الانخذال باعتباره نظاماً روحيا وسايكولوجيا وسياسيا
حافظ الشيخ صالح
الذي طالع أو سمع أطرافاً من جلسة «مجلس الشعب« السوري («البرلمان«) التي عُقدتْ استثنائيا لـمُناقشة تصريحات عبدالحليم خدّام لقناة «العربيّة« الفضائيّة، التي أعلن فيها انشقاقه عن نظام الأمر الراهن الحاكم في دمشق، يستطيع أنْ يقف في وضوح على كيفيّات تحول الانخذال من حال فرديّة أو عارضة إلى حال جماعيّة وجماهيريّة مُسترسلة، وإلى نظام قائم بذاته مُتكامل في الأرض: نظام روحي، ونظام سايكولوجي، وبالتالي نظام سياسي، قد يكون تارة ضعيف المداميك في حقيقته، وقد يكون تارة أخرى متينها.
يبدأ الانخذال عادة على الصعيد الروحيّ، فيستولي الانخذال على الروح ويستحوذ عليها، فِعلَ الشيطان الرجيم، ثمّ يصبح انخذالاً سايكولوجيا ساطياً ومُسيطراً ويستلب النفس، فلا تعود هذه تستطيب غير حال الانخذال، ولا تستطيع العيش إلا في أحوال الانخذال، ولا تستأنس إلا بالانخذال من صَوبها، فإذا تهيّأتْ وتمكّنتْ، مع مرور الوقت، هذه الحال الروحيّة والسايكولوجيّة من الانخذال، أمكن آنذاك للأرباب الصغار وأنصاف الآلهة أنْ يبسطوا سلطانهم كلّه كاملاً على كينونة الجمهور المسحور، الخائف الخائب، الـمُنخذل جاهزاً للخذلان من قيعان روحه ونفسه، وهاهنا تتدرّج بأنصاف الآلهة والأرباب الصغار عمليّات بسط سلطانهم، فنبدأ مثلاً من نقطة إطلاق تعبير «خلفاء الشرع« على حكّام عاديين من حكّام الدنيا الآسنة، ونمر بقيلة فرعون القديم: «ما أريكم إلا ما أرى«، سالباً منهم ومُصادراً عقولهم وأفهامهم ومشيئتهم المعرفية الفطريّة، ثمّ ننتهي أو نكاد عند قيلة فرعون أيضاً، وقد طاول بخياله السقيم أطناب السماوات: «أنا ربّكم الأعلى«... فما بقيَ من بعدُ شيء.
في سورية وفي غير سورية، بخاصّة في ديار العرب وأراضي الـمُسلمين، ما كان للطغيان أنْ يضرب أوتاده في الأرض، وما كان لمجازر مثل مجزرة حماه، في فبراير 1982، أنْ تقع من صوب الجبال وقوعها الهائل الـمُروّع الـمُفزع، لو أنّ بقية المدن والأرياف، وخصوصاً دمشق، قامتْ يومئذ قومتها أيضاً مع قومة حماه، ولو أنّ الجمهور السوري الغفير، خاصّة من أبناء المصبّ الرئيس، أيْ أهل السنة والجماعة، انتصروا في كلّ أنحاء سوريا لإخوانهم الحمويين الثائرين، فحملوا السلاح ونظموا الـمُقاومة وانضموا إلى الثورة ووسّعوا أرجاءها.
لكنّ ثورة حماه إنما غدر بها أهل السنة والجماعة، أيْ أبناء المصبّ الرئيس، فتركوا الثورة، مع المدينة على بكرة أبيها، يفتك بهما النصيريون القادة، وفي الميدان أمامهم أجنادهم من الحفاة الجفاة رعاء الشاة الـمُرتزقة.
لعام فيومئذ، كما اليوم، غلب الانخذال على الأرواح والنفوس، وهذا ما وجدنا أنموذجاً منه، غير رائع ألبتة، في مشهد مُداولات «البرلمان« السوري في شأن عبدالحليم خدّام، فما بقي أحد من الأعضاء إلا وتكلّم، وما منهم إلا واستعرض بضاعته من النفاق الخالص، وكأن أهونهم ها هنا «نائب« من الشيوعيين تجرّأ فقال إنّ الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلاد يجبُ أنْ تكون هي صيغة الردّ المُفحِم على أقوال خدّام.
وما عدا هذا «النائب« قيل في خدّام، في تلكم الجلسة المأساوية جدا فكريّاً وأخلاقيّاً ووطنيّاً، ما لم يقلهُ مالك في الخمر، وتبارى «النوّاب«، على بكرة أبيهم، في استعراضات بضائعهم التي تقْطُر نفاقاً خالصاً لذوي السلطان وأنصاف الآلهة، فلقد أزعجهم انشقاق مُنشق، استيقظ ضميره وقد شاخ، يريد أنْ يقول بعض أو كلّ كلمة الحقّ، فهُم يريدون طمره في باطن الأرض بالخرسانة، على غرار جرائم ليلهم المتمادي البهيم.
لولا قد أزعج ولاة أمرهم هذا الانشقاق، فيريد هؤلاء «النوّاب« وأمثالهم الآن تجديد بيعة الانخذال لولاة الأمر أولئك، أنصاف الآلهة، وتطييب خواطرهم الـمُنزعجة المفزوعة، وتضميد جراحهم النازفة، من فِعلة عبدالحليم خدّام الـمُفاجئة، التي لم يتوقّعها من قبلُ أحد.
http://www.akhbar-alkhaleej.com/ArticlesFO...=153265&Sn=SHKH