكبار في تهامة وكان مثار جدلٍ كبير بين الفقهاء وكبار رجال الولاية. . حتى أن الولي الكبير إسماعيل بن أبي بكر الجبرتي المتوفي في زبيد سنة 806 هـ كان قد خرج بالإنشاد من الزوايا إلى الأعراس ومناسبات الختان والأعياد وغيرها قبل إطلالة القرن التاسع الهجري(15) .
3- بل إن منشدي تهامة ومطربيها كانوا يخرجون إلى مناطق أخرى ينشدون ويغنون فيها أشهر القصائد الحمينية التي قالها شعراء زبيد وغيرهم. . وابن لطف الله يذكر شيئاً من ذلك في تقديماته لقصائد ابن شرف الدين وتذييلاته عليها . . كما جاء في هذه السطور التي عقب بها على قصيدة (أشجيت يا بلبل البان أشجيت) قال: (أول ما سمعت هذه القصيدة المتقدمة من رجل مطرب يقال له علي العلوي من أهل زبيد وكان متقناً للمعاني اليمنية لا يجاريه فيها أحد وكان يقرع في الصحن ومعه شخص آخر يحرك العود فكنا مجتمعين في وادي ضهر في حضرة سيدي الوالد فخر الدين عبد الله بن المطهر بن أمير المؤمنين وسيدي صارم الدين إبراهيم بن المطهر وعدة من الأهل الأعيان، وكان لذلك موجبٌ فقلت للمطرب المذكور: لمن هذه القصيدة؟ فقال: لسيدي محمد بن عبد الله) (16) .. إلخ.
4- إن الشعراء الكبار الذين زخرت بهم زبيد كانوا من السحر بحيث لا يستطيع شاعرٌ التفلت من أسرهم . . وإن في إصرار ابن شرف الدين على استلهام المزّاح ومعارضته بل وربط بدايته الشعرية به من خلال ذلك المنام المشهور لدليلاً بالغاً على ما نقول. . حيث أورد ابن لطف الله في تذييله على قصيدة (أمانتك يا فوج يا يماني).
(أخبرني سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله تعالى أنه كان قليل الميل إلى نظم الشعر الحميني، فرأى في بعض الليالي، فيما يرى النائم أنه وقف على جبل عرفات قال: فما شعرت إلا بشخص أخضر اللون حسن الهيئة، دنا مني وعانقني بالسلام قال: وبعد ذلك أفضت من عرفات ودخلت الحرم فبينما أنا أطوف حول الكعبة: إذ بذلك الشخص الذي وافقني على الجبل قد دنا مني وأعاد المصافحة والسلام فقلت له: من أنت، فقال: أنا محبكم الفقيه عبد الله المزاح وأخرج من كمه شيئاً فإذا كتاب مجلد فناولني. وقال: هذا ديوان شعري الموشح والمبيت الحميني قد وهبته لك. قال فما استيقظت من المنام إلا وقد أشرب قلبي بنظم الشعر الحميني فكانت أول قصيدة قلتها في ذلك. انتهى كلام سيدي محمد بن عبد الله بن الإمام شرف الدين رحمه الله.
قلت: ومن عجائب الاتفاق أن الفقيه عبد الله المزاح جرى له قبل أن يقول الشعر. منام وهو في سن الصغر فينبغي إيراده في هذا المحل فالشيء بالشيء يذكر: أخبر الفقيه الأديب عبد الله بن أبي بكر المزاح أنه كان لا يقدر لنظم شيء من الشعر وأقام على ذلك أياماً ثم إن خاله ألزمه حراسة زرع له. وكان في ذلك الزرع صبْيّة جميلة الخلق صغيرة السن. تسمى جملى وكان يهواها للمجالسة وهي شديدة النفور عنه فجاءت وجلست عنده يوماً تحدثه، وتضاحكه، فاستغرب ذلك منها. وكانت قد أرسلت أغنامها على زرع خاله وقصدت بالمحادثة تشغله عن منع الأغنام فلما استكفت أغنامها وخرجت من الزرع قامت هي من عنده ففطن لحيلتها وخاف من خاله، فهرب واستتر في مكان مهجور، فبات فيه فرأى في منامه سرداباً من ذهب في المكان الذي هو فيه والناس يحملون منه قال: فهممت بالأخذ منه فظهر لي شخص كريه المنظر أشعث الرأس وأطعمني شيئاً مثل العجين في حلاوة العسل وقال: رزقك في هذا أجز هذا البيت وأنشده وهو:
وطيف عاد منك فلم يزدني
على تسليمه وعلى وداعي
قال فقلت:
طمعت بما تُحيْت المرط منه
ولم أظفر بما تحت القناع
فقال ذلك الشخص أحسنت والله أنت ثم انتبهت وخاطري يمرح بالشعر فما لبثت قليلاً حتى جاءني خالي وجماعة من أهله فدخلوا المكان الذي أنا فيه فعاتبني خالي على هربي وتفريطي في الزرع فقلت:
ألا يا خال عاتب أهل جملى
ولا تعجل بسبي أو بضربي
رعت بالأمس زرعك ذا احتيالا
وظلت ترتعي أثمار قلبي
ثم إنه اشتهر بنظم الشعر الحميني والحكمي أي اشتهار ولاح بدره في أفق المعارف ودام هواه لجملى حتى شب وشبت فخطبها من أبيها فشرط عليه مالاً كثيراً ولم يكن في وسعه فهجس في خاطره أنه يمدح الإمام المنصور بالله علي بن صلاح الدين رحمه الله فامتدحه بقصيدة باهرة فأركبه فرساً وكساه كسوة ً فاخرة وأعطاه خمسمائة دينار وأمره بأن يعاوده كل سنة بمثل ذلك فرجع الأديب المذكور فلما قدم تعز لقي من أهل بلده أناساً فأخبروه أن جملى تزوجت من أهلها فلم يحر جواباً ولا استعاد خطاباً ثم أغمي عليه ثم انتبه وقال:
لقد خبروني أن جملى تزوجت
وقد نال من تلك المحاسن زوجها
فبتُّ كأني في غوارب لجةٍ
يقلبني في ظلمة الليل موجها) (17)
الهوامش
(1) ندوة الموسيقى اليمنية وآفاق تطورها التي انعقدت في مؤسسة العفيف الثقافية من 13- 14 مارس/ 2004م
(2) ديوان مبيتات وموشحات محمد بن عبد الله شرف الدين، جمع وترتيب عيسى بن لطف الله، تحقيق إسماعيل المؤيد وإسماعيل الجرافي، إصدارات صنعاء 2004م. ص13.
(3) عبد الله خادم العمري - (الموشح الحميني والإنشاد اليمني )، الشلة التهامية- إصدارات صنعاء 2004م،ص38.
(4) المصدر السابق. ص8.
(5) الشعر الحميني الريادة والأصول- عبد الجبار نعمان باجل، سلسلة مكتبة الأدب الشعبي - إصدار مشترك بين اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ، ط1، 2004م ص39.
(6) المصدر السابق: ص41، 42.
(7) ديوان مبيتات وموشحات - مصدر سابق ، ص15.
(8) ديوان محمد بن عبد الله شرف الدين الكوكباني ، الموسوعة الشعرية، الإمارات العربية المتحدة ، إصدار 2003م.
(9) المصدر السابق.
(10) المصدر نفسه.
(11) المصدر نفسه.
(12) المصدر السابق.
(13) ديوان مبيتات وموشحات، مصدر سابق ، ص18، 19،
(14) تطرق باجل لهذا في مواضع مختلفة من كتابه الشعر الحميني الريادة والأصول، انظر مثلاً ص220 وما بعدها. وقد طرق العُمري الموضوع في كتابه المشار إليه سابقاً .
(15) عبد الله الحبشي: الصوفية والفقهاء في اليمن، دار نشر الثقافة - القاهرة - 1976م، ص22.
(16) ديوان مبيتات وموشحات مصدر سابق، ص163.
(17) المصدر السابق: ص141، 142، 143.