مساء الفل
الزميل وليد شكرا لك على الترحيب
اقتباس:يا عزيزي كلنا أستاذ.
أنا أدرك أنّ هذا الشخص الذي يمتاز بالتعميم وتجاوز التخصص والحديث فيما لا علم له به وكأنّه على علم به موجود في كل منّا، وذلك ما أشرت إليه في ردي على الزميلة دينا التي لاحظت بذكائها الأستاذ في داخلها والذي هو منفصل عنها كإنسانة واعية مدققة في الأمور.
غير أنّ ما أردت الإشارة إليه حقيقة في موضوعي هو الإنسان المتعالم كظاهرة متفشّية من حولنا، وكشخص يتمتع بهذه السمة بشكل يفوق الشخص العادي Average Person. ففي البيت مثلا عادة ما نجد أحد أفراد الأسرة متعالما، وفي العمل كذلك وفي الشارع وفي كل مكان. ولكن المتعالم الأخطر هو ذلك الذي يحظى بعمود في جريدة أو مقال إلكتروني أو كرسي إعلامي لأنّه بذلك يمتلك امتياز تضليل الآخرين على نحو واسع.
كما أنّني أثير مشكلة مؤلمة لي بصفة شخصيّة وأطرح تساؤلاً: فلماذا تبدو الحقيقة دائما قابعة فيما لا نعرفه؟، ولماذا يبدو ما نعرفه دائما غير كاف؟، وهل هذا هو مصدر ما نسميه "شهوة المعرفة"؟ ولماذا تبدو هذه الشهوة موجودة عند البعض وتختفي عند الكثيرين؟، وهل يمكن أن يطور إنسان فعلا فلسفة تشمل " كل شيء"؟ ، وإذا كان هذا مستحيلا فهل المتعالم إنسان مريض أم أنّه بلغ درجة من الوعي أدرك معها المفارقة بين ما يعرفه الإنسان وبين ما يود معرفته، وأدرك استحالة أن يعرف الإنسان ما يود معرفته، وطور بذلك طريقا مختصرا shortcut من خلال إجاباته على كل شيء بحيث أصبح يفرض هذه الإجابات على الآخرين مستعينا بلباقته وقوة ثقته فيما يقول، حتى يطور دفاعا ذاتيا استباقيّا ضد أي احتمال للهجوم المعرفي عليه من الآخر، وبالتالي كشف افتقاره إلى "الحقيقة" الكامنة دائماً فيما "لا نعرفه".
ثم إنّ الطريقة التي يتحدث بها المتعالم عن " كل شيء" توجد عند المتخصص نوعا من الشعور بالخطيئة وضّحته في نص الموضوع.
لقد علّمنا الأكاديميّون دائماً أن " نعرف شيئاً عن كل شيء وأن نعرف كل شيء عن شيء" وهو مفهوم المتخصص الذي يمتلك ما يسمى "بالثقافة العامّة".ولكن هل هذه "الثقافة العامّة" إلى جانب "التخصص" هي خيار مرضٍ حقا للإنسان؟، هل يرضى أحد مثلاً أن يكون طبيب أسنان محترف في مجاله، ويمضي كل الوقت في متابعة آخر المستجدات ، والقليل من الوقت في قراءة إحدى الدوريات العامة أو الكتب الميسّرة من نوع " مختصرات الحقائق " لأخذ "فكرة" عن بقيّة المجالات؟ وهل يمكن أن يقبل هذا الطبيب أن يموت على هذا الحال؟ بحيث أنّك لو سألته عمّا إذا كان يود أن يعرف أكثر عن القبّالاه مثلاً فسوف تكون إجابته "قبّالاه؟ لا شكرا وإنّما يكفيني طب الأسنان"؟.
إنّ علم المعلومات يخبرنا أنّ من مشاكل المعلومات: النمو الهائل في حجم الإنتاج الفكري، وفي تشتت هذا الإنتاج.
فعلى سبيل المثال لو أخذنا "الإنسانيات" من حيث الإنتاج الفكري العربي في مجال الدوريّات فقط، لوجدنا أنّه في عام 1950 كان عدد الدوريّات المتخصّصة في الإنسانيات 1470 دورية عربية صادرة في الوطن العربي، وقد بلغت في العالم العربي بحلول عام 1973 5490 دوريّة. ولو فرضنا أن هناك باحثا سواء أكان باحثاً أكاديميّا متخصّصا أو باحثا عن الحقيقة بمجهوده الشخصي، يريد إعداد بحث عن ضرب المرأة في الإسلام من حيث مفهومه عند المفكرين، فهل يمكن أن يصل هذا الباحث إلى كل المقالات التي كتبت (في الدوريّات العربية ) عن ضرب المرأة في الإسلام حتى يقوم بتجميع المعاني والتأويلات المختلفة حتى يستطيع أن يعادل بينها ويقوم بترجيح الرأي الذي يراه الأرجح في هذا النتاج الفكري؟ بالطبع لا. وتتفاقم المشكلة عندما نضيف الدوريات العالمية المتخصصة في الإنسانيّات والتي تناولت نفس الموضوع سواءً من وجهة نظر مدافعة أو معارضة أو محايدة، فما بالك إذن لو أضفنا إلى المشاكل السابقة للمعلومات مشكلة أخرى ألا وهي: تنوع مصادر المعلومات وتعدد أشكالها. بحيث أنّ هذا الباحث لن يرتاح إلى أنّه قد توصّل إلى الحقيقة فعلاً إذا اكتفى بالمصادر التي تناولت موضوع ضرب المرأة في الإسلام في الدوريّات فقط ولن يكون هذا مرضياُ له، بل إنّ عليه العودة إلى الكتب والأسطوانات المليزرة وأعمال المؤتمرات والمخطوطات والرسائل الجامعيّة التي تناولت نفس الموضوع على مر السنين. فربّما يجد في رسالة جامعيّة واحدة تناولت موضوع ضرب المرأة ما لم يجده في كل ما قرأه سابقاً، ويكون هذا الإكتشاف - سواءً كان حججا أو دراسة إحصائية أو خلافه - نقطة فاصلة عند هذا الشخص وتحولاً دراماتيكيّا في بحثه الأكاديمي أو في قناعاته الشخصيّة، وبالتالي في فهمه وإدراكه للحقيقة.
وإذا كان هذا في موضوع بسيط كهذا - أو يبدو بسيطاً للعامّة - ( وما أقصده هنا بالعامّي : هو كل شخص لا يدرك أن كل المواضيع هي حقيقةً أعمق مما يتخيّل ) ، وإذا كان البحث يستغرق سنوات طويلة، والباحث يعلم أنّه يرغب أو لا زال يأمل البحث عن حقائق أخرى أكثر أهميّة بالنسبة له، وقد تؤدي إلى تحولات جذريّة في حياته وفهمه لهذه الحياة. فإنّ استغراقه كل هذا الوقت لدراسة تفصيلة واحدة مغرقة في التخصص يدفعه إلى الإحباط الشديد.
وهنا يأتي دور "الأستاذ" الذي تحدثت عنه.
وهذا الأستاذ قد يكون نابعاً من داخل المتخصص ذاته، وقد يكون شخصاً آخر، وفي كلا الحالين ، فالأستاذ يعد بمثابة ممثّل رسمي "للتسطيح" كأسلوب مقاومة لحقيقة أنّه " لا يمكن معرفة أي شيء" وأنّ " المعرفة دائماً كامنة فيما لا نعرف وبالتّالي المعنى الذي نبحث عنه" ، مما يؤدي إلى نتيجة هي أنّه " لا معنى إذا كنّا لا نعرف ولن نعرف" ، فإنّ " الأستاذ" هنا يقوم بدور الخالق للمعنى من اللامعنى، والحكيم الذي يعلم أنّه يمثّل الذاتيّة ويفتخر بهذا التمثيل. وعلى الرغم من أنّ "الأستاذ" قد يعطي معلومات مغلوطة، إلا أنّه يعطي معها الطمأنينة المسكّنة، والتي هي أصلاً مطلب الإنسان من الجري وراء المعرفة، والتي وجد أنّها مستحيلة. ولهذا يتحول هذا "الأستاذ" إلى مخلّص شخصي، خاصة عندما يكون نابعا من الذات، أو إذا كان من خارجها ولكنّه ادعى أنّه يتحدث باسمها.
أمّا ما أريد أن أقوله في موضوعي : ليس أن "الأستاذ" ظاهرة سيئة أو سلبيّة، ولكنّها ظاهرة حتميّة لكل باحث عن الحقيقة أدرك من خلال بحثه استحالة المعرفة. ومن الممكن أن يكون هذا "الباحث" الذي أتحدث عنه فرداً أو مجتمعا بكامله. وقد أدرك هذا "الباحث" استحالة وجود المعنى في العالم، فاستعان " بالأستاذ".
وكل ما أنصح به هنا هو أن يغرق كل إنسان في تخصّصه، وأن يحتفظ "بأستاذه" لنفسه. ولا بأس أن يعبد المتخصص "الأستاذ" إذا شاء، ولكن المهم هو أن لا يفرضه أو يحاول فرضه على أحد.
وعلى فكرة يا جماعة ، أنا لست فيلسوفاً ولا علم لي بالفلسفة، وكل ما أفعله الآن هو أنّني أفكّر بصوت عالٍ وبحماقة أيضاً أو في كلمات أخرى : تركت أستاذي يتكلّم ، ولهذا لا تجربوا ما أقوله في المنزل. فقد يكون خطراً، وليتبع كل شخص "أستاذه".
أراكم بعد حين