كانت الساعة في حدود السابعة صباحا عندما خرجت من غرفتي وقلت لجدتي الجالسة بمكانها الأثير من الصالة تشرب القهوة:
- يا أحلى عجيّز تفطرين معي .. من الجوع (مشتهية أقعد على مفطح)!
بدت غير متأكدة مما تسمع فقالت متلعثمة من الفرح:
- (أفطر ونص .. بس من وين لنا مفطح هالحزه)!
دخلت المطبخ فلحقت بي وسألتني وأنا أضع الماء في الابريق:
- هل نمت البارحة .. ؟
- نوم متقطع لكن أحسن من لاشيء ..
- نعمة الحمد لله .. العافية (على شوي شوي) .. !
- (وأنا أقبل رأسها ): وأهل مصر يا جدة يقولون (احنا كنا فينا وبئينا فين)..!
يبدوانها أجلت سيرة النكد حتى انتهي من افطاري لانها قالت فيما بعد:
-الخايس اشترط ان نرد له ثلاثينه ..! (1)
- سندخلها يا جده في ( ....) لو أحب .. المهم ان يطلقني (اليوم قبل بكره) .. لن يعود عمر من سفره وأنا على ذمة هذا البغل ..
***
(1) 30 ألف ريال قيمة المهر، وتلزم المرأة في العادة برد المهر للرجل دون النظر في أية اعتبارات إن كانت هي الراغبة في الطلاق
قال عمر:
- أنا ولي أمرها وقد وافقت نيابة عنها..!
ضحك مشاري :
- ما رأيكم إذن في نهاية هذا الأسبوع!
رد عمر:
- ممتاز ! لكن ليكن معلوما لديك اني لا أسافر برا وعليه فتذاكر الطيران ستكون ضمن الدعوة!
لم أتركه هذه المرة فقلت :
- (والله إنك شحاذ محترم .. تحسبها بالريال )!
- (وهو يقهقه) : أفسدتني عشرة الخواجات .. آآه يا حشاشة جوفي يا فكتوريا !
قطع مشاري الحديث قائلا ونصف ابتسامة على شفتيه:
- موافق .. لكن أنا وسارة في الدرجة الأولى وأنت سياحي ..!
....
الشاليه بديع ويطل مباشرة على البحر ..
ما ان انتهت جلبة الوصول وترتيب الأغراض حتى قال عمر :
-وأين سنتعشى الليلة .. أعرف مطعم ذواقة في الخبر ..!
أشار مشاري بيده إلى الواجهة الزجاجية التي تفصلنا عن جلسة خارجية ليست بعيدة عن البحر:
- انظر هناك ماذا ترى .. شمر عن ساعديك واعرض لنا مهارتك في الشواء .. !
في المساء انضم الينا أحد أصدقاء مشاري وزوجته وشاركونا جلسة الشواء الماتعة .. كانت المرأة السمراء السمينة في غاية الانس .. ورجلها ( الحساوي) الطريف لم يتوقف طوال الليل عن المزاح والضحك ولكن :
- هاااه تراي ما اسمح بالحش في الشيوخ .. بعدوني الله يرحم والديكم عن السياسة !
تصلنا من الشاليه المجاور أصوات سمر وضجيج أطفال .. يسرح بصري في صفحة الماء الرائقة ..
ليلة من تلك التي اغتسل فيها قلبي من همومه .. وضمدت روحي جراحا غائرة ..
أتأمل في انسجام الحساوي وزوجته .. وانطلاقهما .. وطيبتهما .. ومزاحهما .. وسعادتهما .. فكأني أستعيد ثقتي في الناس و الحياة ..
مال عليّ عمر كما لو أنه قد عرف ما يدور في خلدي فهمس في أذني:
- أنصحك لوجه الله بمصادقة هذين الزوجين الرائعين .. خاصة هذه السمينة خفيفة الدم اعتبري ذلك ضمن برنامج النقاهة ..
....
باب غرفة نومه كان مواربا وموسيقى هادئة تنبعث منها .. ناديت بعد تردد دام دقائق معدودات :
- مشاري !
لحظة خاطفة وفتح الباب على مصراعيه .. يرتدي بيجامة زرقاء حريرية من قطعتين .. قال بابتسامة عريضة:
- أهلين وسهلين .. تفضلي !
- سرعان ما شعرت بفداحة ما أقوم به فقلت بغباء وارتباك :
- لا .. فقط أردت أن أسألك كيف يمكن تخفيض التكييف المركزي .. أشعر بالبرد !
- حسنا تفضلي الباب مفتوح كما ترين ..
ثم تابع بشكل استعراضي اظهر ضيقه:
- وسأخبرك عندما تتفضلين كيف يمكن تخفيض التكييف المركزي ..!
- (وانا أجاهد لأمنع نفسي من الارتماء في حضنه): قلت لك لا .. افهم .. هيا تصبح على خير ..!
- جذبني من يدي، قال حانقا وهو يغلق الباب: كوني مطمئنة يا ست سارة.. أتمناك بكل جوارحي نعم .. لكني لست بحيوان ..
جلست على طرف الأريكة بينما أشعر بوطأة حلم ثقيل:
- أنا مجنونة وأنت أكثر جنونا مني ..
- (انحنى وقبلني على فمي المرتعش ): ألذ عيشة ياخبلة هي عيشة المجانين ..!
معه بعيدا عن الرياض .. تحت سقف واحد .. وتحديدا في غرفة نومه .. وفي حدود الواحدة ليلا .. أي قدر هذا ؟!
وهو يبدل الشريط:
- أعرفك لاتحبين سعدون جابر لكن لايليق بهذه الليله سواه.
"لا مانقدر على دمعات العيون ..
لعيونك إنت يا حلو لعيونك
تسلم يافرحة من العمر .. يا ضي العيون ..
مر بينا .. مر بينا ..
ما ظل صبر بينا ..
تلقى الوفا بينا"
جلس بجانبي، يغازلني حتى لتشتعل كل حرائق الكون تحت جلدي .. ويجتاحني كاعصار مدمر، ويوترني، ويعصف بي، ويربك خارطة جسدي النافر حد الفضيحة المدوية.
أجلس على الأرض عند قدميه.. تطيش يدي منفلتة عابثة في كل اتجاه ..
وبوجل ادفن وجهي في (الحديقة البابلية) الزكية.. فأموت ويموت معي ألف ميتة ولا أحييه ..
فجاة أسمع وقع خطوات جدتي في مكان ما قريب .. ثابتة وقوية .. تدنو منا بظلها الطويل .. تناديني بحنان: سارة يا سارة .. أقف وأدير ظهري له ثم انخرط في نوبة بكاء مر .. يحضنني من الخلف ويقبل شعري:
- خلاص لا أريد شيئا يسبب لك التعاسة ..!
صرخت وأنا أدفعه بعيدا بكل قوتي:
- أنت مثلهم !
تحشرج صوته وهو ينظر لي ملتاعا:
- لااااااا يا سارة ؟ ماذا حدث؟ أنا أحبك بكل صدق ..
انفلت جنوني:
- اذهب إلى الجحيم مع صدقك ! لن تأخذني معك ..
كانت حالتي النفسية في دركها الأسفل ففضل أن يصمت .. لكنني تابعت بصوت غاضب أشير لـما تغافلت عنه حين دخولي غرفته:
- أنظر ! صورتها عند رأسك ! لم تذكر لي أن طويلة العمر بهذا الجمال !
بدا مصعوقا وهو يتناول الاطار ويقلبه:
- لتكن طويلة العمر ملكة جمال العالم .. لا أطيقها .. أكرهها .. افهمي !
-(وبضحكة مجلجلة ساخرة): لكنك تطيق فضلة مطاوعة ..!
ثم بلغت قسوتي مداها:
- طيب ! لم لا تقلب أيضا صورة الولد .. هيا ماذا تنتظر ؟!
رأيته يشد قبضة يده ثم يرخيها .. كان مرجلا ويغلي .. تمتم بذكر الله ثم قال:
- سارة ماذا يرضيك؟ أنا سأطلقها ..!
-( قلت متهكمة): أووووه جميل مسيو مشاري ! لو انتهينا منذ قليل في السرير لما قدمت هذا العرض السخي!
....
لم تكن الساعة قد جاوزت السابعة صباحا حين صادفته في المطبخ وهو شارد يشرب القهوة، وامارات الارهاق بادية عليه .. قلت وأنا اجلس قبالته:
- وددت لو نعود للرياض اليوم ..!
فرد بلا مبالاة:
- اشتقت للغبار .. ؟
لم ينتظرني لأنه تابع وهو يرشف فنجانه:
- اريدك ان تتأكدي من شيئين ثم قرري فيما بعد مايناسبك ، الأول أن حبي لك ليس مشروطا بما تقدمينه أيا كان، لقد أحببت فيك هذه الروح المتوثبة للخلاص قبل ان أحب الجسد، لست مثاليا لكنك كنت ظالمة في حكمك عليّ ..
- (بالكاد خرج صوتي من حنجرتي): والآخر ؟
- علاقتي بزوجتي منتهية قبل أن أعرفك .. هل ستتفهمين صراحتي الفجة إذا قلت لك أنا لم ألمسها منذ سنة أو أكثر ..
- قلت وأنا أبلع ريقي: وطفلكما الجميل ؟
سادت لحظة صمت خلته سيكسرها بدمعة طفحت في عينه.. لكنني أسرعت أرتق الشق:
- أعتذر عن قسوتي البارحة، وأيضا أنا من طرق باب حجرتك و ..
(قاطعني وقد اكتسى صوته بنبرة عطوفة) : حبيبتي لايهم من الذي طرق باب أو (دريشة) الآخر ..
- بلى يهم ! (كل الموقف كان بايخ) لكن ربما كان ذلك ضروريا حتى استفيق ..!
-(باستنكار وعصبية مواربة): بايخ ! وحتى تستفيقين ! تستفيقين من ماذا ياسيدتي المبجلة؟ من حبي؟
- طبعا لا ..
(تابعت بينما أمط أذنه): حبك مصيري المحتوم .. لكن التأثم لاطاقة لي به .. لن أخلع ثوبي القديم بين يوم وليلة..
ضرب ساقه بساقي مترفقا وقال بمزاح: (بس إنت يا عسل لابس جينز) ..
- واصل حديثه بكل جد: ولا أنا أريد ان أخدش طهارتك .. صدقيني لم أتوقع في أي يوم انك من نوع سيقبل في وقت ما بعلاقة جسدية (تامة) دون زواج .. هذا لا يسؤني كما تتصورين .. (واصل مبتسما): لانك في النهاية يا مولاتي ستكونين لي على النحو الذي يرضي ربك وملائكته ورسله وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وهيئة كبار العلماء ..
- مشاري اتركنا من هذا الآن .. وفعلا ليتك تعدل موعد الرحلة.. ( جدتي وحشتني موووت) ..
....
قلت لعمر حانقة في ذلك المساء الأخير الذي جمعنا قبل العودة إلى الرياض :
- يا أخي ألا تخجل من نفسك.. ؟
- لا ! على صاحبك ان يعطيني نسخة من مفاتيح الشاليه .. الدنيا حياة وموت!
رد مشاري وهو يضحك:
- ومنذ متى وحضرتك معدود ضمن ورثتي ؟ !
كنت أمسك برواية لوول سوينكا أخذتها من درج في الصالون حين قلت:
- أما أنا فلا أريد مفاتيح مثل هذا الطماع ! لكن هل يمكن ان أستعير هذه ..؟
رفع حاجبيه معجبا:
- ممكن جدا .. ولدي في الرياض مكتبة ضخمة ستأخذين منها كل ما تريدين ..
قال عمر متخليا عن عبثه المعهود:
- القراءة الجادة والعميقة يا سارة هي طوق نجاتك ..
لكنه أردف يلمزني بلطف:
- بس وحياتك لاتسلمي عقلك مرة أخرى لأي أحد ولا حتى لهذا الجنتلمان (ابو الشاليهات) .. !
تنفست بعمق وأنا أضم الرواية إلى صدري .. قلت ونسمة هواء عليلة تهب من جهة البحر:
- لن يحدث .. وحياتك لن يحدث أبدا.
- بمجرد ان رميت بمظروف الثلاثين ألف في وجهه تنفست الصعداء ..!
ردت الدكتورة أمل وهي تسوي طرحتها:
- (ياعيني وصرنا نتكلم زي الروايات ..) !
- وبمجرد ان خرج من الباب بصقت !
- (وهي تضحك بنعومة) : ( لا عاد .. ) !
- والله هذا ما حدث ..
- (تابعت وأنا أزم شفتي ): لكن طبعا البصاق وقع على العتبة وليس على مؤخرته.!
- شكلك ستكتبين قصة .. يكثر العرب من ذكر أفعال البصق والتقيؤ في قصصهم !
- ربما أفعلها ذات يوم .. أنت تضعين قدمي على أشياء كثيرة ..
...
أمضيت أشهر الشتاء أقرأ بنهم مفجوع، وأمضتها جدتي في حثي المتواصل على التهام طبخها اللذيذ:
- جدة هل أنت تعلفين بقرة .. الغداء جريش والعشاء قرصان وبينهما عفيس؟!
- (أعلفك ايه نعم .. بس كبنية مزيونة .. وترى (الشحم يزين الكلاب!) ) (1)
- ماهذا المثل السخيف جدتي؟ ألم تجدي أفضل منه ؟!
ضحكت بطيبتها المعهودة وغطت فمها بيدها ..
قبلت رأسها وألقيت نظرة عابرة على أمي التي ترتق قميصا وتثرثر على الهاتف مع جارتها ..
هممت أن أصيح بهذا المخلوق البغيض وأنتف شعر رأسه:
- سأتعافى يا حرمه بك أو بدونك ..!
لكنني استعذت بالله وقمعت الوسواس الخناس بـ (الاستراتيجيات العقلية) البسيطة التي زرعتها فيّ الدكتورة أمل ..
سأدحر شيئا فشيئا وساوس الوضوء والصلاة .. والجثث المنتنة التي تركبني وأركبها. ووساوس الله وساقه وجنته وناره وغيبه المستور ..
سأنجح مرة وأفشل مرات ومرات.. ثم أعيد الكرة مرات ومرات حتى اسمع صوت أمل يدق في رأسي كألف ناقوس ..
سأرى قبسا من الضوء الخافت يقترب مني أكثر وأكثر ..
وسأتأكد في لحظة ما ان النور سيعم وتطير الخفافيش نحو الخرائب البعيدة .. البعيدة ..
_________
(1) بمعنى ان السمنة تضفي جمالا حتى على الكلاب فما بالك بالأوادم
تمت
مذكرات ( سعودية ) هاربة من زنازين مطاوعة الرياض !
الكاتبة: وردة الصولي
http://www.jidar.net/jed/modules.php?name=...article&sid=626