لطالما تذبذبت في مراهقتي –شان اغلب الشباب- بين الايمان و الشك, كنت خلالها عبر قراءاتي, اميل الى البحث عن تفسيرات غير ميثولوجية للكون و الحياة...

قبل ذلك, كان قد مر معي في احدى دروس العلوم الطبيعية –ضمن درس يتحدث عن التمويه عند الحيوانات و النباتات- فقرة مع صورة تتحدث عن احدى النباتات (Bee orchid -)التي تنبت زهرة تشبه النحلة الى حد انها تجذب النحلات الحقيقية بغرض التزاوج معها , و عندما بالطبع تفشل العملية تكون الزهرة قد قامت بنقل اللقاح عبرها الى زهرات اخرى عند محاولة النحلة التالية....




لاحقا, عندما تعرفت على نظرية داروين عن النشوء و الارتقاء, وجدتها مقنعة جدا و تقدم تفسيرات منطقية للتنوع البيولوجي و اختلاف مستويات التطور و التمايز بين الكائنات الحية.
و صرت اميل الى الاعتقاد بامكانية تفسير الكون بمجمله و تفاصيله تفسيرات مادية علمية بدون الحاجة الى الاعتماد على اي معتقدات دينية...

الا اني بقيت اتذكر زهرة اوركيد النحل تلك -التي كانت بقدر ما تقدم مثالا كلاسيكيا عن نظرية داروين عن التاقلم مع المحيط (adaptation) الا ان مقدار هذا التاقلم كان عصيا على استيعاب مسبباته.




تعتمد نظرية داروين في تفسير التطور المستمر للكائنات الحية و تمايزها عن نفسها على الطفرات الجينية (العشوائية) التي تكسب الكائن المولود الجديد اما صفات مفيدة او ضارة او غير ذات تاثير. و يقول مبدا اخر للنظرية (البقاء للاصلح) بان افراد الكائنات التي تكتسب صفات جيدة تمكنها من التاقلم بشكل افضل مع محيطها هي التي تنجح في السيطرة على النوع و نقل مورثاتها المحسنة الى الاجيال التالية.

ترسخت لدي نظرية النشوء و الارتقاء(و ما زالت) لدى عملي الذي يشمل دراسة و تحليل انواع البكتيريا المختلفة.
فهذه المخلوقات البسيطة الوحيدة الخلية unicellular المكونة من خلية واحدة فقط تعتمد فقط على المحفزات
stimuli في محيطها تقوم بتطوير مقاومتها للمضادات الحيوية باستمرار.
و عند تطوير و تصنيع مضاد حيوي جديد يكون بادئ الامر فعالا جدا , و لكن مع مرور الوقت تحدث طفرات جينية تجعل البكتيريا المستهدفة تنتج انزيمات جديدة مخصصة فقط لتفكيك الدواء الجديد بتركيبته الكيميائية المميزة. فتكون الاجيال اللاحقة من هذه البكتيريا مقاومة لهذا المضاد الحيوي الذي يفقد فعاليته فيقوم العلماء بتطوير اخر بتركيبة جديدة و هكذا دواليك...
فمن حيث تعاطي الشبه اليومي مع الامر لا يوجد تفسير لهذا التطور المستمر للبكتيريا الا عبر نظرية النشوء و الارتقاء... و الذي عبر ملايين السنين لنا ان نتخيل مقدار التغير الذي يحدثه.

نعود الى الزهرة اياها.... فهذه الزهرة لا تملك حواسا (كالنظر) او اي وسيلة اخرى لتعرف شكل النحلة الذي تحط عليها... و بالتالي فان اي طفرات جينية (عشوائية) يستحيل ان تكسبها شكل النحلة..و احتمال حدوث ذلك تساوي الصفر المطلق.
و الاسباب يمكن ان ابينها في موضوع اخر و لكن باختصار فهي تتعلق بانعدام اي شكل من التواصل و انتقال المعلومات عن شكل النحلة (morphology ) للنبتة و هو التواصل العكسي feedback الضروري لكل خطوة اخرى من خطوات الوصول الى الشكل النهائي للنحلة عبر الطفرات المتلاحقة.




فيكون بذلك اعتقادي بكون الطفرات الجينية غير عشوائية. وان هذه الطفرات لا بد و ان تكون مضبوطة (controlled) و مسيرة من قبل قوة عاقلة تجمع ما بين طفرة النبتة الجينية و شكل النحلة الحقيقية.




سواء اطلقنا عليها (الطبيعة) او (نزعة البقاء) او (الخالق) فهذه القوة العاقلة تظهر لنا في تفاصيل من الكون ليس بشكل مباشر و انما عبر عمليات مادية معقدة الى حد الغموض و لكنها تتغلغل في تفاصيل الالكون و الحياة حولنا
الى حد اننا نتعامل مع البكتيريا الوحيدة الخلية كأنها حاملة دكتوراه في التكنولوجيا الحيوية و علم الادوية (pharmacology) و لديها تحت تصرفها مختبرات سويسرا العلمية لتقوم بما تقوم به...
فما رأيكم بذلك؟