المثقفين المصريين الذين أصبحوا كالفيران التي تتبع الزمار الذي يقودها إلى المحيط كي تغرق هناك
الزملاء .(f)
قبل أن أستعرض مجموعة أخرى من مظاهر الغيبوبة الثقافية التي نغرق فيها بشكل مستمر و بلا تبصر ، أريد أن أذهب أبعد قليلا حتى لا يعتقد أحد أنني أستهدف الإسلاميين الأبرياء دون سواهم ..
نعم الأمر سيكون أكثر وضوحا لو ذهبنا أبعد من المشهد الحاضر و إلى سنوات بعيدة في الماضي ، سيكون أكثر وضوحا لو تذكرنا أنه منذ 1961 و إلى اليوم أي خلال 45 عام استغرق المثقفون المصريون في نقاش عميق للغاية شارك فيه كل جهابذة القانون و التشريع و الترقيع ، خلال تلك الفترة الطويلة التي تعادل عمرا كاملا لدول و إمبراطوريات كان المصريون متفرغين لمناقشة سؤال غريب جدا هو تعريف العامل و الفلاح ، نعم .. من هو العامل ومن هو الفلاح ؟، ربما يعتقد البعض أن هذا نوع من الجدل عديم القيمة ،و لكنه في هذه الحالة سيفضح جهله و أنه لا يعرف شيئا عن الشعوب العريقة و الحضارات القديمة ، هو مثلا لا يعرف أن أهل بيزنطة قضوا زمنا أطول يتناقشون هل الملائكة ذكور أم إناث ، وهل في البداية كانت البيضة أم الدجاجة ، إن المثقف المصري بعيد النظر جدا لأنه يعلم أنه بمثل هذا النقاش سيدخل التاريخ مع أخيه البيزنطي ببيضته و فرخته و ملائكته و عماله و فلاحيه .
مشهد آخر قديم نوعا و ليس كله إسلامي .. إنقسم المثقفون المصريون بسبب اتفاقية السلام مع إسرائيل ، أغلبية رافضة سرعان ما ترك رموزها مصر و ذهبوا إلى إخوانهم العرب الرافضين التي كانت بلادهم و بالصدفة البحتة ممتلئة بالبترول و دولاراته !، أما الأقلية فكانت صامدة إلى جانب النظام لأسباب متعددة أندرها بسبب تأييد العملية السلمية التي فوجئ بها الجميع المعارض و المؤيد على السواء ، لم يمض وقت طويل حتى أغتيل السادات ، ورغم أن موقف مبارك من السلام هو نفسه موقف السادات ، فإن الصحفيين و المثقفين الذين عارضوا السلام لم يتوقفوا كثيرا عند تلك الحقيقة التي رأوها مجرد تفاصيل لا أهمية لها ، فانطلقوا فرادا و جماعات لخدمة نفس النظام الذي عارضوه ، لم يكتف هؤلاء المناضلون القدامى بتأييد النظام و لكنهم أصبحوا يتصدرون قائمة إعلامييه و سياسييه الداعمين للسلام الذي رفضوه من قبل ، لم يتغير شيء سوى أن الدول العربية التي تحمست للعمل ضد السادات ووفرت المال و الأعمال لمعارضيه توقفت عن دعم أعدائه فبعض تلك الدول تحولت عن موقفها كلية و تبنت خيار السلام ، أما الدول الأخرى فقد ملت القضية و مصر و إسرائيل و راحت تتلهى بالتقاتل مع بعضها البعض أو تخوض الحروب الداخلية .
لماذا لا نعود الآن مرة أخرى لنتابع الأداء الرائع لمثقفينا الأماثل في الأسابيع الأخيرة .
10. د . سعد الدين إبراهيم مفكر ليبرالي مصري و ناشط في حقوق الإنسان ، تصادم سعد الدين إبراهيم مع النظام لأسباب ربما ستظل مجهولة ، بالرغم من ( تكبير ) مبارك مع معارضيه إلا أنه كان ضيق الصدر مع سعد الدين إبراهيم و كلنا يعلم المحنة التي مر بها الرجل و تعاطفنا معه كمثقف و معارض شجاع ، لا يطالب أحدنا أن يكون سعد مسيحا جديدا فيبارك أعدائه و يتسامح مع النظام ، المفاجأة أن سعد الدين إبراهيم الجديد لم يكن له علاقة بالمسيح أو حتى الشيطان ، و لكنه استنسخ جحا عندما حاول إغاظة أعدائه فجلس على خازوق ، هكذا ينقلب على كل ما نادى به و عمل من أجله، لم تعد الليبرالية تهم سعد الدين إيراهيم فقد تفرغ للدعاية الشمولية ليس فقط للإخوان المسلمين بل و لكل الطيف الإسلامي على إمتداد العالم العربي المنكوب به و بغيره من مثقفي الغيبوبة الجدد ، في آخر لقاء شاهدته كان سعد الدين يؤكد أنه ما زال علمانيا و لييبراليا ،و أنه يرى أن مستقبل الديمقراطية و التغيير في المنطقة مرتبط بالإسلاميين و ضرب مثالا أحمدي نجاد و حسن نصرالله و أيمن الظواهري ! .
11. منصور حسن ليس فقط رجل أعمال و وزير أسبق للإعلام رافق السادات في زيارته التاريخية للقدس ، و لكنه أيضا عرف بكونه أحد نجوم عصر السادات و مرشحا محتملا لخلافته ، بعد إغتيال السادات آثر منصور حسن التفرغ لأعماله و البعد عن السياسة ، و لكنه يشعر الآن بحنين جارف إلى العمل السياسي ،و كمثقف مصري عتيد لم يجد ما يفعله سوى الانقلاب على كل تاريخه الذي ادعاه ، لم يفكر منصور حسن أن يعمل مستقلا أو ضمن أحد الأحزاب الشرعية ، و لكنه كمثقف فهلوي شد الرحال مباشرة إلى الإخوان أعداء الأمس عارضا نفسه كواجهة مدنية مقبولة لحزب جديد يفكرون في إنشائه حاليا ، و أيضا كغيره من الإسلاميين المتحولين كان عليه أن يبدأ مسيرته الظافرة بالتوبة تمهيدا للأسلمة التامة ، لهذا كتب مقالا ركيكا يطالب فيه بإلغاء اتفاقية السلام ، هل نلوم الآن مهدي عاكف عندما يمتطي أي من تلك البغال المصطفه أمامه للوصول إلى هدفه المعلن وهو إقامة إمارة طالبانية في مصر ؟ ،أليس الأنسب أن نلوم البغال لأنها تتراص في الإصطبل حتى دون أن تسأل عن مصيرها بعد الوصول إلى طالبان .
12. هناك جانب ملتبس لا تقدره القيادات القبطية المهاجرة عندما تتحرك داخل أروقة المؤسسات الأمريكية للضغط على النظام المصري ، إن المبالغة في معالجة مشاكل الأقباط و عرضها في سياق الاضطهاد الديني مثل الذي يحدث في إيران أو السعودية و السودان مثلا سيترجم إلى إدانات للنظام المصري و ضغوط عليه ،و هذا يصب بشكل أو آخر لصالح الأصوليات الدينية و الإخوانية ،ويخدم جهودها في الاستقواء على النظام بالضغوط الأمريكية ، هكذا نجد أن الجهود التي يبذلها أقباط المهجر يمكن أن تصب في النهاية لصالح الإخوان و من يهددون مواطنة المسيحيين في الصميم ، هذا ليس احتمالا بعيدا فالحماقة الأمريكية بادية في الآفاق و في العرب ، وعلينا أن نتأمل كيف قدمت أمريكا لإيران عدوها الأول في المنطقة أجل الخدمات بدمائها و أموالها في العراق ، فلولا تورط أمريكا في المستنقع العراقي و تحول جنودها إلى مجرد رهائن بيد خامنئي يضربهم بالسنة و الشيعة العراقيين كما يشاء ، لولا ذلك ما جرؤت إيران على تصنيع سلاحها النووي في تحد كامل للغرب و على رأسه أمريكا ، إن خلاف المسيحيين أو حتى عدائهم للنظام يجب ألا يصيبهم بالعماء فلا يرون مصالحهم ، عليهم أن يعوا جيدا أن النظام هو سلاحهم الرئيسي وربما الوحيد لمقاومة المد الأصولي الذي يهدد الوطن كله -و ليس المسيحيين فقط - بالهلاك ، فنحن نعلم جيدا أنه خارج النظام لا يوجد سوى الظلام و الإخوان ، أما قوى المجتمع المدني و أحزاب المعارضة و كفاية و شايفنكو و (اهرش لي) و ( زغزغني ) و غيرها من أوهام المثقفين فلا وجود لها خارج الصحف و نشرات الأخبار ، هذه النصيحة لا أوجهها للأقباط فقط بل لكل المثقفين المصريين الذين أصبحوا كالفيران التي تتبع الزمار الذي يقودها إلى المحيط كي تغرق هناك .. نموذجا جديدا لخطورة الحماقة و أنها أعيت من يداويها .