الزميل الفاضل وليد،
يبدو لي أن سبب الإشكالية هنا هو، ربما، عدم فهمي لما هو مقصود بمفهوم المقاطعة المعنية خصوصا وأن "القطيعة المعرفية" التي ذكرتها وأوضحت ما تقصده بها لا تختلف عن المطلب العلماني الأساسي (فصل الدين عن الدولة) والذي –من الواضح- أننا لا نختلف فيه. لا أعتقد أنه بالإمكان ذكر العلمانية في سياق الإعتماد على النصوص الدينية فذلك يخالف التعريف. نعم؟ عمّ نتحدث بالتحديد إذا عندما نضيف مطلب القطيعة المعرفية الى مطلب اعتماد العلمانية؟ هل نضيف اي شيء على الإطلاق، وما هو؟
إن القطيعة المعرفية بين العلم والدين موجودة فعلا في الاوساط الإسلامية، حتى بين الإسلاميين أنفسهم. فلا نجد مثلا دكتور اسنان إسلامي يرفض أن يستخدم مرضاه معجون الإسنان ويصر على استخدامهم المسواك. هناك طبعا من يرفض نظرية النشوء والتطور وما شابه من علوم لأنها تتعارض مع القصص الديني. لكن ذلك ليس حكرا على الإسلام. ولا أعتقدها وظيفة الدولة أو المجتمع أن تفرض على الناس ما يجب عليهم أن يعتقدونه .. علينا أن نعمل على إشاعة الحريات لا قمعها. ما هو مهمّ هو أن نتأكد أن الحريات متاحة للجميع فلا يمنع الطرف الديني غيره من التعبير والإعتقاد .. من جديد أردد هنا ضرورة التعايش.
اقتباس:و دعنا نقترب أكثر من الواقع - فإذا كنت تطالب أنت بالديموقراطية و العلمانية و حرية الإعتقاد لغيرك من الدينيين - فهل سيترك لك غيرك نفس الحقوق - أم سيطبق عليك حدوده هو؟
برأيي، نحن نتحدث عن شيئين منفصلين تماما:
1. تحاشي وقوع العلمانية في مصاف الإقصاء والتطرف ومحاربة الأديان ومصادرة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان. و
2. إيجاد الصيغ الضرورية لحماية المجتمع من تطرّف المتطرفين. المتطرف سيحاول لا شك أن يطبق على المجتمع قيمه الشخصية. لكن هذا لا يعني أن تتحول القوى النهضوية الى الشيء ذاته الذي تحاربه بدعوى حماية ذاتها. النهضوي يبحث عن الحلول، أما المتطرف فحلوله جاهزة ومعلبة: الإقصاء، القضاء على الآخر، الخ ..
اقتباس:ألا ترون معي سيادكم أن تلك المطالب التي أوردتموها هي مطالنا نحن و سيادتكم - و أنها يجب أن يعاد توجيهها للمجتمع الديني و ليس العلماني.
نعم، بكل تأكيد. لكن حوارنا هنا هو بين علمانيين حصرا الا، اللهم، في مداخلات وردت خارج الموضوع. إذا كان عذر المجتمع الديني هو التخلف والرجعية فما هو عذر المجتمع العلماني النهضوي؟
اقتباس:سيدي الفاضل - لا يمكن تطبيق معايير التقدم ذلك الحين من سالف الزمن - للتدليل على تقدم نفس المنهج أو الخلفية أو حتى إمكانية ذلك الآن.
و بغض النظر عن إثبات أو نفي (كامل أو بدرجات) صفة التقدم عن المجتمع الإسلامي نسبيا عبر التاريخ - و بغض النظر عن كم مساهمات ذلك المجتمع في التقدم الإنساني - فلو فرضنا و سلمنا بتقدم هذا المجتمع لحين من الزمن بخلفياته المعرفية و الأخلاقية - فهذا لا يصح تسليما بأن هذه الخلفيات أو البنيات صالحة لقيادة التقدم في عصرنا هذا.
يا أخي لقد ذكرت سابقا مرّتين في هذا الشريط رأيي في هذه النقطة بالذات فقلت في المداخلة رقم 15
أقول هذا الكلام ليس للعودة الغير مفيدة الى التاريخ فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. أقول هذا الكلام لاشير أن المقال الرئيسي، في حماسه للخروج من جلدته التي يعتبرها سبب تخلفه، نسي أو تناسي أن ذاكرة الآخرين ليست ضعيفة كذاكرته. ولست أجد نفسي أنا، في هذه الحال، من يعيش في التاريخ، بل أعتقد أن من يعيش في التاريخ في هذه الحالة هو من يعطيه (أي التاريخ) أهمية أكثر من أهميته الحقيقية. هذا تاريخنا وهذا الغابر من حضارتنا .. ومن لم يكن له تاريخ وحضارة – كالصهاينة – يحاول أن يخترع تاريخا وحضارة. لماذا نتخلى نحن عن ما لدينا؟!
ثم أعدت ووسعت في المداخلة رقم 18 قائلا:
هل يعني ذلك أنني أعتقد أن الإسلام هو الحل وأنه سبيلنا للعودة الى ذلك التاريخ؟ كلا، هذا ما لم أقله أبدا. ما ذكرته في مداخلتي السابقة أن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. علاقتنا بها لا تزيد عن علاقة زائر لمتحف من متاحف التاريخ .. إن العوامل التي أدت الى ظهور تلك الحضارة معقدة جدا، كما هو الحال مع العوامل المؤدية الى ظهور أي حضارة، وهي في كنهها توفر الظروف الخارجية (تراكم العوامل البيئيةالتاريخية)، والخصوصيات الثقافية (تراكم العوامل الداخلية)، والفرصة (الحظ). إن حاضر المجتمعات الإسلامية يختلف كثيرا اليوم، وهذا أمر يديهي. زد على ذلك التراكم الغير مناسب للظروف الخارجية والداخلية التي تواجه هذه المجتمعات
اقتباس:كما قد أسلفنا - فيجب ألا ننخدع بمسألة الوعاء - فالدين ثابت نصا و أحكاما - و ما قد تراه سيادتكم من وعاء مرن للدين - يراه أهل الدين خروجا عن صحيح الدين أو على الأقل النموذج المثالي للدين. و هذا الوعاء المرن لا يعدو أن يكون إبتعاد عن تمثل كامل النموذج المثالي أو عدم تطبيق كامل شرع الدين.
سيدي الفاضل هذه نظرة اصولية متشددة جدا للدين. وهي بالتحديد النظرة التي يتوجب نقدها وإظهار خطأها. إن مهمّة النهضويين هي ليست تأصيل النظرات المتشددة والمتطرفة، بل محاربة التشدد والتطرف والتأكيد على الطيف الواسع للقيم الموجودة في اي نظام فكري. لماذا؟ لأنه على النهضويين البحث عن الصيغ الممكنة للتعايش وليس التماس الأعذار والمبررات لإقصاء الآخر.
بعبارة أخرى، على النهضويين البحث عن شركاء في المجتمع والوطن والإنسانية بشكل يؤصل قيمهم هم (العلمانية، الوسطية، الحريات، التعددية، الخ.) وليس القيم التي يزعمون أنهم يحاربونها! هذه هي الطريق الواقعي الوحيد للتقدم واستمراريته.
في النهاية، يبدو لي أنه ما يزال يوجد سوء فهم أود إيضاحه. عندما تحدثت عن مفكري النهضة (الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده)، أنا لم أتحدث عنهم في سياق اعتماد العلمانية بل في سياق الإدعاء الأساسي للموضوع وهو أن "الإيمان بالإسلام يؤدي الى التخلف". فإذا كان الأمر كذلك فالكواكبي والافغاني ومحمد عبدة وسعد زغلول وطه حسين ومصطفى العقاد ووووو .. كلهم متخلفون. وهنا، أعتذر، استحضر في ذهني أبيات للمتنبي يقول فيها:
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن يسيء بي فيه عبد وهو محمود
و لا توهمت أن الناس قد فقدوا و أن مثل أبي البيضاء موجود
أتعجب كيف أن أحدا لا يرى أن كامل النجار يشطب بشطحة قلم كل ما تقدّم وتأخر من مفكرين لا لشيء سوى لأنهم يؤمنون بالإسلام! لقد فــُـقـِـدَ المفكرون كلهم ولم يبق سوى أبي البيضاء كامل النجار! حتى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية لم يكن يمثل تقدما بالنسبة له لأن هذا ينافي زعمه أن الإيمان بالإسلام والتقدم أضداد .. هكذا بكل بساطة وتحامل لا شك أنتجته تجربته الشخصية وتركيبته الفردية. اضيف، إذا، أن تحيازات هذا الكاتب الذي لم يقدم لا نقدا ولا حلولا، لن تحكم على البشرية بالغباء.
هذا وأرجو أن تتقبل، أخي الفاضل، خالص احترامي وشكري لك على جميل تواصلك (f)