[CENTER]
[/CENTER]
يقول بديع الزمان ...
كنت أتذكر هذه الحادثة كثيراً و أسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الحقيقة إلى هذه الدرجة على لسان والدتي الحصيفة الجادة في كلامها؟.
ولكن حينما طالعت علم الفلك رأيت أن الذين يقولون كما تقول والدتي، قد تلقوا التشبيه حقيقةً واقعيةً؛ لأن الفلكييـن شبهوا القوسين الناشئين من تداخل دائرة الشمس، وهي منطقة البـروج ومدار درجاتها، مع دائرة القمر وهي ميل القمر ومدار منازله، شبهوهما تشبيهاً لطيفاً بحيتين ضخمتين، وسموهما تنينين ...
وأطلقوا على إحدى نقطتي تقاطع تلك الدائرتين الرأس والأخرى الذنب. فحينما يبلغ القمر الرأس والشمس الذنب تحصل حيلولة الأرض -كما يصطلح عليها الفلكيون - أي: تقع الأرض بينهما تماماً، وعندها يخسف القمر. أي كأن القمر يدخل في فم التنين، حسب التشبيه السابق.
وهكذا عندما سرى هذا التشبيه العلمي الراقي بمرور الزمن إلى كلام العوام غدا التشبيه تنيناً عظيماً مجسماً يبتلع القمر!.
وفي حوالي التاسعة من عمري وجميع الاهلين وأقاربي ينتسبون إلى الطريقة النقشبندية ويستمدون من شيخ مشهور هناك هو الغوث الخيزاني كنت على خلافهم أقول:
أيها الشيخ الگيلاني اقرأ لك سورة الفاتحة جد لي ما ضيعته من جوز مثلاً او أي شئ تافه آخر.
وانه لأمر عجيب فوالله لقد أمدني الشيخ بدعائه وهمته ألف مرة. ولهذا ما قرأت من أوراد وأذكار طوال حياتي الاّ و أهديتها اولاً إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثم إلى الشيخ الگيلاني، وعلى الرغم من أنني منتسب إلى الطريقة النقشبندية بثلاث جهات فإن محبة الطريقة القادرية ومشربـها يجري فيّ حكمه دون اختيار مني. الاّ أن الانشغال بالعلم كان يعيق الاشتغال بالطريقة الصوفية.
ومع ذلك كنت احمل حالة روحية تتسم بالفخر و الاعتـزاز، يوم كنت في العاشـرة من عمري، بل حتى أحياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكنت أتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي. فكنت أقول لنفسي:
ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير؟ فكنت حائراً وجاهلاً بالجواب.
ولكن منذ شهرين، أجيبت تلك الحيرة، بأن رسائل النور كانت تُشعر بنفسها بحس مسبَق. أما أنت فلست الاّ بذرة صغيرة لا تساوي شيئاً ولكن لإحساسك قبل الوقوع تعدّ تلك العناقيد الفردوسية رسائل النور كأنها ملكك، فتزهو وتتباهى.
أما قريتنا نورس فان أهلها و طلابي القدامي يعرفون: ان أهالينا كانوا يحبون
المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام. فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة.
فكنت اعجب من نفسي ومن طورها هذا. والآن عرفت السر بإخطار حقيقي:
ان أولئك النورسيين، يتباهون لأن قريتهم نورس ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور. حتى ان الذين لم يسـمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ. فهؤلاء النورسيون يظهرون شكرانهم - بحس مسبق - لتلك النعمة الإلهية على صورة زهو وتباهٍ.
نعم انه عندما كان جميع كردستان يتخذ وضع المفتخر المختال بغزارة الطلاب والأئمة والعلماء المتخرجين بهمة وجهود الشيخ عبدالرحمن تاغي الشهير والملقب بـ سيدا في ناحيتنا إسپاريت التابعة لقضاء خيزان كنت اشعر بينهم ايضاً ضمن تلك المناظرات العالية والهمة العالية والدائرة الواسعة العلمية والصوفية، كأن أولئك العلماء سيفتحون الأرض كلها.
فكنت استمع - وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري - مناقب العلماء القدامى المشهورين و الأولياء العظام و السـادة الأقطاب، ويرد إلى قلبي: ان هؤلاء الطلاب العلماء سيفتحون آفاقاً عظيمة في العلم والدين.
إذ لو تفوق أحدهم بشئ من الذكاء فالاهتمام يوجّـه إليه، وان ظهر أحدهم في مسألة لدى مناظرة علمية يفتخر ويزهو كثيراً. فكنت أتحير من هذا، إذ كانت عندي تلك المشاعر ايضاً. حتى كان بين شيوخ الطرق الصوفية وضمن دائرتهم في ناحيتنا وقضائنا وولايتنا مسابقة تثير الحيرة لم اقف عليها في مدن أخرى إلى هذا الحد.
فإن شئت فاذهب بخيالك إلى مجلس سيدا قدّس سره في قرية نورشين.. وما أظهرت من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكاً في زي الفقراء وملائكة في زي الأنـاسي. ثم اذهب إلى باريس وادخل في لجنة الأعاظم تَرَ فيها عقارب، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريت تصوروا بصور الآدميين.
يتبع ...
(f)