أخي بهجت:

كنت منتظر بصراحة تشريفك لهذا الموضوع وأسمع رأيك فيه وأعرف انطباعك عن رموز "الفكر" حالياً على الساحة في مصر. أعدك أني أقرأ الموضوع عن المثقفين والثقافة والحقيقة ما منعني سوى الخجل لأني أخشى أن أكتب شيء في غير محله. فعلا أنيس منصور هو عينة من عينات المثقف الأداة الذي تصنعه المؤسسة وكلما تذكرته كلما تذكرت حلاق الوزير في العصر العباسي. صارت الدولة تدير كل شيء وتوجهه وصارت طائفة أو ملة المثقفين تخضع لمقاييس معينة وشعارات طنانة لا تسمن ولا تغني من جوع ومادام يختمونها بديباجة "حماك الله يا مصر" فالتعويذة سارية المفعول والجماهير يصفقون سواء فقهوا شيء أم لم يفقهوا كأغلب الأوقات. وأوافقك القول في أن هناك معضلة بين الفن للفن كرسالة والفن كحرفة يقتات منها الفنان بحق ما بذل وضحى من وقت وصحة وعمر متفانٍ. هذا هو الصراع بين الموظف والمثقف والذي تعرض له الدكتور خالد منتصر وتبادلت معه الرسائل حول مقالته البديعة عن صلاح عبد الصبور، الرجل الأسطورة:
http://www.elaph.com/ElaphLiterature/2005/1/33904.htm

لكن يا أخ بهجت ومادمت تفضلت وذكرت إسم ذلك الرجل الذي يأتي إسمه بكل أسارير الابتهاج لقلبي وهو طه حسين وهو كان موظف في المملكة المصرية ووزيرا للمعارف ولكنه لم يجامل أبدًا على حساب فكره. في شرح ديوان سقط الزند [ سلسلة آثار أبي العلاء المعري ] يجامل طه حسين مولانا الملك فاروق بأن يكتب إسمه بالفونط العريض وليكن مقاس 5 بمقياس النادي هنا مثلا. لكن الرجل يحترم منهجه الفكري الخاص به، ولا يدنسه أبداً. لو قرأت كتبه عن أبي العلاء المعري وصراحته وحريته الغير عادية لما وسعك إلا أن تتمنى لو تقبله وتقبله وتتعجب من عطايا الزمان لنا في مفكر صادق كهذا. ما المانع أن يكون هذا الـ أنيس منصور مثل طه حسين ويكون موظف في الدولة ويقتات منها وفي الوقت نفسه يكتب بشكل يدعم الفكر الليبرالي الناضج؟ لا أقول أو أتوقع منه أن يهدم الموروث فلم يفعل هذا أبداً طه حسين ولكن على الأقل يعلم الناس أن هناك شيء اسمه تفكير نقدي وهناك أدوات للقراءة بعقل مستبصر واعي. ولا أخفي سخطي على البترول الذي قلب الموازين في هذا الدهر وأتمنى له أن ينحسر أو ينقشع ويتكلم الجميع على قدم المساواة و"مافيش حد أحسن من حد". لكن حتى في دول الخليج لا أعتقدهم يحبون أنيس منصور.. ربما أنا مخطيء. يا أخ بهجت هذا الرجل قاريء واعي ومتمكن من فلسفة كيركجور وإذ بي أتصفح كتاباته من ملف نشره صديق هنا وأجد عمو أنيس يتحدث عن معجزة النخل الذي يبكي ويدمع.. يا بن الإيه! من كيركجور وهيدجر إلى النخلة والخنفسة وسليمان والنملة!! كلام فارغ. سمعت أن زكي نجيب محمود قال إن إيمانه أعز شيء عنده ولا أعرف مدى صدق هذا ولا يهمني ولكن ما يهمني هو أني عندما أقرأ كتاب لزكي نجيب محمود أعرف أني أمام مفكر فعلاً ويعلمني كيف أكون صاحب منهج. في كتابه شروق من الغرب هناك مقال يرد فيه على أبو العلا عفيفي عن التصوف وبصراحة الراجل توصى به وزيادة شوية وفي حين ظهر للقاريء إنه يرد على التصوف كان هو في الحقيقة يرد على السؤال الأكبر: هل يملك العقل كعقل البرهان على وجود الله؟ والجواب هو قطعا لا! أعجبني جداً ويجعلني أحترمه جدا. وأعود وأسأل نفسي: ما المانع أن يكون أنيس منصور عنده دم ويكتب على هذا المستوى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!! الله يخرب بيتك يا أنيس منصور! خليه في القصص التوراتي والنملة والخنفسة.