هذه رؤية سبق لي ان نشرتها تعليقا على خبر قديم - جديد ، وأعيد نشر مقتطفات منها هنا تماشيا مع عدم انتهاء صلاحية الخبر :

تحت عنوان " واشنطن ليست واثقة في قدرة بشار على تأمين استقرار داخلي يضمن السلام " ، كتبت جريدة القدس العربي في عدده الصادر أمس الجمعة 24/6/2001 الخبر التالي :
" قال دبلوماسي أمريكي مخضرم أمس ان الولايات المتحدة ليست واثقة بعد ( إنتبه إلى الصيغة ) من قدرة الرئيس السوري بشار الأسد على تحقيق " سيطرة كاملة " على الأوضاع الداخلية في سوريا لتأمين الإستقرار الضروري لضمان " اتفاق ممكن " للسلام مع إسرائيل حسب تعبيره .
واضاف الدبلوماسي في لقاء صحفيين عرب في لندن أمس " ربما يكون الرئيس بشار قادرا فعلا على تأمين الاستقرار الا أنه ربما يحتاج الى مزيد من الوقت لبناء الثقة الذاتية في الحفاظ على الاستقرار " .
وردا على سؤال للقدس العربي حول ما اذا كانت اسرائيل نفسها مستعدة لإقامة سلام مع سوريا واعادة الجولان المحتلة كاملة ، قال الدبلوماسي الذي عمل لنحو ثلاثين عاما في الشرق الأوسط وينتظر تعيينه بمنصب دبلوماسي رفيع في الخليج أن الرأي العام الإسرائيلي ( إنتبه لهذه أيضا ) سيحدد توقيت السلام مع دمشق " .
وأضاف : لا أحد يفكر حاليا في تقديم تنازل أمني كبير بالإنسحاب من الجولان بينما تستمر أعمال العنف في غزة والضفة ( إنتبه لهذا الربط ) ...... واعتبر أن ظروف السلام مع سوريا ستتضح فقط عندما تهدأ الجبهة الفلسطينية ويحدث نوع من " التدفئة " للسلام مع مصر والأردن " .

التغيير الذي يسبق التغيير

عندما بدأت بوادر تغييرات إصلاحية تلوح في الأفق السوري بداية التسعينات ، بدأت التخمينات وردود الأفعال تتجه كلها نحو أمرين إثنين ، وكلا الأمرين يصب في نهاية واحدة ، وهي أن حافظ الأسد يلمع صورة إبنه باسل لإعداده لولاية العهد أو أنه ينظف له الساحة من رجال الحرس القديم لكي لا يقفوا حجر عثرة في طريق هذا التعيين ، ومن بالغ في التفاؤل من المستهبلين أو من إستهبلهم قالوا أنها تغييرات " إيجابية " في مسيرة النظام السوري .

الحقيقة أن كل تلك التغييرات كانت تصب في خانة واحدة ، وهي تمهيد ارضية صالحة لعملية السلام القادمة مع إسرائيل وما سيرافقها من " فتح " مرتقب للشركات متعددة الجنسيات والتي لا يمكن لها أن تدخل السوق السوري إلا على جثة المتنفذين من " القطط السمان " والذين يحيطون عادة بمن أعلى منهم مرتبة كالأسد نفسه ومن يحيط حوله من أبنائه وأسرته ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية تأمين إستقرار أمني ولو مؤقت يوفر أجواء هادئة لعرس السلام ، وهذا هو العامل الأهم.

تلك التغييرات الإقتصادية والتي أقصت بعض رموز الفساد من الطبقة الثانية في سوريا ، ترافقت مع ضغوط أمريكية على سوريا لتحسين صورتها في ملف حقوق الإنسان ، تلك الضغوط أسفرت عن إصدار حافظ الأسد عام 1992 عفوا مشروطا عن الإخوان المسلمين ، ثم إطلاق دفعات لسجناء سياسيين في المناسبات الوطنية السورية .

الأمر ليس معجزة أو أنه مستعصيا على الفهم ، فسيناريو اصلاحات السلام في سوريا هو مشابه لما تم في مصر قبل كامب ديفيد ، وفي الأردن قبل وادي عربة ، فقد سبق لأنور السادات أن أفرج عن معتقلين سياسيين ( إسلاميين تحديدا ) وسط إنتقادات " علمانية " للسادات على إطلاق يد الإسلاميين ، والذين إغتالوه فيما بعد وسط شماتة العلمانيين الذين حملوه هو مسؤولية إغتياله وهو في قبره !!.
الأردن قام بنفس الحركة " الإصلاحية " قبيل وادي عربة ، وهي تزامنت - تقريبا- مع حركة الإصلاحات السورية بعد مؤتمر مدريد ، فالملك حسين قام بإطلاق الحريات وتفعيل البرلمان وأقر التعددية السياسية وأجرى تحسينات كبيرة على ملف الأردن الأسود في مجال حقوق الإنسان والذي كان بعيدا عن النقد بسبب وجود ثقل فلسطيني " مخيف " في الشارع الأردني يقدر بأكثر من 60 % من نسبة الشعب الأردني .
ولعله من نافلة القول أن نشير إلى تصريحات لبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أشار فيها إلى أن إسرائيل الديمقراطية لا تضع يدها بيد نظاما غير ديمقراطيا كسوريا ، وهذا التصريح يحمل دلالات " تغييرية " كثيرة وكان كافيا لشرح معضلة الاصلاحات السورية التي أتت على غفلة ، وبشكل مفاجئ.
من هذا المنطلق ، كان على سوريا - حكما - أن تتبع نفس السيناريو وتقوم بإصلاحات إقتصادية وسياسية تتماشى مع مرحلة السلام من ناحية ، وتجعل القوى الوطنية السورية شريكا في المسؤولية التاريخية عن إتفاق السلام من ناحية أخرى ، ورأينا كيف أن الأسد رمى لقوى المعارضة " عظمة " تتسلى بها لتلهيها بهمها التنظيمي الخاص عن همها الوطني بالتغيير الشامل ، هذه " العظمة " التي تمثلت بالعفو المشروط وإطلاق سراح بعض السجناء السياسيين آتت ثمارها فعلا وجعلت المعارضة السورية تتوهم أنها قادرة على فتح قنوات إتصال مع النظام السوري الذي أدار ظهره " بإستهزاء " لكل هذه المحاولات اليائسة ، والتي قوت موقفه فعلا في مباحثات السلام بعد أن أمن جانب قوى المعارضة .
لكن لماذا لم يستجب الأسد للضغوط الأمريكية بالسرعة والفعالية التي تمت في مصر والأردن ؟؟ الجواب في نوعية الحكم السوري الذي يختلف بتركيبته الطائفية والعسكرية الدكتاتورية الأكثر عنفا عن النظامين المصري والأردني ، ذلك لأن خطوات إصلاحية سريعة وواضحة قد " تغضب " الفعاليات الطائفية في الجيش السوري الداعم الأساسي للنظام السوري وقبضته الحديدية التي تمسك بزمام الأمر في سوريا ، وها نحن نشهد غضبة " عسكرية طائفية " بالفعل على نهج بشار الأقل راديكالية من والده .

عودة للؤشر " الأمريكي "

إن قراءة فاحصة لصيغة وتوقيت الخبر يعطينا دلالات لايمكن تجاهلها عن دور أمريكي محتمل في عملية التغيير ، هذا الدور الذي سبق وأن أشرت إليه في موضوع التغيير وأشرت إلى تغييرا " أمريكيا " محتملا قد يأتي بمسخ ديمقراطي يتشابه مع المثالين المصري والأردني ، ويبدو أن هذا " المسخ " بدأ يأخذ شكله ومعالمه فعلا في خط إنتاج البدائل الرئاسية في دوائر الأجهزة الأمريكية .
أمريكا عودتنا على الدوام أن تطلق أخبارا على لسان " مسؤول أمريكي رفض الإفصاح عن إسمه " قبيل كل عاصفة أمريكية محتملة ، وهي بهذه الطريقة " الإعلامية " تستقرأ ردود الأفعال وتعطي إشارات ومدلولات لمن يعنيهم الأمر ، وهذا الخبر وبتلك الصيغة ، هو من هذا النوع من " خيول طروادة " الاعلامية الأمريكية .
تصريح هذا المسؤول الرفيع ، والواضح أنه من اللاعبين الأمريكيين المهمين في المنطقة بحكم ثلاثة عقود من الخبرة الشرق أوسطية ، هو من هذه المؤشرات ، فهو يقول : "ان الولايات المتحدة ليست واثقة بعد من قدرة الرئيس السوري بشار الأسد على تحقيق " سيطرة كاملة " على الأوضاع الداخلية في سوريا لتأمين الإستقرار الضروري لضمان " اتفاق ممكن " للسلام مع إسرائيل " ، وهذا مؤشر أكيد على قرب تحرك أمريكي يأتي بنظام يتمتع بقبول شعبي أكبر من النظام الحالي ويحمي الوضع الداخلي من إنزلاق مفاجئ لحرب أهلية ليس وقتها الآن ولا تريدها أمريكا أن تقع في الوقت الراهن لكي لا تؤثر سلبا على عملية السلام ، أو تنسفها من أساسها إذا أتت هذه الحرب بخيار لا ترضى عنه أمريكا ، ولن أبالغ وأقول بأنه قد يكون خيارا إسلاميا تأتي به حرب أهلية بين العلويين والسنة ، ووقود هذه الحرب جاهز سلفا.
المسؤول الأمريكي بصيغة تصريحه يعطي " للتهديد " الأمريكي المبطن خط رجعة يتمثل بأن الإدارة الأمريكية ليست واثقة " بعد " ، وهذا يعني أن على الإدارة السورية أن تحسم أمرها سريعا وتؤجل صراعاتها الداخلية ، وإلا فان دماء سوهارتو لم تجف بعد من شوارع جاكرتا !!.

يتبع