الزميل العزيز إبراهيم .(f)

اقتباس:وذكرت إسم ذلك الرجل الذي يأتي إسمه بكل أسارير الابتهاج لقلبي وهو طه حسين وهو كان موظف في المملكة المصرية ووزيرا للمعارف ولكنه لم يجامل أبدًا على حساب فكره

تمدنا سوسيولوجيا المعرفة بأدوات جيدة لفهم الظواهر الثقافية ، فالمثقف هو نتاج نسق ثقافي بذاته ، يا عزيزي لا يوجد مفكر تنويري بل يوجد زمن تنويري ، طه حسين لم يكن ظاهرة فريدة بل هو الرمز الأشهر لحقبة فريدة في تاريخ مصر ، حقبة غير مسبوقة و لا متبوعة يمكن أن نطلق عليها ربيع الليبرالية المصرية ، هذه الحقبة لا تنتمي للأجندة الثقافية للشعب المصري كله و لكن فقط لنخبة أرستقراطية و برجوازية عليا وطنية لم يقدر لها الإستمرار طويلا فسرعان ما التهمتها البرجوازية الصغيرة التي ساهمت هي نفسها في تكوينها ، هذا الربيع الليبرالي الذي يشبه زهور التيوليب و قد أينعت بمعجزة ما في صحراء قاحلة امتد لحوالي 25 عاما في العشرينات و الثلاثينات و حتى منتصف الأربعينات من القرن الماضي ، لم يكن طه حسين وحيدا أو شاذا في هذا النسق الثقافي ، ستجد هناك أسماء لا تقل سحرا و أصالة مثل لطفي السيد و محمد عبده و علي عبد الرازق و قاسم أمين و عبد العزيز فهمي و سلامه موسى و محمد حسين هيكل و عباس محمود العقاد و فرح أنطون و شبلي شميل و عبد الرحمن الرافعي و توفيق الحكيم و ....،بالطبع لم ينته هذا الربيع كلية فقد ظلت هناك بعض الزهور التي قاومت التصحر الأصولي فنجد و على فترات متباعدة أسماء مثل حسين فوزي و محمد مندور و لويس عوض و حسين خلف الله و محمود أمين العالم و .... ، كانت الليبرالية المصرية ظاهرة فوقية نتيجة اتصال البرجوازية العليا بالحضارة الغربية ، و كانت مهيمنة على الثقافة إلى الحد أن كل الكلمات بدت ليبرالية متحضرة ، كانت الليبرالية منتشرة و لكنها ليست عميقة الجذور wide but shallow لهذا لن نندهش عندما نجد أن كثيرا من تلك الأسماء تنتكس و تتحول إلى السلفية الإسلامية بعد ذلك ، فعباس العقاد يتفرغ لكتابة العبقريات التي تنتشله من الفقر ، و يتحول الناقد الليبرالي الواعد سيد قطب إلى الرمز التكفيري الشهير ، بل حتى طه حسين يصنف إسلامياته الشهيرة ، لقد انتهى الزمن الليبرالي فتحول نفس المثقف إلى نموذج للفكر الأصولي المنغلق ، لهذا أحمل تقديرا مضاعفا لكل المثقفين الأحرار غير المنتكسين أولئك الذين تحركهم القيم الإنسانية العليا مثل الحق و الخير و الجمال من أمثال سلامه موسى و فرج فوده .

اقتباس:ما المانع أن يكون هذا الـ أنيس منصور مثل طه حسين ويكون موظف في الدولة ويقتات منها وفي الوقت نفسه يكتب بشكل يدعم الفكر الليبرالي الناضج؟ لا أقول أو أتوقع منه أن يهدم الموروث فلم يفعل هذا أبداً طه حسين ولكن على الأقل يعلم الناس أن هناك شيء اسمه تفكير نقدي وهناك أدوات للقراءة بعقل مستبصر واعي

كل من يعمل في مجال الفكر و الإعلام العربي يضع عينه اليسرى – إن لم تكن عيناه كلتاهما - على التمويل السعودي و الخليجي ، فالدولار البترولي يمول كل كلمة تقال أو تكتب ، الأمر ليس فقط أين تكتب الآن بل أين تريد أن تبيع ما تكتب مستقبلا ، المقال في أي صحيفة مصرية لا يتعدى جنيهات قليلة ،و لكن أن تبيع نفس المقال في صحيفة عربية أو خليجية يعني شيئا مختلفا ربما عشر أو حتى 50 ضعفا ، أنيس منصور يكتب في الشرق الأوسط فهل يمكن أن تتصور فرج فوده أو نصر حامد أبو زيد أو كمال غبريال كاتبا في الشرق الأوسط أو الخليج ؟ ، ربما يستطيع كاتب مناضل مثل المرحوم فيليب جلاب أن يكتب في البيان الإمارتية زمن عبد الحميد أحمد بعض المقالات عن فرج فوده و لكنه لا يستمر طويلا ، بل نعرف كيف توقف الكاتب الكبير رياض الريس عن كتابة مقاله الأسبوعي في النهار اللبنانية بناء على طلب وزير الإعلام السعودي في مقابل طباعة صحيفة الشرق الأوسط السعودية في مطابع الصحيفة وهي الصفقة التي توسط فيها رفيق الحريري ، رغم ما نعرفه جميعا عن الإستقلالية النسبية التي تتمتع بها صحيفة النهار تحت رئاسة آل تويني ، لم يطالبه غسان تويني بالتوقف بل اكتفى بمنع مقاله أسبوعا ليتوقف رياض الريس طوعا .
يا عزيزي .. إن من يمول الثقافة يفرض محتواها ، الأمر لا يحتاج كارل ماركس ليقول هذه الأشياء فنحن نعرفها بالمشاهدة البسيطة ، و نعرفها بعمق أكثر عندما نقرأ مثل كتاب فرانسيس ستونر سوندرز الحرب الباردة الثقافية " المخابرات المركزية الأمريكية و عالم الفنون و الآداب " .إنني لا أبحث عن أعذار لأنيس منصور فحتى بائعات الهوى المهذبات يترفعن عن الإبتذال ، فياليت يتعلم منهن كتابنا الكيار شيئا مثل هذا الترفع .
تحباتي .:redrose: