ما حدث من أمريكا – تحت إدارة المحافظين الجدد - بعد اعتداء الحادي عشر من سبتمبر - المثير للجدل - هو استغلال ، وانتهاز واضح ، لذلك الحادث المشئوم لتحقيق أهداف ، وتطلعات إستراتيجية ، كان من المتعذر تحقيقها لو لم تجعل من ذلك الحادث مطية لها .

كان من ضمن الأهداف الإستراتيجية - التي عنى لأمريكا القيام بها - احتلال العراق ! .. من الواضح لكل متابع محايد انه لم يكن هناك أي رابط ، أو علاقة ، بين العراق وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر .. مع وجود تباين واضح يصل لحد العداء والاصطدام بين الفكر الأيدلوجي المُشكِل لنهج حزب البعث الحاكم في العراق ، وبين نظيره الفكري المُشكِل لتنظيم القاعدة المتهم المفترض بالقيام باعتداء الحادي عشر من سبتمبر .. رغم حقيقة ذلك ، فقد كان هناك إصرار أمريكي غريب على استهداف العراق بعد فترة وجيزة من إسقاطها لنظام طالبان في أفغانستان ، ذلك الإصرار الغريب يعطي انطباعا بطبيعة التحرك الأمريكي الذي بدا بالتقنع بذلك الحادث الدموي لتحقيق مصالح لم يكن ضحايا الحادي عشر من سبتمبر تعني لهم شيئا .

بتلك الكيفية الاستغلالية ، والانتهازية ، فأجندة المحافظين الجدد - الغزاة - لم يكن يعنيها من يحكم العراق ، فالإزماع الأمريكي على التنفيذ ساق ذرائع ، وحجج فارغة ، قد تساقطت ، وتهاوت ، بشكل سريع ، فمن أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها النظام العراقي ، إلى علاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة ، إلى بناء ديمقراطية مكذوبة ، ومزعومة ، في العراق - بهدف نشرها في منطقة الشرق الأوسط فيما بعد - ، وبقيت الحقيقة الفاقعة - التي أثبتتها تلك الحجج الكاذبة - إن العراق كوطن مستباح ، وسيحتل أيا كان حاكمه ، أو طبيعة النظام الحاكم فيه .

لم يكن العراق ، ونظامه الحاكم بقيادة صدام حسين ، ابرز القوى والدول المفترضة المهددة للمصالح الإستراتيجية الأمريكية ، فهذا البلد المنكوب قد قُلمت أظافره ، وخارت ، وأنهكت قواه منذ العام 91 م ، كما انه خضع لحصار اقتصادي لم يعرف التاريخ له مثيلا ، هذه القوى المُستنزفة ، و المُنهارة ، وهذا النظام المنبوذ من شعبه ، ومحيطه ، كان يشكل حلقة سهلة الاستهداف ، والإقصاء ، ومن ثم السيطرة ، وهذا هو السبب في استهداف العراق دون غيره من القوى المعادية لأمريكا .

المؤكد ، أن ديكتاتورية ، واستبداد صدام حسين كان عامل مساعد في سهولة إسقاط ، واحتلال العراق .. فذلك النظام القمعي خلق حالة انفصال طاغي ، بينه ، وبين طوائف الشعب كافة ، مما سمح بسقوط سريع ، وسهل ، للوطن العراقي تحت الحراب الأمريكية التي كانت تستهدف جميع العراقيين نظاما وشعبا بنفس القدر من الاستهداف .. كما ان ديكتاتورية صدام قادت إلى اختلاف مرير في النظر للاحتلال الأجنبي ، كوجوب مقاومته ، أو محاولة الاستفادة منه ، أو اتخاذه مطية لتحقيق مطامح طائفية لم يكن يُحلم بها في السابق .. وبهذا المفهوم ، ولسبب إن النظام العراقي أضاع الحس الوطني ، وجرد العراقي من فضيلة مقاومته لاحتلال - مفروض عليه - فانه يتحمل مسؤولية أخلاقية فيما جرى للبلد .

لا شك إن صدام كان أقسى الحكام العرب ، وأشدهم استبدادا ، وديكتاتورية ، تاريخه الدموي لا يمكن إن يمحى بجرة قلم لمجرد أن أمريكا استهدفت العراق الذي صادف انه حاكمه ، لقد جرد أمريكا من اي شعور بالخجل لاستهداف ، وممارسة غزو واحتلال في وضح النهار ، في هذا الزمن الحديث الذي انتهى فيه الاحتلال الصريح ، والمباشر، و للأسف ، تلك الديكتاتورية لم يكن الاحتلال معني بها إلا بقدر ما يتخذها كوسيلة لتكريس أدواته النافذة ، أواللعب بوتر عواطف الناس المظلومة لتحقيق أوضاع تخدم هذا الاحتلال البغيض .

لم تكن ديكتاتورية صدام مستهدفه من الغزو الأمريكي للعراق ، بل إن صدام كان جزء من الكل العراقي المستهدف بالتساوي ، ومن الحمق بمكان أن يصطف بعض المقهورين من ممارسة النظام القمعي مع الاحتلال ، أو العدو الخارجي ، من اجل التخلص من صدام المستبد ، فالاحتلال يستهدف هؤلاء المصطفين معه - الذين اتخذهم أداة يمرر من خلالهم مصالحه - بنفس القدر الذي يستهدف فيه صدام ، ونظامه ! ..

وفي ظل تعرض العراق لغزو خارجي فانه من السخف - أيضا - الحديث عن استبداد صدام ، ليس ذلك موافقة ورضا عن ذلك الاستبداد ، بل أن ذلك الاستبداد - الذي من البداهة التشنيع عليه - سوف يشتت القوى ، والجهود ، عن الواقع المفروض ، والمعاش ، والذي هو أسوا من السابق .. فالمنطق الوطني يفترض مواجهة الاحتلال - الوضع المستجد - من الجميع ، وحتى لو كان المواجه والمقاوم له صدام حسين نفسه .

لكن الذي حدث أن التلاعب الأمريكي بعواطف العراقيين قادهم لعدم الرؤية لما يحيط بهم ، ودفع بفئة منهم على الاختلاف على بديهيات مفروغ منها ، وجعل المحتل ، وإطراف خارجية معه ، تدخل على الخط لتمارس تشتيتا اكبر تتلاعب بعواطف صاخبة في غير اتجاهها المفروض ، وجعل فئة ترهن وطنها لقوى خارجية مبعدة إياه عن إطاره الوطني ، والقومي .

اسم صدام زُج في معركة اكبر من حقيقته ، أو ما كان يفعله ، منذ البدء ، حُسب الرجل على طائفة معينة ، وجدت نفسها مجبرة على احتواءه ، وتبنيه ، كان ذلك تنفيذا لخطة يشتت فيها الشعب العراقي ، ويفتت نسيجه الاجتماعي - قوته الحقيقية - ، كان ذلك حتى وقبل أن يتم أي تدخل طائفي ديني خارجي على الخط .. صدام - المُدعى عليه - خُطط له إن يكون سنيا ، يظلم الشيعة ، رغم أن ظلمه الواضح قد شمل الجميع بنفس النسبة ، والقدر .

لقد كان تمسح الاحتلال الأمريكي المستمر بالتشنيع على حكم صدام المستبد يهدف لتحقيق الكثير من الأدوات التي تخدم الاحتلال ، وتكون يدا له ، من بينها أداتان :

الأداة الأولى :
إحداث انفصال وتفرقة بين عامة الشعب العراقي برفع يافطة نظام صدام السني الظالم ، فقد انساقت طوائف الشعب العراقي خلف هذه اليافطة بغباء ، ودهاء - في نفس الوقت - فالشيعة من جانبهم وجدوا في ذلك الرجل عدوهم اللدود الذي كان يحد من طرائف مذهبهم ، وحسبوه على السنة معرضين ، ومشنعين عليهم به ، والسنة من جانبهم - وتحت هذا الضغط المستمر المستهدفين به - تبنوا الرجل .. بعد تلك المرحلة الأولية - في تفرقة الشعب العراقي - انطلق عقال العنف المذهبي الذي يكتسي العراق الآن .

الأداة الثانية :
محاولة اكتساب شرعية مفقودة لا يمكن إن يكتسبها تحت أي ظرف ، أو عذر ، بالإشارة المستمرة لبشاعة النظام المقبور ، والتطرق الدائم لبعض جرائم النظام من خلال محاكمة مسخرة هزلية تحاكم زعيم النظام السابق الذي أتى الاحتلال على أطلاله ، رغم أن الأحياء المجاورة للمحكمة كانت جثث بريئة تتساقط فيها بأكثر من الجثث التي سقطت في عهد الرئيس صدام حسين بما يفوق الوصف ..

تلك الأداتان تعطينا انطباعا عن المغزى من رفع يافطة استبداد صدام المستمرة ، كان ذلك مجرد مسوغ لتبرير احتلال غير مشروع ، بعد فقده كل الحجج التي أتى من اجلها بسرعة .

ولم يحاكم صدام محاكمة حقيقية ، ونزيهة ، تحاول إن تصل إلى الحقيقة كاملة ! .. كونه ديكتاتورا أم لا ! .. حقيقية الجرائم المتهم بها ! .. حقيقة مسؤولية أمريكا عن دعمه في مرحلة من المراحل ! .. وعن توريطه ، واستهدافه في مرحلة أخرى ! .. بل إن محاكمته كانت تتفاعل مع محاولة استفادة انتخابية جمهورية داخل أمريكا ، وقد قضت المحكمة ( المسخرة ) باغتياله ، وتصفيته ، متخلصة منه عندما انتهت تلك الحملات الانتخابية بخسارة الجمهوريين لأغلبيتهم في الكونجرس .

حقيقة ، لم يحاكم صدام لديكتاتوريته ، إنما هذه الديكتاتورية اتخذت حجة للاحتلال ، لاكتساب شرعية مفقودة ، أو ممارسة تفرقة داخل الشعب العراقي مقصودة !.. لذلك فان الحديث عن هذه المظالم هو ترف جدلي لا يمت للواقع العراقي الدموي المعاش الآن ، وواقع الاحتلال القائم ، بصلة ، فالواقع الآن أبشع من الماضي كثيرا ، كما ان ذلك الترف الجدلي ساهم في تلميع صورة صدام الطاغية ، ولمع - في طريقه - كل نظام ديكتاتوري وعميل من الأنظمة العربية المتخلفة - أذا ما استهدفتها أمريكا - .. إضافة فأن التعريض بالنظام تشتيت لجهود يمكن أن تؤتي ثمارها في طريق أكثر وضوحا ، وشرفا ، ووطنية .