فى موضوع قديم بالنادى عن الشيعة ، كتبتُ هذه الكلمات :

"أهم حقيقة تتعلق بالإيمان الشيعى فى تقديرى الشخصى هى هذا الإحساس الأقلوى العميق المتجذر فى الوجدان الشيعى ، فكون التشيع ناتجاً عن انشقاق تاريخى ومذهبى عن السياق السنى العام والأوسع ثم كون الانشقاق نفسه لم يصل أبدا إلى حد القطيعة النهائية مع الكل السنى وجد الشيعة أنفسهم فى موقف على قدر من الالتباس : يؤمنون بأنهم جزء مما يسمى "الأمة الإسلامية" ولكنهم يدركون فى نفس الوقت أن الأفق أمامهم داخل الأممية الإسلامية تلك متواضع ومحدود ولا يناسب فكرتهم عن نفسهم كحفظة للتراث المحمدى الصحيح ليس فقط لأنهم أقلية وليس فقط للضيق السنى التقليدى بالتنوع والاختلاف بل أساسا لأن موقف الأغلبية السنية منهم ملتبس ويتراوح بين تكفيرهم وبين قبولهم كمسلمين قبولاً مشروطاً .

والحاصل أن التعقيد المصاحب للتشيع معطوفاً على شعور بالذنب ، ذنب التخاذل عن نصرة سيدنا ، قد أضفيا على الإيمان الشيعى مسحة جذابة من الحيرة والقلق كان من نتائجها أن تلطف التنطع الايديولوجى التقليدى الذى أورثه الإسلام أتباعه وخضعت الروح الشيعية لنوع من الشعور بالانكسار" ....... نهاية الاقتباس .

أحد الشيعة يشكو من أن بنى مذهبه يظهرون دائما كضعفاء منكسرى الجناح وهذا مما يُطمع الآخرين فيهم
فيرد شيعى آخر : لو لم يكونوا كذلك ما كانوا شيعة ، ما كانوا أبناءً لحضارة الحزن ، وإلا فعليهم ان يتسننوا (يتحولوا للمذهب السنى) إذا كانوا سيبحثون عن "القوة" وإذا كان سيستهويهم الطغيان والتجبر ويداعب مخيلتهم الإرهاب .

حتى الأمة الإيرانية لم تسلم من مفاعيل هذا الوعي الأقلوي المنكسر ، ومن يتأمل جيدا مسلك السياسية الإيرانية إن على المستوى الإقليمي تجاه العرب وغير العرب أو على المستوى الدولى لن يفوته أن يلاحظ ميلا إيرانيا حادا لاجتذاب مشاعر أهل السنة وإلى درجة استعطافهم ، وهذه أحد ملامح الأقليات إذ تتودد إلى الأكثريات طمعا فى رضاء ليس دائما سهل المنال .

كان محمد حسنين هيكل قد نقل عن الخومينى استغرابه لموقف العرب المعادى له ولبلده ، فـ "ماذا يريد العرب منا؟ لقد طردنا الأمريكان وسلمنا سفارتهم فى طهران لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وقررنا اللغة العربية كلغة ثانية فى المدارس الإيرانية وأعلنا عداءنا لإسرائيل ، ماذا يريد العرب ليرضوا عنا" (أو كما قال) .

هذه إيران التى ـ قبل أن ننسى ـ أنتجت ذات يوم ما نسميه الآن "الحضارة الإسلامية" ، وهى إيران التى سبق لها أن عالجت أمر اللغة العربية فنظرت لها ووضعت لها نحوها وصرفها وبلاغتها وعروض شعرها وبعبقرية لم يستطع أى عقل عربى سنى أن يجاريها أو حتى يقترب من مستوى إبداعها حتى يوم الناس هذا .

إيران هذه ، وبكل أهميتها ومركزيتها فى التاريخ الإسلامى وتاريخ الحضارات القديمة ، أثقلت عيها حضارة الحزن حتى لراحت ترجو رضاءً من جوارها السنى : أشتات قبلية فى الجزيرة العربية وجموع فلاحين فى وادى النيل وزعران البشتون والحفتون والهباب الأزرق فى أفغانستان .

يا إلهى ، ماذا يفعل التشيع بالنفوس والعقول ؟ لماذا هذا الانكسار ؟

الشيخ الشيعى حسن نصرالله يتحدث عن انتصاره الباهر على الإسرائليين فيما عيناه متورمتان قليلا وكأنه انتهى لتوه من نوبة بكاء ساخنة ، وكلماته لينة هادئة متواضعة خالية من أى تنطع أو حتى مجرد تفاخر بما أنجز .

لا تعنينى النصوص التى فى الكتب ، المهم دائما معطيات الواقع ، وأى محاولة لتفسير الواقع بالنصوص هى ـ من وجهة نظرى ـ قاصرة ، مثلا أن نقرأ التلمود لنفسر به مسلك الدولة العبرية وهو أمر شائع على أى حال .
غاية ما نستطيعه هو أن نحاول الطريق الآخر : ان "نستانس" بالواقع فى تفسير النصوص ما وجدنا لذلك سبيلا ، ولنترك النصوص والكتب والفتاوى والتاريخ والرجل الذى مات من 14 قرنا وعبادة القبور وما شابه ، ولننظر إلى الواقع ، فماذا فى الواقع الشيعى؟ وماذا يقابله فى الواقع السنى ؟

إيران (الثورية) بها نظام سياسيى على قدر من الانفتاح لا تعرفه جميع البلدان السنية (ما عدا تركيا)
إيران (المحافظة) بها حركة فى الثقافة والفنون لا يعرفها أى بلد سني (بما فيه مصر وتركيا)
إيران هى أكثر البلدان الإسلامية تقدما فى ميدان البحث العلمى والإنتاج الصناعى
إيران هى الدولة الإسلامية الوحيدة القادرة على رسم وانتهاج استراتيجية مستقلة فى علاقتها بالعالم فى مقابل جوار سنى يحكمه العملاء والمرتشون ، وبمعنى آخر هى الدولة الإسلامية الوحيدة القادرة على أن تقول : لا .
الأقلية اليهودية فى إيران تتمتع بوضع أفضل من الأقلية القبطية فى مصر وأفضل بما لايقاس من الأقلية الشيعية فى السعودية .
وانظر إلى الإلهام الثورى على الجانبين : الإلهام الشيعى أنتج ثورة راديكالية ولكنها سلمية ووطنية لأنها ثورة أمة ، فيما أنتج وينتج الإلهام السنى أشكالا من التمرد المسلح والدموى ، أى ثورة عصابات وقطاع طرق ، ولنضعها هكذا : الثورة الشيعية مقابل الإرهاب السنى ، هذا ما يعبر عن الأفق الشيعى مقابل الأفق السنى .

بمعنى ما عام وعريض يبدو التشيع وكأنه ايدولوجيا للبطقات الوسطى فيما السنية لا تصلح إلا لطبقات بروليتارية رثة ومتهالكة ، وفى أحسن الأحوال لقطعان القبائل والعصابات.

ولا يعنى بعد ذلك شيئاً أن يكون سليمان بن صرد الخزاعي سنيا أم شيعيا .