[CENTER]
[/CENTER]
خطواته نحو العلم وشيوخه:
أقسم بالله إن ارسخ درس أخذته، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات
والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي واصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم اني قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص،1 بل أرى يقينا ان سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور. بمعنى اني أشاهد درس والدتي - رحمها الله - وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولي من عمري، البذور الأساس ضمن الحقائق العظيمة التي أراها الآن وأنا في الثمانين من عمري.2
وكانت بداية تحصيل العلم سنة 1885م ( 1303 هـ) بتعلّم القرآن الكريم3 حيث ساقته حالته الروحية إلى مراقبة ما يستفيضه أخوه الكبير عبدالله من العلوم فأعجب بمزاياه الراقية وتكامل خصاله الرفيعة بتحصيله العلوم، وشاهد كيف انه بزّ أقرانه في القرية وهم لا يستطيعون القراءة والكتابة. فدفعه هذا الإعجاب إلى شوق عظيم جاد لتلقي العلم؛ لذا شدّ الرحال إلى طلبه في القرى المجاورة لـنورس حتى حطها في قرية تاغ عند مدرسة الملا محمد أمين أفندي إلاّ أنه لم يتحمل المكوث فيها، فتركها.
فعاد إلى قريته نورس وهي المحرومة من كتّاب او مدرسة لتلقي العلم، واكتفى بما يدرّسه له أخوه الكبير الملا عبدالله في أثناء زيارته الأسبوعية للعائلة.
وبعد مدة قصيرة ذهب إلى قرية برمس ومن بعدها إلى مراعي شيخان -أي شيخ تاغي - ثم إلى قرية نورشين وبعدها إلى قرية خيزان ولرفضه التحكم به تشاجر في قرية برمس مع أربعة من الطلاب، حيث اتفق هؤلاء الأربعة على مشاكسته باستمرار مما دفعه إلى المثول بين يدي الشيخ سيد نور محمد شاكياً إليه هؤلاء الأربعة قائلاً باعتزاز:
- أيها الشيخ المحترم! أرجو أن تقول لهؤلاء ألاّ يأتوا للشجار معي جميعاً فليأتوا مثنى مثنى!
انشرح الشيخ سيد نور محمد من هذه الرجولة المبكرة في سعيد الصغير وقال ملاطفاً:
- أنت تلميذي، لن يتعرض لك أحد.
وبعد هذه الحادثة أُطلق عليه تلميذ الشيخ فظل في هذه المدرسة مدة، ثم تركها ذاهباً مع أخيه الملا عبد الله إلى قرية نورشين.
وكان يحق لكل عالم حصل على إجازة العالِمية ان يفتح كتّاباً (مدرسة) في القرية التي يرغب فيها حسبةً لله. وتقع مصاريف الطلاب عليه إن كان قادراً على ذلك، وإلاّ فالأهلون يتداركونها من الزكاة والصدقات والتبـرعات. بمعنى أن العالم عليه التدريس مجاناً والاهلون يتعهدون بدفع احتياجات الطلاب ولوازمهم. إلاّ أن سعيداً الصغير كان ينفرد من بين الطلاب جميعهم في عدم أخذه الزكاة من أحد.1
الإباء والشمم:
على الرغم من أن سعيداً القديم فقير الحال منذ أيام طفولته، كما ان والده فقير الحال، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدم استطاعته قبولها، إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدم ذهاب سعيد قط في أي وقت من الأوقات لاخذ الأرزاق من الناس وعدم تسـلمه الزكاة من أحد - عن علم - كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الاهلين وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة. أقول اني على قناعة تامة الآن من ان حكمة هذا الأمر هي:
عدم جعل[SIZE=4]
رسائل النور - التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة - في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.
( قلت انا داعية السلام : رسائل النور هي مجموع مؤلفات الامام النورسي رحمه الله في التصوف والاخلاق وعلم المنطق والفلسفة وغيرذلك ) ..
فلأجل هذه الحكمة اُعطيتْ لي هذه الحالة، حالة النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجية غير المضرة، والهروب منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يفسد الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور.
واشعر كذلك ان في هذا الأمر إشارة فيها مغزى، بأن هذه الحاجة هي التي تدفع أهل العلم إلى الانهماك بهموم العيش حتى يُغلبوا على أمرهم في الزمان القابل.2
بشارة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
ظل مدة في نورشين ثم انتقل إلى خيزان ثم ترك الحياة الدراسية وعاد إلى كنف والديه في قرية نورس وظل فيها حتى اخضرّ الربيع.
وفي هذه الأثناء رأى فيما يرى النائم: أن القيامة قد قامت، والكائنات بعثت من جديد. ففكر كيف يتمكن من زيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ثم تذكر أن عليه الانتظار في بداية الصراط الذي يمرّ عليه كل فرد، فأسرع إليه.. وهكذا مرّ به جميع الأنبياء و الرسل الكرام فزارهم واحداً واحداً وقبّل أيديهم وعندما حظي بزيارة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هوى على يديه فقبلها ثم طلب منه العلم. فبشّره الرسول صلى الله عليه وسلم: سيوهب لك علم القرآن ما لم تسأل احداً.1
فجّرت هذه الرؤيا شوقاً عظيماً فيه نحو طلب العلم. فاستأذن والده للذهاب إلى ناحية أرواس لتلقي العلم من الملا محمد امين افندي ولكن عندما أوصى الأخير أحد طلابه بتدريسه شعر سعيد الصغير بأنه قد ترفّع عن تدريسه فثقل عليه الأمر وحزّ في نفسه، حتى إنه اعترض على أستاذه في إحدى الدروس قائلاً:
- انه ليس كذلك.. ياسيدى! ثم ذكّره بترفعه عن تدريسه.
وبعد مدة وجيزة قضاها في ارواس قصد مدرسة مير حسن ولي وما ان شاهد هناك عدم الاهتمـام بالطلاب الجدد ايضاً ترك سبعةً من دروس الكتب المقررة وبدأ بالكتاب الثامن.. ثم ذهب للاستجمام في قصبة وسطان (گواش) لمدة شهر. ومن بعده توجّه برفقة صديقه الملا محمد نحو بايزيد وهي قضاء على الحدود الإيرانية تابعة لولاية آغرى.2
الدراسة الحقة:
بدأت دراسته الحقة في بايزيد، إذ لم يكنِ قد قرأ حتى الآن سوى مبادئ النحو والصرف، وقد قرأ إلى الإظهار.3
وفي ذلك الوقت لم يبد على سعيد ذكاء خارق او قوة معنوية وحدها بل
ظهرت ايضاً حالة عجيبة كانت خارجة عن نطاق استعداده وقابليـاته كلها، بحيث إنه بعد اطلاعه على مبادى الصرف والنحو خلال سنة او سنتين، ظهرت عليه الحالة العجيبة، فكأنه اكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابا خلال ثلاثة اشهر، وقد استوعبها واُجيز عليها وتسلم الشهادة بإكمالها.1
دامت هذه الدراسة الجادة والمكثفة ثلاثة اشهر على يد الشيخ محمد الجلالي والغريب انه أتم قراءة جميع الكتب المقررة للطلاب في شرقي الأناضول، ابتداءً من ملا جامي2 إذ كان يقرأ من كل كتاب درساً او درسين وربما إلى عشرة دروس، من دون أن يتم الكتاب ثم يبدأ بغيـره. وعندما استفسر منه أستاذه الشيخ محمد الجلالي عن سبب قيامه بهذا العمل - المخالف للعرف السائد - أجاب:
- ليس في طوقي قراءة جميع هذه الكتب وفهمها، فهذه الكتب شبيهة بصندوق الجواهر، ومفتاحها لديكم. وكل ما أرجوه منكم إرشادي إلى ما يحتويه هذا الصندوق، أعني ماذا تبحث هذه الكتب، لكي أختار منها ما يوافق طبعي.
وعندما سأله أستاذه:
- أيّ من هذه العلوم يوافق طبعك؟
أجاب:
- لا أستطيع التمييز بين هذه العلوم، فكلها سواء عندي، فإما أن افهم جميعها حق الفهم او لا افهم منها شيئا.
كان يقرأ في هذه الشهور الثلاثة يومياً ما يقارب مئتي صفحة او يزيد من متون أمهات الكتب ...
يتبع ..
(f)