{myadvertisements[zone_1]}
كنت أعمى والآن أبصر ..
Abanoob غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,567
الانضمام: Apr 2004
مشاركة: #71
كنت أعمى والآن أبصر ..
كنت أعمى والآن أبصر ..

الحلقة السادسة :


الرب ينبئ أمي بأنني سأكون مبشراً لأسمه وسوف أعاني الكثير من أجل ذلك !!!

حكاية ( القلم و القربانه )!!!
قبل مغادرتي للدير تذكرت الرؤيا التي أراها السيد المسيح لوالدتي ( رحمها الله) وتفسير الآباء الرهبان لها :
فلقد حدث أن جاءت أمي لزيارتي في الدير في شهر يوليو1987 ( وفي اليوم الذي يوافق عيد ميلادي السابع والعشرون ) شاء الرب أن ينبئ أمي بهذا الأمر العظيم ، فحدث أثناء جلوسها في استراحة السيدات ، أن فوجئت بنفسها وهي تتغيب عن الوعي للحظات خاطفة ، ثم رأت شخص يتقدم منها وهو يمسك في يده ( قلم وقربانه ) ويقول لها : قومي يا ست وخذي ( القلم والقربانه ) دول وأعطيهم لأبنك صموئيل !!!!

وعندما أفاقت أمي ، ولم تجد الرجل الذي كان يتحدث معها ، تعجبت جداً من هذه الرؤيا وأسرعت بقصها على أحد الآباء الرهبان المباركون وكان أسمه أبونا شاروبيم ، فقال لها : أفرحي يا أمي ! ، فهذه رؤيا عظيمة جداً شاء الرب أن يعلنها لك !!

وهي تتعلق بمصير أبنك صموئيل ، ف " القلم : يرمز إلى ( البشارة ) وأما " القربانه " فهي ترمز إلى ( الألم ) المصاحب لهذه البشارة . وتفسير هذه الرؤيا هو الآتي :

الله يعلن لك بأن أبنك صموئيل هذا سوف يأتي عليه يوماً يصبح فيه مبشراً باسم المسيح !!!
وسوف يتألم كثيراً جداً بسبب هذه البشارة !!!

فتعجبت أمي من هذا التفسير وقالت بثقة عجيبة :
أنا كان قلبي حاسس من زمان أن أبني هذا الذي كان مكروهاً ومنبوذاً من المسيحيين بسبب محاربته لهم ، سوف يأتي عليه يوم ويلتقطه المسيح من أرض الضلال والتجديف ويجذبه إليه ، ثم يجعله مبشراً لأسمه بشجاعة ، لأن أبني طل عمره وهو راجل شجاع ، ولا يخاف من أحد !!

وهاأنتم كلكم قد رأيتم بأعينكم كيف استطاع أبني أن يتحدى كل هؤلاء المسلمون الجبابرة ، ويخرج عن طوعهم ويصير مسيحياً ، ثم أن ابني هذا كان ( بركة البيت ) وهو طفل صغير ، وأذكر أنني حلمت له حلم عجيب وهو لم يزل في الخمسة من عمره ، أن رأيته قد كبر وأصبح رجلاً ويقف وسط ساحة كبيرة جداً وحوله جماعة من شيوخ مسلمين وممسكون بأيديهم بسيوف وعصي وسكاكين ، وأبني واقف بينهم يدافع عن الإيمان المسيحي بطلاقة عجيبة ، ثم أخذوه وطرحوه أرضاً وربطوه بالحبال ، ثم ظهر شيخ كبير منهم يبدوا عليه أنه رئيسهم ، ثم أصدر على ابني حكم بالموت بطريقة صعبة ، وهي عبارة عن إلقائه على ظهره ثم تمر من فوقه خيولهم فتمزق أحشائه بحوافرها !!! فحاولت أن أموت بدلاً منه ، لكنهم رفضوا وأصروا أن يميتوه هو .. فقمت من نومي وأنا مذعورة ، ولا زلت أتذكر هذا الحلم العجيب .

وفي نفس هذه السنة أيضاً حلم أبني بأن هناك أناس قاموا بتعريته وربطوه ووضعوه داخل إناء كبير وعلى حواف الإناء شعلات نارية ، وهناك ديوك رومي متوحشة تنهش لحمه وهو يصرخ !!!

ثم قالت :
والآن وبعد كل هذه السنين هاهو الرب يفسر هذه الأحلام القديمة ، لأن أبني صار مهدداً بالموت من أجل المسيح ، فهل سيموت شهيد ؟

فقال لها أبونا شار وبيم : لا أعرف ، ولكن هذا أمر محتمل جداً ، لكن ليس الآن ، بل بعدما يتمم رسالته !!!

أما أنا فتعجبت جداً من تفسيرات هذا الأب الراهب القديس البسيط ، واستبعدت تماماً إمكانية تحقيها !!

وقلت في نفسي :
لربما تكون مجرد تهيؤات من أمي ، أو أن تكون هذه هي رغبتها الداخلية كأي أم مسيحية مجروحة في أبنها ( الذي كفر ) وتريد أن تراه وقد عاد للإيمان وصار مبشراً مسيحياً ومدافعاً عن الإيمان المسيحي بقوة وشجاعة ورجولة .

قلت هذا رغم علمي بأن أمي كانت مسيحية مؤمنة إيمان بسيط وعميق وقوي وكانت تؤمن بلاهوت المسيح إيمان راسخ غير مؤسس على العلم ، بل على الإيمان وحده المدعم بالمواقف الحياتية المتنوعة . وكانت لا تعرف شيء في الدنيا سوى المحبة والتضحية وإنكار الذات من أجل أولادها ، وكانت من فرط بساطتها يتعامل معها الرب عن طريق الأحلام والرؤيا و ( الإحساس عن بُعد ) ، وكانت كل ما تراه من أحلام أو تحس به ، غالباً ما يتم تحقيقه بحذافيره فيما بعد !!

ونظراً للمظالم الكثيرة التي تعرضت لها هذه الانسانة المسكينة في حياتها ، فقد دفعها ذلك لتلقي بكل أحمالها على الله ليحملها هو عنها ، وليعولها هي وأطفالها الصغار ، وكان لها إيمان عميق ودالة كبيرة عند ربنا ،إذ كانت تعتقد أن ربنا هو ( زوجها ) و( أبو ) أطفالها !! وكانت تبرر ذلك قائلاً :

ألم تقل يا رب في كتابك : أنك أبو اليتيم وزوج الأرملة ؟! وأطفالي أيتام ، وأنا أرملة !!!

وكانت على علاقة قوية جداً بالقديسة العذراء مريم ، وبالقديس بولس الرسول التي كانت تحبه بجنون وتسميه ( أستاذ المسيحية ، و فيلسوف ها ) بعد المسيح مباشرة .

وكانت تعجب جداً بدفاعه الحار عن المسيح ، وسعة صدره في إقناع غير المؤمنين . كما كانت تحب شخصية داود النبي محبة كبيرة ، وتتعلق بالمزامير بطريقة غير عادية ، وكثير من آيات المزامير كانت تبكيها !! وأذكر أنها بعدما ضعف بصرها ولم تعد قادرة على قراءة الكتاب المقدس ، كانت تطلب مني أقرأ لها من المزامير حتى تنام !!! وكانت تتشفع بكل القديسين على رأسهم القديسة العذراء مريم ، والقديس بولس الرسول ، والقديس مار جر جس .

كما كانت تتشفع بالملاك ميخائيل ، وتخاطبه في صلاتها قائلة : يا رئيس جند الرب ، تشفع لي عند المسيح ملك الملوك ورب الأرباب ..

ورغم فقرها الشديد إلا أنها كانت تستضيف الناس في بيتها بكل كرم ومحبة حتى لو اقترضت من الناس تكاليف هذه الضيافة !! لهذا فالرب أحبها وباركها وأعلن لها الكثير من الأمور المستقبلية .

وقد حدث لأمي وهي أرملة شابة أن التقت بالقديس العظيم البابا كيرلس السادس وصلى على رأسها وباركها بصليبه وقال لها بدون ما تشرح لقداسته أي شيء عن ظروفها الصعبة باعتبارها أرملة تعول سبعة أطفال في مراحل التعليم المختلفة : متخافيش يا ابنتي لأن ربنا ها يسترها معك !!

وكان أبونا القديس القس بولس شاكر يقول عن أمي أنها قديسة ، وشبهها بالقديسة مونيكا أم القديس أغسطينوس ، فقال أن دموعها هي التي جعلت المسيح يذهب ورائي حتى الكعبة !!!

وألقى عظة في كنيسة العذراء بالدقي عام 1987 عن إيمان أمي ودموعها ورجاؤها في المسيح .

وإجلالاً لدور هذه الأم المسيحية المؤمنة والشجاعة ، أذكر لكم هذا الحادث العجيب الذي يدل على شجاعتها الإيمانية المذهلة :

عندما سمعت أمي بأنني صرت أبناً بالتبني للشيخ النجار ، جن جنونها ، وعادت وفتحت بيتنا الذي كانت قد أغلقته لظروف قاهرة ، وراحت تفتش عني في الشوارع والطرقات وهي تبكي وتنتحب ، وكانت تقول : هذا ظلم ، كيف يأخذون طفل صغير من أمه ، وكيف يجعلونه مسلماً ، وهو لا يعرف شيء بعد عن الأديان ؟

وحدث أن رأتني مصادفة وأنا أسير في الشارع وكان عمري آنذاك 16 سنة ، فألقت بنفسها علي ، وقبلت يدي وقدمي في الشارع !! ، وتوسلت أمامي بدموع حارقة لكي أعود معها للبيت وقالت لي :

سامحني يا أبني لأني تركتك فترة وأغلقت البيت في وجهك ، لم أكن أعرف أن الثمن سيكون ضياعك مني ، لكن أنا رجعت لك الآن وفتحت لك البيت ، فتعال وعش معايا ، وأرجع لأمك ، أنظر إلى كسرة قلبي عليك ، أنظر إلى عيوني التي عميت من كثرة البكاء على ضياعك ، والتي ستموت بحسرتها عليك ، و أنا آسفة يا أبني عن كل ما حدث لك من (…) وأنس الماضي وتعال لي ، أنا سأكون خدامه تحت رجليك ..

ثم سألتني قائلة : هي فين الأوراق اللي عملها لك الناس الأشرار دول ؟!

ثم فتشت جيوبي فوجدت أوراق التبني ووثيقة أخرى تقول أنني ( مسلم ) ..
فأخذت كل هذه الأوراق التي بحوزتي !!!

وهنا جن جنوني ، وتصرفت معها بقسوة ووحشية لأن الشيطان كان قد تملكني وصرت في قبضته ، ورغم من قلة أدبي معها ، إلا أنها احتملتني ، وقالت لي :
أفعل أي شيء معي ، اقتلني ، لكن لا تسير في هذا الطريق المظلم ، أنا خائفة عليك لتموت عندهم وأنت كافر؟

فقلت لها بكل صفاقة وقلة حياء :
أنا لست كافر ، بل أنا على دين الحق ، لكن أنتي اللي كافرة !!!

فقالت المسكينة :
زي بعضه يا أبني ، كافرة ، كافرة ، لكن أنا أمك ، وأنت أبني ، ولازم ترجع لبيتك وتعيش معايا ومع أشقائك .

فقلت لها : أنت لست أمي !
أنا أمي هي (…) زوجة الشيخ النجار !!!

وعندما لم أجد فائدة من الحديث معها ، هممت بأن أتركها ، لكنها طوقتني بذراعيها وقالت لي :
أنا لن أتركك تهرب مني ، أنا ما صدقت لقيتك .

فدفعتها بعنف شيطاني ، وجريت منها ، فظللت تجري خلفي ( رغم كبر سنها وضعف بصرها ) وكانت تصرخ ورائي وتقول :
أرجع يا أبني ، حرام عليك تقضي علي ..

وكانت تصرخ وتلطم خدها ، وأخيراً سقطت على الأرض !!! ، وتجمع الناس من حولها وأشفقوا على حالها وأقاموها وتطوع أحدهم بإرجاعها لمنزلها . بينما أنا كنت اختفيت وسط الزحام ، ثم ذهبت إلى قسم شرطة شبرا لأشكوها للبوليس ، وأطالبها برد أوراقي لي !!!

( تخيلوا مدى ظلمي وشري وانحطاطي وسلوكي الإجرامي مع أمي وأنا مسلم )

وتخيلوا هذه الجريمة البشعة : أبن يشكو أمه في الشرطة ويطالب بالقبض عليها ‍‍‍!!!

وانظروا ماذا فعله بي الشيطان ، وكم كنت مجرم وسفيه ، وكم كان قلبي متحجر ،وكم كانت قسوتي ، فلقد أعمى المسلمون قلبي وحجروا مشاعري منذ صغر سني ..

وقام أحد ضباط المباحث باستدعاء أمي من منزلها لقسم الشرطة ، فجاءت أمي ووقفت أمام الضابط بكل شجاعة ولم تهاب الموقف ..

فقال لها الضابط : ابنك يا ست يتهمك بمحاولتك إرجاعه عن الإسلام ، ويقول أنك أخذت منه بعض أوراقه التي تثبت هويته الإسلامية ، وهو يطالبك الآن بإعادتها ، وعدم التعرض له في الطريق .

فقالت أمي للضابط بشجاعة مسيحية نادرة تذكرنا بأمهات زمان :
أي إسلام ؟! وأي أوراق ؟!

أن كل ما تم مع أبني من إجراءات ، هي باطلة ، لأن أبني كان طفل صغير ، ولا يزال حتى الآن صغير لأنه لم يبلغ سن الرشد بعد ، حتى يقدر أن يقرر مصيره بنفسه ، ثم أنا والدته والمسئولة عنه وولي أمره بعد وفاة والده ، وأعرف تماماً ظروفه ، ولماذا التجأ للغرباء ، وأنا لم أكن موجودة معه في المنزل عندما حدثت له كل هذه المآسي ، والله يجازي اللي كان السبب ، وكل ما حدث لأبني من تجاوزات كان في غيابي ، ولو كنت موجودة لكنت وفرت له الحماية وقطعت اليد التي امتدت له بالتعذيب والضرب والكي في جسده الصغير ، ثم أنا قد تركت كل شيء من أجله وعدت لبيتي ثانياً ، وقررت أن أتفرغ لرعايته ، ولا يمكن يكون هناك قانون يمنع ولد عن أمه الأرملة والتي عاشت شبابها كله من أجل رعاية أولادها ، ثم أن هذه الأوراق أنا مزقتها بيدي من غيظي ودوست عليها بقدمي من حرقة قلبي ، ويمكنكم الآن أن تسجنوني ، فأنا أعترف أنني أخذتها منه ومزقتها ، لأنها أوراق باطلة ، لأن هذا هو أبني الشرعي ، لكن الشيخ النجار منه لله سرق مني أبني ، وأستغل ظروفه الأسرية والنفسية استغلال سيئ و حتى لو أبني في نظر الحكومة قد صار مسلم ، فهو أيضاً سيبقى أبني ، ولو صار كافر فهو أبني ، ومهما تغيرون له أسمه وهويته الدينية ، فهو أبني من لحمي ودمي ، وسيظل أبني لآخر نفس من عمري ، ثم أنت يا حضرة الضابط ألم يكن لك أم تحبك ، وتخاف عليك ومستعدة أن تضحي بحياتها من أجلك ؟ فكيف تستكثر علي أيها الضابط أن أمارس حقي كأم تحاول حماية أبنها واستعادته من طريق تراه أنه لم يختاره بمحض إرادته ؟ بل الظروف القاسية هي التي فرضته عليه .

قالت هذا ثم انهارت باكية .

ووضع المسيح رحمة في قلب الضابط المسلم ، فتأثر بدموعها ، وقام عن مقعده وأجلسها ، وقال لها :

أنتي فعلاً أم عظيمة ، وأنا شخصياً أحمل لك كل احترام ، وأقدر مشاعرك ، ولكن يا أمي أنا هنا أطبق القانون ، والقانون يقول أن أبنك هذا أصبح مسلم ، وهو ابن بالتبني للشيخ النجار، ويحذر عليك محاولة اعتراض طريقه أو إرجاعه عن الإسلام .

ثم وجه كلامه لي قائلاً :
أما أنت فعليك أن تصالح أمك وتعتذر لها أمامي الآن ، فالله كرم الأم ، وهي ذو فضل كبير عليك والقرآن يقول لو أن أبيك وأمك طلبوا منك تشرك بالله فلا تطيعهما ، لكن تصاحبهما في الدنيا بالمعروف والإحسان ، ولا تقل لهما : ( أف ) . وعيب عليك أن تدفعها بيدك ، وعار عليك أن تتسبب في سقوطها في الشارع عندما كانت تجري خلفك ، وجريمة في حقك أن تشكوها وتجرجرها لأقسام الشرطة !!!

لكني من شدة قسوة قلبي رفضت الاعتذار لها !!!
وغادرت قسم الشرطة ناقماً عليها !! وقمت بعمل استخراج بدل فاقد للأوراق التي مزقتها

سامحيني يا أمي ، أنطقها بدموع وقلب منكسر وأتمني أن أراك الآن لأركع تحت أرجلك وأقبلهما ، لكن أين أنتِ الآن يا أمي ؟

ولعل الأخوة القراء يعرفون الآن لماذا أنا أقول لهم بشكل دائم : أني خاطئ ؟

فهذه هي جرائمي التي تطوق عنقي ، اعترف بها وأتذكرها وكأنها حدثت بالأمس ، ولعلهم يعرفون على الجانب الآخر كيف أن الرب من فيض كرمه ومحبته غفر ذنوبي وقبلني إليه رغم كل خطاياي المميتة .

وأعود إلى استكمال موضوع رؤيا أمي في الدير :
رفضت تصديق هذا الأمر الغريب ، لأنه كيف يصدق عاقل أن كلب مثلي يمكن له أن يصبح مبشراً مسيحياً ذات يوم ؟ لذلك قلت لأبينا الراهب القديس :

يا أبونا أنت باين عليك رجل طيب ، وبتقول كده عشان ترفع من روحي المعنوية ، لأنه كيف لي أن أصير مبشراً بالمسيحية وأنا مجرد جحش لا يفهم ؟ ثم أن حياتي يا أبونا هي كلها خطايا وتجديف في حق الله ، فكيف يتنازل ويجعلني من خدام أسمه؟ ثم أنا إنسان غبي وبطيء الفهم ولا أعرف شيء عن المسيحية بعد ، فكيف أصير مُعلم مسيحي ؟ لعل قداستك يعرف أنني لا زلت أجاهد حتى الآن لأصير مسيحياً وتعترف بي الكنيسة ضمن أولادها وأتباعها ، فكيف يمكن وأنا مجرد شخص تائب ومبتدئ في حياة الإيمان أن يختارني الرب لأكون مبشراً باسمه ؟ وهل معقول يا أبونا أن الله يختار نفاية الناس ليجعلهم خدام لأسمه المبارك ؟

ثم كيف يختارني المسيح لهذه المهمة بينما أنا نجس القلب وأقل من البهيم في المعرفة ؟

فقال أبونا القديس :
( شوف يا أبني ، جيد جداً أن ترى نفسك هكذا ، فهذا مؤشر حسن للنضج الروحي ، بل هو من أول درجات القداسة الحقيقية أن يعترف الإنسان بخطاياه ونقائصه ، ويشعر بعدم الاستحقاق ، فالرب يا أبني يرفع المتواضعين ويقاوم المتكبرين ، ثم لابد أن تعرف أن الله عنده كثير من العطايا الثمينة لأولاده ، وهو قد اختار جهلاء العالم ليخزي بهم الحكماء ، والمسيح يا صموئيل يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر ، وهو سوف يعلمك ويعدك لهذه الرسالة في الوقت الذي يراه مناسباً ، وأنا لم أقول أنك ستصبح مبشر الآن ، إنما بعدما يعدك الله بنفسه لهذه المهمة ، وأنت الآن في مرحلة هذا الإعداد ، ووقت فرزك للبشارة سوف يتحقق ذات يوم ، لكن ليس الآن ، وإن كان ليس ببعيد جداً ، ولربما يكون بعد سنة ، أو سنتين ، وأما بالنسبة لضعفك فالرب قادر على أن يقويك ويسندك ويؤهلك لهذا العمل . وثق يا أبني أنك سوف تصبح مبشر معروف ، وسوف تتحدث مع الناس عن مراحم الرب في حياتك ، وستكون لك رسالة كبيرة ، ولربما تتخطى حدود مصر لتصل إلى بلاد أخرى ، وسوف تدافع عن استقامة الإيمان بقوة وجراءة ، وسوف تعيش وترى بأم عينيك عمل الرب العجيب في حياتك .

كان أبونا الراهب القديس يتحدث بثقة عجيبة ، ولكنى بصراحة لم أكن أتخيل أبداً إمكانية تحقيق مثل هذا الأمر ، رغم أني كنت أشعر في قرارة نفسي بأن الله أحضر بي إلى هذا الدير وسمح ببقائي طوال هذه المدة لهدف بعيد المدى ضمن ترتيباته لإعدادي لخدمة أسمه ، وأحياناً كنت أرى هذا الهدف يلوح أمامي في الأفق البعيد ، ولكن بطريقة غير واضحة المعالم .

تذكرت ذلك وخاطبت ذاتي قائلاً : هل حقاً يا أيها النجس الشفتين والقلب ، أن السيد الرب سوف يجعلك مبشرا باسمه ذات يوماً ، كما قال بذلك أبونا الراهب القديس ؟!

وهل حقاً أنك سوف تتألم من أجل اسمك المبارك ؟ أنت الذي ترفهت على حساب مقاومتك لهذا الاسم ؟ فهذا لو حدث ، فسوف تكون معجزة فريدة من نوعها ، وسيكون شرف كبير لا تستحقه .

وتذكرت أيامي الأخيرة في الجامع عندما كنت ألقى الدروس الدينية على المصلين ، وكيف أنني خاطبت الله ذات مرة قائلاً له بتلقائية :
يا سلام يا رب لو يأتي علي يوم وألقى فيه دروس دينية على المسيحيين في الكنيسة [1]!!!
بدلاً من إلقائي الدروس على المسلمون في الجامع ؟؟!!!
وبدلاً ما الناس تناديني ب ( الشيخ محمد ) ، تناديني ب ( أبونا ) ، أو ( المبشر ) !!!

أول محاولة لإعلان إيماني المسيحي الوليد :
كنت وأنا في الجامع قد عاهدت السيد المسيح بأنني مجرد خروجي منه سوف أوشم يدي بالصلبان ، حتى يعرف كل من يقابلني من المسلمين أني صرت مسيحياً فيقتلوني وأموت شهيد !!!! ولكن بعد خروجي من الجامع توجهت للدير مباشرة ، ولم يكن هناك فرصة لوشم يدي .

خاصة والذين يقومون بعملية وشم الصلبان على الأيدي يجلسون على أبواب الكنائس في مناسبات أعياد القديسين ، فينتهزها الأقباط فرصة لوشم أيدي أطفالهم بالصلبان كعلامة على هويتهم المسيحية وسط بلد غالبيته من المسلمين المتعصبين . وحدث أن سمح لي الدير بالنزول أجازه لثلاثة أيام وكان هذا موافق لعيد القديسة العذراء ، فأخذت زوجتي وذهبنا سوياً إلى كنيسة القديسة العذراء مريم الأثرية بمنطقة ( مسطرد ) وكان بأسفل الكنيسة بئر به ماء لا ينضب ، يقول التقليد أن السيد المسيح والعائلة المقدسة قد شربوا منه فذهبت وشربت من هذا الماء المقدس ، وبعدها نزلت إلى المغارة التي جلس فيها المسيح مع أمه العذراء ، وعندما دخلتها شعرت برهبة كبيرة ، وبقشعريرة تسرى في جميع أنحاء جسدي ، ثم صممت بعدها على أن أوشم يدي بالصلبان ، وتعمدت أن يكون موضع الوشم شديد الوضوح حتى يراه الجميع فيعرف أني صرت مسيحي . فوشمت يدي اليمنى ليس بصليب واحد ، بل ثلاثة صلبان على ظهر كف يدي الأيمن ، وصليب كبير في الرسغ ، كما وشمت صورة المسيح وهو داخل الصليب ، وهذا الوشم الكثير على جلد يدي قد سبب لي الكثير من الألم الشديد ، لكني كنت فرحان جداً به ، ولم أتمالك دموعي من الفرحة وأنا أرى يدي أصبح بها الصليب رمزاً لإيماني المسيحي الوليد .

أما زوجتي فلما رأتني أتألم فخافت واكتفت بوشم صليب صغير في يدها اليمنى !!!

ثم رجعنا ثانياً للدير ، فلما شاهد الآباء يدي وبها كل هذه الصلبان ، قاموا بتوبيخي بشدة بسبب تسرعي في إعلان إيماني ، فبكيت أمامهم وقلت لهم :
أنا كنت مشتاق لأعلن إيماني بالمسيح بعد سنوات طويلة من الاغتراب عنه ، ولم أجد طريقة أخرى أعلن بها إيماني سوى وشم يدي بالصلبان !!!

فتفهموا موقفي وقالوا : يا أبني نحن نعرف صدق إيمانك ، ولكننا نخاف عليك لئلا يراك أحد من المسلمون الذين كانوا يعرفونك في الماضي ، فيرون الصلبان على يدك فيعرفون إنك صرت مسيحياً ، وقد يعذبونك بعنف لحملك على الارتداد ، ولربما لا تحتمل التعذيب ، فترتد وتعود ثانياً للإسلام ، لكن ليعطيك الرب حسب قلبك ، وما دمت أنت مشتاق لإعلان إيمانك بهذه السرعة فالرب سوف يقويك لو دخلت في هذه التجربة .

ثم قال أب راهب آخر :
يا بني نحن نخاف عليك لأنك لازلت في بداية الطريق ، ولا نعرف لماذا تتعجل الإعلان عن إيمانك بشكل واضح وصريح أمام الناس ، فلقد يؤدي ذلك إلى إيذائك .

فقلت له وأنا أبكي : يا أبونا أنا لا يهمني الإيذاء ، ولكن كل ما يهمني هو أن يعرف الجميع أني صرت مسيحي ، فلقد وعدت المسيح أنه بمجرد خروجي من الجامع سوف أدق صليب كبير في يدي إعلاناً عن إيماني المسيحي ، وهاأنا قد وفيت بوعدي للمسيح .

فربت على كتفي وقال لي : الرب يباركك يا أبني ويعطيك بحسب قلبك .

كان لدي اشتياق جارف للاستشهاد على اسم المسيح ، وكنت أحلم بأنني وقعت في يدي المسلمون وقاموا بتعذيبي حتى الموت لحملي على الارتداد ، فكنت أتخيل نفسي وأنا صامد أمامهم حتى الموت !!!

الجلباب الأسود الخشن ، والصليب الحديدي العجيب
كان أصعب شيء قبل مغادرتي للدير هو أن أخلع جلبابي الأسود الذي أعطاني إياه المرشد الروحي للآباء الرهبان قداسة الأب القمص ( م ) وهو راهب شيخ قديس ، بل وأقدم راهب في الدير . وهو الجلباب المبارك الذي ظللت ارتديه طوال فترة إقامتي بالدير ، وكان خشناً جداً ، وقديم للغاية ، لكني كنت أشعر وأنا أرتديه بأنني أرتدي زي ملوكي !!!

ثم نظرت إلى الصليب الثقيل الذي يلتف حول عنقي وقلت في نفسي : قد أخلع الجلباب لنزولي للعالم ، لكن لن أخلع هذا الصليب أبداً ..

صليب عجيب من أسلاك الكابلات الكهربائية الضخمة والمسامير الكبيرة !

وكان هذا الصليب العجيب يزن حوالي خمسة كيلو ! ، وقد قمت بصنعه بنفسي من مخلفات الحديد وأسلاك كابلات الكهرباء الضخمة ، ومن المسامير الحديدية الكبيرة !!

فلقد اهتديت إلى فكرة صنع هذا الصليب الثقيل من باب تأديب النفس وتعذيبها !!

وظللت أسبوع كامل أصنع فيه في سرية تامة ، وكان شائك جداً ويسبب لي الكثير من الألم ، خاصة وأنا كنت أنام به ، ولا أنزعه من حول عنقي أبداً حتى أنه سبب لي جروح حول عنقي وصدري ، لكني كنت أتلذذ بهذه الآلام ، واعتبرها نوعاً من التوبة والانسحاق وجلد الجسد !!!

الرب ينقذني من الغرور والشعور بالبر الذاتي
كان لي قانون روحي أسير بمقتضاه داخل الدير ، وهو عبارة عن عدد معين من الصلوات والأصوام ، والقراءات الكتابية والإيمانية والروحية والكنسية ، وعدد معين من المطانيات ( السجود للمسيح أثناء الصلاة) وهذا التدبير أو " القانون " يسلمه المرشد الروحي لأبنائه بحسب قامتهم الروحية ، وهو غالباً يأخذ بالتدرج من أسفل إلى أعلى ، وكان لكل راهب في الدير قانون روحي يسير بمقتضاه ، وكان أبي الروحي في الدير رجل قديس وبسيط جداً وكان أب روحي لكثيرين من الرهبان ، كما كان متخصص في توجيه وإرشاد طالبي الرهبنة ، وقد اعتبرني هذا الأب القديس أنني راهب !

فطبق علي الكثير من قوانين الرهبنة ، وخاصة في طريقة الصلاة اليومية لأنه كلفني بصلاة ( الأجبية ) كلها كل يوم ما عدا ( تحليل الكهنة ) فقط !!

وفي البداية استصعبت الأمر ، لكن مع تذكري لخطاياي ، ورغبتي في المصالحة مع الله ،والنمو في حياة النعمة والجهاد والتوبة ، بدأت لا أشعر بثقل هذا القانون ، بل واعتدت عليه مع الممارسة اليومية ، ثم بدأت أزيد عليه من عندي بدون الرجوع للمرشد الروحي ، فصرت أطيل الصلوات ، وأكثر من المطانيات والقراءات والأصوام السرية ..

وذات مرة كنت أصلي في الجبل خارج أسوار الدير بنحو خمسة كم ، واندمجت جداً في الصلاة حتى أنني لم أشعر بنفسي ، وكنت أردد هذه الآية المحببة لقلبي :
((( من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين ، أقوم الآن أصنع الخلاص علانية ، يقول الرب ))) ..

وظللت أردد هذه الآية عشرات المرات ، وفجأة شعرت بأن روحي تختطف مني ، ونسيت العالم بكل ما فيه ، وشعرت بأنني انتقلت إلى عالم آخر ، عالم أكثر سلاماً وهدوءاً ..

ظللت على هذا الحال حوالي ثلاث ساعات ، وبعدها تذكرت موعد عملي داخل الدير ، فاختتمت الصلاة وقلت :
ارحمني يا رب واقبلني إليك وخلصني من مضايقي ...
ففوجئت بالرمال أسفل قدمي وهي تتكلم وتقول لي : آمين !!!

فتعجبت جداً وظننت أنني أتهيأ سماع هذا الصوت ، لأنه كيف للرمال أن تتكلم ؟!!!!

فكررت العبارة ثانياً ، ففوجئت هذه المرة بالجبال والرمال يتكلمان سوياً ويقولان في صوت واحد : آمين !!!!

ففرحت وسجدت أرضاً ، وقلت بصوت عال : أنا بحبك خالص يا ربي يسوع المسيح !!!

فسمعت صوت عجيب أشبه بصوت الرياح أو خرير الماء المتدفق وهو يقول لي : وأنا أيضاً أحبك !!!

فخلعت نعلي من قدمي وضربت به وجهي تأثراً من محبة ورقة الرب معي أنا المجرم !!!، وقلت بدموع : سامحني يا ربي يسوع المسيح على كل خطاياي .

فسمعت نفس الصوت يقول : سامحتك وأحببتك واخترتك لتكون لي !!!

من هذه الحادثة وبدأت أشعر في نفسي أنني أصبحت شيء !!!
لأنه كيف يخاطبني الرب ؟

وكيف الرمال والجبال ينطقان ويقولان لي آمين على كل طلبة أطلبها ؟!
أليس كل هذا يعني أنني قد صرت قديس !!!

نعم فلقد انتهت مرحلة التوبة !!!
وجاءت مرحلة النمو والقداسة والبر !!!

هكذا حاول إبليس تضليلي ، فبدأت أعجب بنفسي وأنا أرتدي الجلباب الرهباني الأسود القديم ، وأعلق الصليب الشائك الثقيل على صدري ، ونسيت نفسي وخطاياها ، وظننت أنني أصبحت شيئاً ، بينما أنا في الحقيقة لا شيء ، إنما كانت محاولة من الشيطان لضربي وإسقاطي في خطية البر الذاتي .

بل وتجرأت وقلت : يا رب يسوع المسيح أنا نفسي يكون عندي قوة القديس بولس الرسول ، وغيرة القديس أثناسيوس الرسولي!!

وهما شخصيتان صار لهما مكانة خاصة جداً في قلبي من كثرة قراءاتي عنهما داخل الدير .

وفي نفس هذا اليوم أراد الرب أن ينقذني من الغرور ومن المجد الباطل ، كما أراد أن يعرفني حقيقة حجمي بشكل جيد كي لا أنسى نفسي ، فأراني رؤيا عجيبة :

رأيت نفسي أتسلق جبل عال جداً ، وأثناء تسلقي كان العرق يتصبب مني بغزارة والتعب يعييني ، فظننت أني أتسلق أعلى جبل في العالم !! ، ولكن بعدما بلغت قمة هذا الجبل ، فوجئت بأنه مجرد تل صغير ارتفاعه حوالي خمسون متر ، بينما رأيت جبال شاهقة قمتها في عنان السماء ، وتصل لداخل السحاب ، كما رأيتها تتلألأ بأنوار باهرة ، فوقفت مذهولاً من روعة مما أرى ، وقارنت هذه الجبال العالية بالتل الصغير الذي أقف فوقه ، فخجلت من نفسي لأني كنت قزم صغير بين عمالقة ، وأدركت على الفور أن هذا درس من الله لي في بداية إيماني أتعلم منه أن أعرف حجمي جيداً ولا أسمح لنفسي بأن ترتئي فوق ما ينبغي ، بل إلى التعقل .

وشاء الرب في هذا التوقيت العجيب من حياتي أن يحرك أحد الآباء الرهبان ناحيتي بقوة محبة عجيبة ، فكان يهتم بي روحياً ، ويأخذني إلى داخل قلا يته للصلاة معه ، وكانت صلاته تنقلني إلى عالم آخر ، وتمتد بالساعات وكان أبونا لا يصلي بالنطق فقط ، بل بالدموع التي كانت ترعبني وتجعلني أكره نفسي بسبب خطاياها وتدفعني دفع إلى التوبة والندم عن كل ما فات من عمري ..

وليمة رهبانية : إوز مطبوخ بريشه !!!
ومن المواقف الطريفة التي عايشتها داخل الدير هذا الموقف العجيب :
نظراً لأن الحياة الرهبانية في الصحراء مشيدة على مبدأ الزهد والتقشف والابتعاد عن الملذات بكافة أنواعها ، فكان الطعام الذي يعده الرهبان لأنفسهم وأتناول منه باعتباري مقيماً داخل الدير ، يتم تحضيره بطريقة عجيبة فالخضار يطبخ أغلب المرات بسيقانه ! وأحياناً بقشره !، وأما الأرز فهو عبارة عن عجين !

وكان أفضل طعام يمكن تذوقه داخل الدير هو الفول المدمس والذي كان يقدم صباح كل يوم ، فضلاً على أن الرهبان يمضون معظم أيام السنة في صوم ، وذات يوم وعلى ما أذكر كان يوم عيد الرسل ، فكر أحد الآباء الرهبان في التخلص من مزرعة الإوز المشرف عليها في الدير ، فدعي إلى عمل وليمة ترفيهية لكل الرهبان والعمال بالدير ، وقام بذبح كل إوز المزرعة ، وليته ما فعل !!! فلقد فوجئنا بأن الإوز تم طبخه وبه أغلب الريش الذي لم ينزع منه !!!

وبعد صوم الرسل الطويل هذا العام ، وانتظار الطعام ( الإفطاري) الشهي ، يفاجئ الجميع بأن الإوز ليس له أي طعم !!

فضحكت وقلت : الرهبان دول ها يجننوني معهم بتصرفاتهم !!

وقلت في نفسي لربما الأب الراهب تعمد ترك هذا الريش حتى ينفر الرهبان من أكل لحم الإوز لمزيد من التقشف ، ولم أستطع أكل شيء من هذه الوليمة واستبدلتها بالفول الصيامي !!

كانوا أناس طيبون جداً وبسطاء إلى أبعد الحدود ، وكان منهم راهب طيب القلب أسمه أبينا (ب) وكان يشفق جداً على حالي ، فيأتيني في الأيام التي ليست بها أصوام بعلب البولبيف والبيض ، ويطلب مني أن أعدهما لنفسي ، وكان يرفض أن يأكل معي ، لأنه لا يأكل مثل هذا الطعام المترفه !!!

ومع تكرار المرات كرهت نفسي وأصررت على تحمل نوع الأطعمة المطبوخة في مطبخ الدير وعدم طلب طعام بديل ، ومع الأيام اكتشفت روعة مذاق هذا الطعام البسيط ، وأدركت أن القداسة في المسيحية هي أن يحيا الإنسان حياة التجرد ، في المأكل والملبس ويموت عن مباهج العالم .

وهكذا بدأت أستسيغ هذا الطعام وأحبه ، وكنت أحياناً أتندر لو قُدم الفول ( بدون سوس ) أو العدس ( بدون طوب ) ، فأقول لأحد الرهبان مداعباً :

يا أبونا الطعام اليوم غير لذيذ ؟!
فيسألني : لماذا ؟

فأجيبه ضاحكاً :
لأنه خالي من السوس ، والطوب !!!

فما أحلى الفول بسوسه !!
وما أروع العدس بطوبه !!!

وذات يوم لم أتمالك نفسي من الضحك عندما حاول أحد الآباء الرهبان طبخ الملوخية !!!

فسألت أبونا وقلت له : ما أسم هذا الطعام الغريب يا أبونا ؟

فقال أبونا بزهو بالغ : هذه ملوخية يا ولد !!

فقلت له : يا أبونا من قال لك أنها ملوخية ؟! هل يوجد أحد يطبخ الملوخية بسيقانها يا أبونا ؟!

وهل يوجد أحد في الدنيا لا يخرط أوراق الملوخية ؟

وكان أبونا خفيف الدم ، فقال لي مداعباً : هذه هي الطريقة الرهبانية في طبخ الملوخية !!!

وعلى فكرة يا أخوة فكثير من الآباء الرهبان كانوا خفيفي الظل ومرحون جداً ، وأذكر منهم أبونا ( ش ) وأبونا ( ت ) فلقد كانا على ما يبدوا أنهما متخصصان في إضحاك بقية الرهبان والتخفيف عنهم قسوة حياة الصحراء ، وكان بعضهم يجلس على المصطبة بعد انتهاء صلاة الغروب ويضحكون معاً ، وكنت أترقبهم من بعيد واضحك لقفشاتهم الظريفة ، وكان ضحك بريء وراقي وخالي تماماً من التجريح والتهريج .

وكان يقيم بالدير شخص بسيط جداً لم يعش في العالم ، ولم يعرف عنه شيء ، فلقد جاء للدير وهو طفل صغير وبقى فيه ولم يغادره حتى بلغ الستون من عمره ، ولكن بقى عقله عقل طفل صغير فكان لا يتردد في ضرب الرهبان والجري خلفهم بالعصا !!!

وكان الرهبان يحبونه و يحتملونه ، وكذلك أسقف الدير ، وبقية الآباء الكبار ، وصار وجوده من معالم الدير ، وكان طول النهار يصنع صلبان من الجريد ، ويردد كلام عجيب ، وكان أحياناً يتنبأ بأمور ثم تحدث ، مثل قوله : سوف تأتي سيارة رحلات . وبعد ساعات تصل بالفعل سيارة رحلات من أحد الكنائس .

وهذا الرجل كان يضحكني كل يوم ، ويضحك معي بقية الرهبان ، وكنت أتعجب كثيراً من ترتيبات المسيح وكيف أنه يرفه عن أولئك الرهبان الذين يعانون شغف الحياة بالصحراء .

اللعب مع العقارب !!
كنت أتعجب كيف لهؤلاء الآباء يجلسون فوق الرمال ولا يخافون من العقارب التي تمرح بالقرب منهم ، فالصحراء مليئة بالثعابين والعقارب ، لكن رغم ذلك لم يسمع أحد أن راهب عضه ثعبان ، أو لدغه عقرب ، وتحقق فيهم قول الرب لتلاميذه وأعطيكم سلطان أن تدوسوا العقارب والحيات وكل قوات العدو .

وذات مرة كنت أجلس وأقرأ في كتاب فوجدت عقرب كبير أسفل قدمي العارية ، فلم أخاف منه بل ظللت ألعب معه !!! وأخيراً أحضرت قنينة صغيرة وأدخلته بها !!

وكلما شعرت بسأم ، كلما أخرج القنينة وأشاهد العقرب وهو يرفع ذنبه ..

وكانت زوجتي تخاف من الجلوس على الرمال لأن أسفلها تختبئ العقارب بكميات كبيرة ، وعندما كانت تراني وأنا جالس على الرمال ، بل وأحياناً وأنا نائماً عليها ، تقول لي :

أنت ما بتخافش من العقارب رغم أنك نائم فوقها ؟! فأقول لها : لا ، لأن العقارب لا تلسع المسيحيين بحسب وعد المسيح !!!

ثم أقول لها : تعالي أريك واحد منها أحتفظ به في قنينة في جيبي ! فأخرج لها القنينة وأجعلها تتفرج على العقرب !!

فكانت تتعجب وتقول : سلامة عقلك !!

بل وفكرت كيف أجلب طعام لهذا العقرب المسكين الحبيس ؟! ، وكان الأمر سهلاً لأن الصحراء مليئة بالحشرات ، ولكن بعدها بأيام أشفقت عليه وأطلقت سبيله !!!

كانت أيام عجيبة تلكم التي قضيتها داخل الدير ومن خلالها تشكلت حياتي المسيحية ، والذي يريد أن يعرف ( سر) شخصية صموئيل فعليه بالعودة لهذه المرحلة المبكرة من إيماني المسيحي ، قبل أن أصير خادماً ، فمن داخل هذا الدير بدأت لا أخاف من شيء ، ولا أريد أي شيء سوى المسيح ، المسيح وكفى، فلهذا كنت أشعر أني أسعد إنسان في العالم حتى وأنا داخل الصحراء الجرداء ، وبدأت أدرك لماذا كان داود النبي لا يحلو له الصلاة للرب إلا داخل الصحراء ..في مكان ليس به ماء ..

أحببت الجبال والرمال ، وبدأت أعرف لماذا اختار الرب يسوع الجبل ليبدأ منه رسالته بحسب الجسد ، وكيف ألقى عظته الأولى على الجبل ؟!

وكيف ذهب القديس بولس الرسول إلى الصحراء قبل البدء في إعلان رسالته الكرازية ؟

ففي هذه الصحراء الشاسعة لا شيء سوى الله .. فلا مال ، ولا نساء ، ولا جاه ولا سلطان ولا ألقاب ، ولا إعلام ، لا يوجد أي شيء مما لأهل العالم ، ولعل هذا ما يفسر سر قوة وروحانية رهبان الصحراء ومن قبلهم القديسين القدامى .

وقبل مغادرتي للدير التقي بي الأب المسئول ( الربيتة ) وأعطاني مبلغ بسيط من المال وقال لي : الدير مفتوح لك في أي وقت ، فكلما تمر بضيقة في العالم تعال إلى هنا ، فنحن أحببناك ونعتبرك واحداً منا .

وقدم لي أبونا الحبيب ( ب ) جهاز كاسيت صغير ومعه حوالي خمسة وأربعون شريط كاسيت عظات لقداسة البابا شنودة ، وشريط قداس بصوت أبونا يوسف أسعد ، ومبلغ بسيط من المال . وأب راهب آخر مسئول عن ورشة الخياطة المخصصة للملابس الرهبانية ، قدم لي جلباب مخطط قام بصنعه خصيصاً لي حتى ارتديه في العالم ! وأب ثالث أعطاني كرتونة بها معلبات غذائية !!

وكان موقف مؤثر جداً وأنا أودع هؤلاء الآباء الذين شملوني بمحبتهم طوال هذه المدة ، ومنهم تعلمت الحياة المسيحية الأصيلة والقداسة الحقيقية وحياة الإنجيل المعاش .

فهؤلاء الرهبان القديسين كانوا في العالم من الأثرياء ومن حاملي الشهادات الجامعية المرموقة ، وتركوا العالم كله وارتضوا على أنفسهم بالعيش في الصحراء مثل هذه الحياة الخشنة حباً في المسيح الذي ملكوه كل حياتهم وصار هو الكل في الكل ، ودفنوا كل أحلامهم البشرية تحت قدم المصلوب وتركوا كل مباهج العالم في سبيل محبتهم له .

هنا في الدير كانت بدايتي الحقيقية مع المسيح ، وهنا تأسست على استقامة الإيمان ، وأدركت تمام الإدراك أنه لا خلاص لإنسان خارج إيمان الكنيسة .

وداخل الدير أيضاً كانت بداية معرفتي بآباء الكنيسة من القديسين وأبطال الإيمان من الشهداء والمعترفين وعشت بكل كياني وأنا أقرأ سيرتهم العطرة ، فأحاديث الآباء الرهبان كلها عن هؤلاء القديسين الأبرار الذين أحبوا المسيح حتى المنتهى ، وبرهنوا للعالم كله - من خلال سلوكياتهم اليومية – إمكانية أن يحيا المسيحي في القداسة التي سلمها لهم المسيح ، الرب الطاهر القدوس الذي لم يفعل خطية وقال للناس من منكم يبكتني على خطية ؟

وهؤلاء القديسين اقتدوا بسيرته وتشبهوا به ، ولم تكن قداستهم كلام ، بل حياة ، وهذه الحياة تبرهنت بالقوة من خلال حياة الإنجيل المُعاش التي يحيونها ويعيشونها أمام الآخرين فكانوا نوراً للعالم وملحاً للأرض .

وأحببت هؤلاء القديسين الأبرار حباً جماً وكان أعظمهم على الإطلاق قديسون الكنيسة الجامعة الرسولية المقدسة أي الذين ظهروا في الخمسة قرون الأولى للمسيحية .

فهؤلاء عاصروا نشأة المسيحية وما تعرضت له من اضطهاد دموي عنيف على أيدي اليهود والإمبراطورية الرومانية الوثنية في أوج مجدها وجبروتها العسكري ، كما عاصروا تعرض الكنيسة للاضطهاد الفكري الرهيب على أيدي كهنة الآلهة الوثنية والفلاسفة والسحرة وكل قوات الشر ..

كما عاصروا نشوء الهرطقات وتصدوا لها بقوة ..

وكان عصر الاستشهاد هو العصر الذهبي للكنيسة المسيحية بأسرها والذي بدأ بصلب المسيح وأستمر بعنف بالغ طوال القرون الثلاثة الأولى ، وما بعدها ..

والذي يريد أن يجمع معلومات كافية عن المسيحية كدين سماوي عليه أن يدرس أوضاع المسيحيين في هذه القرون الأولى وكيف رغم تعرضهم للمذابح الوحشية من دينهم إلا أنهم صمدوا وكانوا أبطالاً في الإيمان كما كانوا أبطالاً في القداسة وقهر الذات ..

والقديسون الذين نعنيهم هنا هم قديسون الكنيسة من الشرق والغرب على حد سواء وكثير منهم لا يعرفهم العالم ، أما المعروفين منهم فقرأت عن سير معظمهم ، وخاصة أولئك الذين عاصروا أحداث تاريخية خطيرة في تاريخ الكنيسة كالقديس أثناسيوس الرسولي ، ومار أنطونيس أبي الرهبان ، ومار يوحنا فم الذهب ، ومار كيرلس عمود الدين ، ومار ديسقورس بطل الإيمان المستقيم ، ومار أفرام السرياني قيثارة الروح ، ومار سويروس العلامة العظيم ، ومار اسحق السرياني ، والشيخ الروحاني يوحنا سابا ..

وفي الغرب القديس جيروم والقديس إيلاري والقديس أغسطينوس وغيرهم ..

ولن أنس أبداً دموعي التي ذرفتها وأنا أقرأ عن الشهداء القديسين الأبطال مار جر جس ومار يعقوب المقطع والقديس جر جس المزاحم وغيرهم كثيرون ..

كان كل الرهبان يعشقون سير القديسين ويتحدثون عنها بفخر واعتزاز ، وعندما قرأت بستان الرهبان وأطلعت على سير معظم القديسين القدامى ، وجدت نفسي أهتف من أعماقي : يا ليتني أصير مثلهم !!!

وهكذا رتب الرب في هذا الوقت المبكر من حياتي المسيحية ( 1987 ) أن أتعرف على قديسون وقديسات كنيسته المنتصرة وعلى كفاحهم وجهادهم فأحببتهم وتأثرت بهم تأثر عظيم . وكانت القديسة العذراء مريم أم النور تحتل مكانة عظيمة جداً في نفوس كل الرهبان فتأثرت بمحبتهم لها وبدأت أدعوها بأمي العذراء ، وأحببتها حباً جماً ، وكنت أطلب شفاعتها بدموع لتساعدني بصلواتها لدى أبنها الحبيب ليدبر أمور حياتي . ونظراً لأني رأيت بعيني قبس من بهاء نور لاهوت المسيح ، فكنت أتسائل بيني وبين نفسي كيف للقديسة العذراء استطاعت احتواء هذا النور الإلهي في أحشائها دون أن تحترق ؟!

وقضيت أياماً طويلة أتأمل في ( العليقة ) التي أراها الرب لموسى في البرية ، وكيف رغم شدة النيران حولها إلا أنها بقيت سليمة ولم تحترق !!!

كنت أسأل نفسي في عجب : كيف كانت القديسة العذراء تحمل ربها بين يديها وترضعه من ثديها ؟

ومن هنا بدأت أوقر وأكرم وأقدر أمي العذراء ، أم الطهارة والنور التي استحقت أن تلقبها الكنيسة بوالدة الإله وأستطيع القول بأن وجودي داخل الدير في السنة الأولى من إيماني قد أفادني إيمانياً وعقائدياً وروحياً إفادة عظيمة لا زال استفيد منها حتى اليوم .


تجولت في أرجاء الدير مودعاً كل مكان فيه والدموع تملأ وجهي ، ففي هذا الدير المقدس عشت أجمل أيام حياتي ، سنة كاملة بدون خطية الشهوة وبدون كراهية وبدون أحقاد كان شيء عجيب على شيخ مسلم نشأ على الظلم والشهوة والعنف والكراهية أن يعيش مثل هذه الحياة المقدسة المباركة التي أتمنى أن يعرفها المسيحيين الشرقيين المولودين في المسيحية والتي تسلموها أباً عن جد دون أن يعيشوا عمق حلاوتها داخل الصحراء حيث التجرد والقداسة والعيش مع الرب عيشه كاملة لا ينازعهم فيه شيء ، لا نساء ولا أولاد ولا جاه ولا سلطان ولا مال ولا أطماع ..

تذكرت هذه الأيام المباركة من عمري وكيف كنت أستيقظ في الثالثة فجراً لأحضر صلاة التسبحة مع الرهبان ، وكيف كنت أحضر ثلاث قداسات يومياً من الخامسة صباحاً حتى الثانية عشر ظهراً ، لأنه كان في الدير ثلاث كنائس ، منهم كنيسة أثرية تحت الأرض كانت في الأصل معبد فرعوني وثني ، ثم تحولت لكنيسة تحمل اسم قديس الدير ، وهو من آباء القرن الخامس الميلادي .

وأما الكنيسة الثانية بالدير فهي الكنيسة الكبرى وكانت تحمل اسم القديسة العذراء مريم ، والكنيسة الثالثة فكانت تحمل أسم اثنان من القديسين .

وكنت أحضر قداس كامل في الكنيسة الأثرية تحت سطح الأرض ، رغم أنها كانت مخصصة تماماً للآباء الرهبان فقط ، ولكنهم كانوا يسمحون لي بالصلاة فيها ، وكانت صغيرة جداً لا تسع إلا أفراد قليلين أحياناً لا يزيد عددهم عن خمسة رهبان !! وكان القداس غالباً ما يقام في هذه الكنيسة في الخامسة صباحاً وينتهي في السابعة ، وهو القداس الذي أتناول فيه ثلاث مرات متتالية وكانت لقمة الجسد كبيرة جداً ، وثلاث ملاعق من الدم المقدس . وبعدها أذهب للكنيسة الثانية لأحضر ما تبقي من القداس حتى نهايته ، ثم أذهب بعدها للكنيسة الكبرى والتي كان يصلي فيها الزوار بجانب الرهبان ، فأحضر ما تبقى من القداس .

ومجرد الانتهاء من هذا القداس الأخير ، أذهب وأجهز الطعام للكهنة الزوار في القصر .

وبعدها كنت أكنس مدخل الكنيسة ، وأنظف دورة مياه الزوار ، وأحياناً كنت أقوم بتحميل جرارات الدير بالحجارة المخصصة للبناء داخل الدير بعد تقطيعها من الجبل القريب

وأحياناً كنت أعمل في المخبز ، أو أزور المزارع وأجلس مع الآباء الذين يرحبون بي ويعدون لي الشاي ، وكان هناك أب راهب قديس متواضع أسمه أبونا ( إ) وكان كلما يراني يقول لي : يقول يا أبونا (إ) يا حمار !!

فأقول له : العفو يا أبونا .

فكان أحياناً يمسكني من رقبتي ويقول لي مش هاسيبك إلا لو قلت لي يا حمار !!

وكان يفعل الأمر نفسه مع العمال في الدير !!!

وكنت قد التقيت بهذا الأب الراهب لأول بعد وصولي للدير بقليل ، إذ أثناء تجوالي أسفل أحد الجبال رأيت مغارة منحوتة في أعلى الجبل ، فصعدت إليها بصعوبة وطرقت بابها وكانت أبونا يعتكف بداخلها ولم يشاء أن يفتح لي ، لكني بكيت وظللت أطرق على الباب طالباً منه أن يفتح لي ليباركني ، ففتح أخيراً وذهلت عندما رأيت المغارة من الداخل ، كانت ضيقة جداً ومنخفضة للغاية ولم يكن بها شيء من الأثاث سوى سجادة صغيرة مهللة ولمبة جاز واو بور صغير وبراد شاي قديم وكوز صفيح صدئ يستخدم ككوب ، وكتاب مقدس قديم وكتاب بستان الرهبان .. ورحب بي وأعد لي كوب من الشاي وحكيت له ظروفي فباركني وصلى على رأسي وطلب مني أن أذهب إلى الرئيس السابق للدير، والمتواجد حالياً في البطريركية بالقاهرة ، وأسمه أبونا (أنسطاسي ) وأن هذه المغارة هي في الأصل راجعة له ، وكان يقضي بها أغلب أيامه ويقود ويدبر الآباء الرهبان والدير وهو بداخلها !!

وأنه لم يكن يغادرها إلا يوم السبت من كل أسبوع ويبقى في الدير حتى مساء الأحد وبعدها يعود إليها لأنه كان راهب متوحد ، وقال عنه أنه رجل قديس وقوي ، وأنه يستخدم هذه المغارة بإذن خاص منه لقضاء خلواته الروحية بها . وقال لي : أن هذا الأب سوف يساعدني كثيراً . ونفس الأمر كان يقوله أغلب آباء الدير ، الكل كان يريدني أن أغادر الدير وأسافر للقاهرة لمقابلة أبونا أنسطاسي في البطريركية ، لكني كنت لا أرغب في مغادرة الدير ، ولم أكن متحمس للذهاب للبطريركية لأنها مكان رسمي وعلى أبوابها يجلس أفراد من الشرطة ومن مباحث أمن الدولة ، وخشيت أن ترددي عليها قد يسبب في حدوث مشاكل للآباء .

لهذا السبب كنت أستبعد فكرة ذهابي للكاتدرائية ، وكنت أقول في نفسي : من أنت أيها المجرم حتى تدخل مقر رئاسة الكنيسة ، حيث قداسة البطريرك والآباء الأساقفة والكهنة ؟لذلك كنت أتجاهل هذه الدعوة ، وأقول إن شاء الله أن أذهب للبطريركية فسوف أذهب وأن شاء أن ألتقي بقداسة الأب أنسطاسي فسوف أفعل .

وكان من ضمن الأماكن التي أتردد عليها داخل الدير الفسيح ، مصنع الشمع .
وكان المسئول عنه أب راهب طيب القلب أسمه أبونا ( ي ) فكنت أزوره وأجلس معه وكان يرحب بي ويعد لي الشاي ويحدثني عن محبة المسيح للخطاة ، أما معظم وقتي فكنت أقضيه مع أبي الحبيب ( ب) الذي كان مسئول عن القصر الذي كنت أقيم فيه .

كنت حريص جداً أن أجلس مع الآباء الرهبان لأتعلم منهم ، وكان يدهشني فيهم بساطتهم ونقاوة قلوبهم وطهارة نفوسهم ، أحببتهم واحترمتهم وصاروا معلمون لي ، ومع الأيام صرت كواحدً منهم ، وكانوا يحبونني ويخافون علي للغاية .

وكان أبونا ( ب ) المقرب جداً من قلبي هو أول من علمني ( المحبة العملية المسيحية ) وكان يأخذني لقلا يته لنصلي سوياً بداخلها ، وكنت لا أقدر على مواصلة الصلاة واقفاً لأنها كانت تمتد بالساعات ، فأضطرر للجلوس أرضاً بينما كان أبونا يواصل الصلاة واقفاً وبدموع حارقة كانت تلهب ضعفي ، كان يضع أمامه صوره كبيرة لجنب المسيح المطعون ، وكانت صورة مؤثرة تجلد خطاياي وآثامي .وقد علمني هذا الأب المبارك كيف احب العذراء والكنيسة والقديسين والبابا شنودة وكيف احب العطاء للفقراء والمتألمين ، كان عبارة عن كتلة من الحب والعطاء [2].

تذكرت كل ذلك وأنا أغادر الدير مودعاً كل شيء فيه بدموع ، راجياً من الرب أن يكمل ما بدأه معي ، ونزلت إلى العالم واثقاً في قوة الرب وفي حسن تدبيره لحياتي ولسان حالي يقول احسبني كبهيم عندك .


العودة إلى العالم وبداية الأوجاع !!!
وأثناء عودتي للعالم ركبت أحد سيارات الأجرة ففوجئت بالسائق يشغل جهاز كاسيت السيارة ويضع فيه أغنية عاطفية لأم كلثوم !! فجاء صوتها نشازاً !! وابتسمت ابتسامة ذات مغزى وأنا أقول : هاأنا قد عدت إلى العالم ثانياً !!

لأن الدير لم يكن جزء من العالم ، بل قطعة من الملكوت على الأرض ، وكان الرهبان هم الملائكة الأرضيين لذلك فعندما عدت للعالم شعرت بغربتي عنه ، فقلد بدل الدير من داخلي الكثير من العادات ، كنت زمان أحب سماع أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ، ولكن الآن لم أعد اهتم بسماع مثل هذه الأشياء ، فالمسيح ملك علي كل مشاعري وأحاسيسي حتى لم يعد مكان في قلبي بغيره ، ومنذ هذا التاريخ لم أسمع أغاني ، ولو تصادف وسمعتها في الطريق فلا تحرك مشاعري أو
11-30-2005, 04:03 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-15-2005, 03:10 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة مسلم سلفي - 11-15-2005, 03:21 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-15-2005, 03:40 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة العميد - 11-15-2005, 04:14 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة إبراهيم - 11-15-2005, 04:25 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة العميد - 11-15-2005, 04:47 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-15-2005, 08:59 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-15-2005, 11:02 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-15-2005, 11:11 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة على نور الله - 11-15-2005, 12:29 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-15-2005, 12:46 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-15-2005, 12:49 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة حسن سلمان - 11-15-2005, 10:16 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-15-2005, 11:57 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة على نور الله - 11-16-2005, 12:13 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-16-2005, 08:44 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-16-2005, 08:45 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-16-2005, 10:26 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-16-2005, 12:55 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-16-2005, 01:07 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-17-2005, 02:29 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-17-2005, 02:50 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ATmaCA - 11-17-2005, 03:16 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-17-2005, 03:50 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-17-2005, 05:58 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-17-2005, 06:58 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-17-2005, 06:59 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-17-2005, 07:02 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-17-2005, 10:18 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أنا مسلم - 11-17-2005, 10:59 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-18-2005, 04:52 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-18-2005, 12:20 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-18-2005, 12:49 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-18-2005, 12:58 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-18-2005, 01:12 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-18-2005, 01:21 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-18-2005, 01:45 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-18-2005, 02:02 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-18-2005, 02:05 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-18-2005, 07:17 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة SonofSun - 11-18-2005, 07:23 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة SonofSun - 11-18-2005, 07:27 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-18-2005, 07:30 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-19-2005, 03:10 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أنا مسلم - 11-19-2005, 03:39 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-19-2005, 04:50 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة muslimah - 11-19-2005, 10:14 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Hajer - 11-19-2005, 11:08 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-19-2005, 01:04 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة سيف المسيح - 11-19-2005, 02:02 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة الصفي - 11-19-2005, 03:21 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة اسحق - 11-19-2005, 03:37 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-19-2005, 09:52 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-20-2005, 01:48 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-20-2005, 01:53 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-20-2005, 10:16 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ATmaCA - 11-20-2005, 10:52 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أنور - 11-21-2005, 12:22 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أحلى كويتيه - 11-21-2005, 01:39 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-21-2005, 03:09 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أنا مسلم - 11-21-2005, 03:21 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-21-2005, 05:10 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة SonofSun - 11-21-2005, 10:33 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-21-2005, 03:48 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أحلى كويتيه - 11-21-2005, 10:29 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة أنا مسلم - 11-22-2005, 12:07 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-22-2005, 02:45 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة DAY_LIGHT - 11-22-2005, 02:56 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ATmaCA - 11-22-2005, 09:31 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 11-30-2005, 04:03 AM
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة ضيف - 11-30-2005, 08:42 AM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة Abanoob - 12-04-2005, 07:04 PM,
كنت أعمى والآن أبصر .. - بواسطة مسلم سلفي - 12-04-2005, 08:00 PM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  أعمى يقود أعمى وقعا في الحفرة ... زكريا بطرس كمثال هادم الاباطيل 38 6,235 04-13-2006, 06:55 AM
آخر رد: اسحق

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS