و الآن ..
بعيدا عن الآراء الشخصية و التجارب الذاتية ..
أحاول ان أتخذ موقفا من القرآن بموضوعية أكثر.

القرآن .. الدعامة الرئيسية و الاساسية للإسلام.
ديانة الألف مليوم نسمة و يزيد.
القرآن الذي لو تعارض مع ثابت و صحيح من السنة شخصيا فإن القرآن له الاولوية.
قد تكون احاديث الرسول مشكوكا فيها من قبل المسلمين أنفسهم و لكن ولا واحد يستطيع ان ينكر القرآن دون ان يجد نفسه خارجا عن الدين ..
الإسلام هو القرآن في المقام الاول و النبي في المقام الثاني.

و القرآن لو تأمل المرء في معناه بالنسبة للمسلمين لأصابه الإحباط.
يعني أن المسلمين لا يراهنون على تعاليم معينة يرونها أفضل التعاليم كما يفعل المسيحيين.
المسيحيين قد تراهم يتكلمون عن تعاليم ربما تراها مبالغ فيها في أحيان كثيرة و قد تشعر أنها عالية عليك أو بعيدة عن متناول يدك ..
من ضربك على خدك الأيمن حول له الآخر .. من نظر إلي إمرأة و إشتهاها فقد زنى بها في قلبه... الأفضل للمرء أن لا يتزوج كما قال بولس الرسول.
و لكن التعاليم في الإسلام و الموجودة في القرآن تحديدا لا تمثل تحديا و لا تحاول ان تكون أعلى من الناس أو صعبة عليهم أو تتطلب منهم الكثير من المجهود.
الإسلام بوجه عام لا يقدم نفسه كدين تعاليم بقدر ما يقدم نفسه كدين الله الوحيد .. و أي دين آخر ورقه مضروب او متهرب من الجمارك.
انا لست معنيا الآن بمسقط رأس الإسلام على أساس أنني أفكر فيه كدين عالمي ..
لم يكن الإسلام في معظم الأحيان يتحدث عن سمو الأخلاق بقدر ما يحكي عن الطاعة العمياء لله ..
و بالتالي فإن تعاليمه (او أوامره و نواهيه لو شئنا الدقة) كانت ملتزمة بوسطية و ربما أقل من الوسطية في أحيان كثيرة.
يعني لم يؤكد القرآن على التسامح و الغفران بقدر ما أكد على أن العين بالعين و السن بالسن.
ليس الأمر صعبا هنا ان يكتفي المرء بأخذ حقه فقط دون زيادة.

بوجه عام يفتخر المسلمون بدينهم على انه دين وسطية و ..
ساعة لقلبك و ساعة لربك.
إعمل لدنياك كأنك ستعيش ابدا و لآخرتك كأنك ستموت غدا.

بعكس المسيحية التي تؤكد على ان العالم شرير و لا يستطيع أحد ان يخدم سيدين و صعوبة دخول الغني ملكوت السماوات باكثر من دخوله ثقب إبرة.
فيستطيع المرء المزايدة بسلوكه في المسيحية و الميدان واسع (لم أتعرض لكون المزايدة سليمة و معقولة ام لا .. فقط أقول أنها موجودة) و لكن في الإسلام يستطيع المرء ان يقبض بيمناه على الدنيا و مباهجها و بيسراه على الجنة و ملذاتها.

القرآن لم يطرح تعاليمه على أنها تعاليم رائدة عالية صعبة المنال ..
بل أن تعاليمه تتميز أولا و أخيرا انها هي ... الآتية من الله.
طبعا هذا يطرح تساؤل "و إذا لم يكن الله هو الراسل لتلك التعاليم .. هل يعني أن تلك التعاليم بلا قيمة ؟" ..
و هذا يحول الامر إلي الحديث عن وسطية الإسلام و بساطته كدين الفطرة و سماحة تعاليمه و أن الدين يسر لا عسر و أن الله رؤف بعباده .. ألخ ألخ


و الآن ..
بما ان القرآن لم يقدم نفسه كتعاليم خارقة و معجزية فما هو المعجز فيه ؟
في المقام الاول فإن مكانة القرآن في الإسلام هو كمعجزة لغوية.
يعني كلام خارق للطبيعة لأنه كلام مرسل من الله ..
الله هنا هو أديب عظيم و خارق ربما مثل نجيب محفوظ او تشارلز ديكنز او ديستويفيسكي و لكن طبعا الله هو اديب و شاعر على كبير بحكم كونه الله.
و لأن الله هو الذي أنزل هذا القرآن فهذا يجعل من القرآن ثرثرة بليغة و رائعة و معجزية بما لا يقاس.
في الحقيقة كلما وصلت إلي تلك الجزئية اجد الأمر .. مضحك جدا و ربما تافه جدا (أسألكم طول الأناة) .
يعني القرآن هو مجرد كلام جميل كلام معقول مقدرش أقول حاجة عنه ..
مجرد صور فنية من اللعب بالألفاظ و إستخدام مفردات لها سجع جميل ..
قطعة فنية من الكلمات المتراصة بجانب بعضها البعض تكتب بماء الذهب و تعلق على الكعبة كما كانوا يفعلون بالمعلقات قبل الإسلام.
يعني إذا فرضنا فرضا أن القرآن هو معجزة اللغة العربية و هو ما لا أجده معقولا أو منطقيا.
يعني اللغة العربية نفسها لم تكن قد إكتمل شكلها و ثبتت أركانها حين نزل الإسلام ..
لم يكن قد كتب بها مسرحيات او روايات أو ما إلي ذلك ..
بل اتصور ان اللغة العربية كانت ملتزمة بالقرآن نفسه حين تشكلت و إكتملت ملامحها.
و لكنني أتصور لو أن الأمر كان حتميا أن يكون كتاب الله هو معجزة لغوية و لو كان الله أكثر حكمة لإنتقى لغة لها تراث أكثر و عدد متكلميها أكبر و مستقرة منذ زمن كبير.
يعني لماذا لم يختار الله اللاتينية مثلا لينزل بها كتابه ؟
ربما سيكون وقتها إلها مثقفا ...
لغة الفلسفة و الشعر ..
لغة كتبت بها أشعار و ملاحم و مسرحيات ..
و لكن طبعا و لكي يكون القرآن معجزيا بأكثر مما هو معجزي فإن على المسلمين أن ينفخوا في صورة اللغة العربية كأجمل و أفصح لغات الأرض و لهذا إختارها الله لقرآنه الفصيح.
و حجتهم ان يكفي اللغة العربية أنها لغة القرآن ..
و يكفي القرآن أنه معجزة اللغة العربية.
و هكذا يشهد تافهان لبعضهما البعض.

و لكن لا ...
الفكرة نفسها تافهه و المنطق عابث.
يعني إذا فرضنا فرضا أن اللغة العربية هي لغة الجنة و ان الله شخصيا هو من أبدعها و أرسى دعائمها لدى خير أمة أخرجت للناس (معرفش ليه أو بأمارة إيه بصراحة؟ .. ربما لأنها أمة اللغة العربية و بالتالي يصبح لدينا العنصر الثالث و المكمل للتفاهه مكتملة الاركان .. القرآن و اللغة العربية و خير أمة) ..
أقول لو فرضنا هذا .. أن القرآن هو معجزة الفصاحة و الثرثرة الخارقة و الاولى بلا منازع.
ما الذي يجعل هذا دينا على أي حال ..
يعني هل يستطيع المرء ان يصنع شوربة على عظم فراخ ؟
أين هو لحم هذا الدين إن كان أساسه هو الفصاحة و البلاغة و الحذلقة اللغوية ؟
الفصاحة .. هل هذا هو الإعجاز القرآني ؟
البلاغة .. اهذا هو افضل ما يستطيعه الله ؟
يؤسس لغة و يرسل قرآنا متفوقا في قواعد اللنحو و الصرف و الصور الجمالية ... أهذا كل شئ ؟
أهذا هو الإعجاز القرآني ؟
ثم نتضايق بعد ذلك من السلوك العروبي في الشجب و التنديد و الإستنكار دون فعل شئ ؟
ثم نحكي عن أن العرب ظاهرة كلامية ؟
إذا كان أصلا القرآن .. ذروة إبداع العرب ما هو إلا كلام عظم او قل شانه.
بل ليس ذروة إبداعهم أنفسهم ... و إنما ذروة إبداع إلههم شخصيا و هو ما يعني أن العرب لن يستطيعوا ان يبدعوا إبداعا لغويا يساوي أو يقارب إبداع القرآن.
لأن الله طبعا هو مستوى تاني من الإبداع اللغوي.

و لو نظرنا إلي الإبداعات اللغوية لأمم الأرض لرأينا آثارا أجمل و لها معاني أفضل من مجرد قرآن مرتكز على حروف حلقية.
يعني لو قارنا القرآن بكتابات شكسبير مثلا (تذكرني بتمثيل يوسف بك وهبي) .. طبعا لن يساوي القرآن وقتها تلاتة تعريفة.
و لو قارنا القرآن بمقطوعة موسيقية او إحدى سيمفونيات بيتهوفن الاقل شهرة .. لن يساوي القرآن تلك التلاتة تعريفة.
و لو قارنا القرآن (هذا الإبداع الإلهي) بهرم مصر الأكبر أو سور الصين العظيم ... و هي أشياء أكثر عملية و لها معاني أكثر من مجرد كلام في كلام.
كم سيساوي القرآن وقتها ؟
القرآن .. تلك المعجزة اللغوية الإلهية و التي تأسس عليها الإسلام بل المادة الأساسية للإسلام ليس أكثر من كلام جامد قوي و فصيح و بليغ في أفضل الأحوال.
كلام في كلام.
صوره الجمالية و تشبيهاته البلاغية لن تجعله ... البنسلين أو أي كشف علمي آخر.
بل و لن تجعله موازيا لما هو أفضل منه من تراث الإنسانية العظيم ...
يعني لو ان الله قد نزل من سماؤه السابعة ليوزع على الناس كتابه العزيز و ذكره الحكيم في نسخ مجانية .. ما حصل على جائزة نوبل في الادب رغم ذلك.
هناك من هو أفضل منه ... و ما هو أفضل من القرآن.

(يتبع)