[CENTER](1)
في المنهج

أصعب ما في " البحث التاريخي" هو تحديد " لحظة البداية" ، ويأتي بعدها " المنظار" الذي يظهر لنا الأحداث المهمة والثانوية في هذا البحث. وهنا ستتم محاولة تحديد ملامح المنهج الذي سنسير عليه في هذه " الصفحات". كما أحب أن أشير إلى أن هذا الرسم المنهجي بمصطلحاته وآلياته ، ليس مستقى مباشرة من مناهج سابقة ، بل هو إبداع مبني على تراكمات معرفية تولدت نتيجة قراءات متعددة في " مناهج البحث" و كتب التاريخ .

التاريخ ، عندنا ، لا غاية له ، وبالتالي كل "حتمية " تاريخية هي مرفوضة بالنسبة لنا . فلا التاريخ ينزع إلى حرية أكثر - كما كان يقول فولتير ، ولا التاريخ هو تجسد جزئي للروح المطلق الذي ما إن يتجسد كليا حتى يتوقف التاريخ و"ينتهي" - كما يخبرنا هيجل . ومن هذا الأساس تصبح " نهاية التاريخ" مقولة مرفوضة أيضا لدينا.

وكون " التاريخ بلا غاية" هي مقولة نؤسسها على عدة أسس. الأساس الأول ، هو أن موضوع التاريخ هو "الإنسان" ، والإنسان حتى الآن لم يستطع أن يعطي لنفسه "نموذجا" model يمكننا من التنبؤ بأفعاله المستقبلية ، وهذا يعود لكونه ذا إرادة ، والإرادة هنا هي التي تنفي أي غاية للتاريخ ، لأن غايات البشر مبنية على إرادتهم ، ورغباتهم ، وقدراتهم .. وهذه كلها مختلفة ليست موحدة ، فالبشر لم يكونوا يوما " أمة واحدة " . الأساس الآخر الذي نبني عليه : " عدم غائية التاريخ " ، هو " العشوائية الحاكمة للتاريخ " فطالما أن الإنسان كائن لا يمكن التنبؤ بأفعاله ، وطالما أنه "مفكر" ، فإن "محرضات" الفعل لديه تتغير باستمرار ، مما يولد لدينا عشوائية كبيرة لا نستطيع تقريبها او حتى فهمها . ومن هذا وهذا ، نقول أن التاريخ بلا غاية .

وينشأ عن قولنا هذا ، أن أي بحث تاريخي يتناول فترة تاريخية ما ، مهما طالت أو قصرت ، لا يملك الحق بأن يرسم خطوطا عريضة ، يعتبرها قوانين للتاريخ . فلا التاريخ محكوم بالديالكتيك الهيجلي ، ولا هو محكوم بصراع الطبقات الماركسي ، ولا هو محكوم بصراع الخير والشر الديني . وبالتالي ستكون دراستنا هذه عن فترة محددة من تاريخ انجلترا ، محكومة بموضوعها فقط ، ولا تهدف لاستخلاص قوانين عامة في التاريخ .. وإنما تهدف من دراسة هذه الفترة ، إلى توضيح درس ، لأمة أخرى نجد انها تتشابه معها في جوانب ، ولا نجزم بانها لا بد خاضعة لنفس النتيجة ، فالليبرالية ليست قدر ، ولا الإسلام .

التاريخ ، أيضا وبلغة الرياضيات ، هو لدينا عبارة عن دالة ، لمجموعة كبيرة ، قد تكون غير محصورة ، من المتغيرات . وبحثنا هذا لا يعكس كل تعقيدات هذه الدالة ، وإنما نحن نضع سؤالا ، بموجبه تتحدد لنا المتغيرات الثانوية والرئيسية التي سنركز أنظارنا لها . وسؤال بحثنا هذا : كيف تحولت انجلترا من "الكاثوليكية والعصور الوسطى" إلى " العلمانية الكلية " ؟

وهذا السؤال يجعلنا نركز على متغيرات بعينها ، كالمؤسسات الدينية وتطور المؤسسات السياسية والحركات الفكرية ، ويجعل منها متغيرات أساسية ، وهو - أي السؤال - يجعلنا ننظر لمتغيرات على اعتبار انها ثانوية ، كالتحول الاقتصادي وأثر وسائط الاتصال والحروب وغيرها ، رغم أنها عوامل مهمة .

يبقى أن بحثنا لن يكون بحثا استقصائيا ، أي أننا لن نتتبع مسارات التغير ، بل سيكون بحثا لحظيا . ومعنى كونه لحظيا ، هو أنه سيتم التركيز على لحظات التغير الكبرى في دالة التاريخ المحددة بتلك العوامل الرئيسية .

ومن هنا نأتي للمفهوم الرئيسي المنهجي لدينا ، وهو مفهوم " اللحظة " ، إذ أن كل صفحة من هذه "الصفحات" ستتناول لحظة بعينها . و " اللحظة " هي حدث تاريخي حول مسار التاريخ عما كان عليه من قبل ، مساره بالنسبة للعوامل الرئيسية المحددة محل الاهتمام .

هذا تحديد مقتضب ، لهذه الرحلة التي أتمنى أن تكون مفيدة ، وممتعة في نفس الوقت .

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	الحضارة الغربية هي أعظم حضارة في تاريخ البشرية ...	العلماني	30	901	09-22-2014, 02:54 AM آخر رد: Dr.xXxXx
	دعوة الأعضال للتصويت في مسابقة أفضل المدونات العربية	زيني عبّاس	0	559	04-03-2012, 01:45 PM آخر رد: زيني عبّاس
	تاريخ الخلافة السعيد	حائر حر	17	3,309	12-20-2011, 07:24 AM آخر رد: S E 7 E N
	حقد على الحجاب أم تاريخ منسي للمرأة الغربية؟	الحوت الأبيض	34	8,847	10-25-2011, 04:20 PM آخر رد: على نور الله
	أهمية طرح تاريخ الدولة الأسلامية الأن	الحكيم الرائى	28	6,060	06-03-2011, 05:01 AM آخر رد: عاشق الكلمه