مخاطر الدولة الدينية
مخاطر الدولة الدينية
بقلم : جابر عصفور
الدولة الدينية هدف لمجموعات الإسلام السياسي من ناحية, وشعار لمجموعات التطرف الديني من ناحية موازية, وتتفق المجموعة الأولي والثانية علي أن كل حلول مشكلات المجتمع مشروطة بإقامة هذه الدولة التي تعدل بين الناس, وتحكم بالقسط, وتقضي علي البغي والعدوان, ففي نصوص الدين ما يقدم العلاج الناجع لكل أنواع الفساد, والترياق الشافي لكل أمراض الظلم وكوارث الأزمات الاقتصادية, فالحاكمية لله عند هذه الجماعات, والحاكم هو شرع الله وكتابه هو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه. وقد أخذنا نسمع عن الهدف, ونري الشعار علي نحو ملحاح, لم يتوقف عن التصاعد والانتشار منذ هزيمة1967 التي أسقطت دولة المشروع القومي بتسلطيتها التي كان لها أبلغ الأضرار, وأهمها أزمة الوعي الجمعي المحبط الذي أصابه اليأس من كل حل مدني, وأخذ يبحث عن خلاصه في نوع من الإيمان الديني التعويضي.
وارتفع صوت الدعوة إلي هذه الدولة مع بداية تحالف السادات مع الإخوان المسلمين, بعد أن قام بما أسماه ثورة التصحيح في مايو1971, وذلك في السياق الذي وصل إلي ذروته الأولي في يناير1979 حين أطاح الملالي بحكم بهلوي في إيران, وأعلنوا قيام الجمهورية الإسلامية التي وعدت بأن تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا, حسب مفردات الخطاب الشيعي, ووصل إلي ذروته الثانية مع تزايد قوة المجاهدين الذين أخذوا علي عاتقهم مواجهة التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان, مع نهاية السنة التي أعلنت فيها الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد وجد المجاهدون الذين رفعوا شعار الدولة الدينية الإسلامية, في مواجهة النظام الشيوعي المتحالف مع موسكو, الدعم اللوجستي من دول عربية, تحالفت والولايات المتحدة في عملية القضاء علي المد الشيوعي الذي وصل إلي أفغانستان, وأصبح قريبا من منابع النفط, وهو الأمر الذي دفع كارتر إلي إعلان مبدأ حق اللجوء إلي القوة في حالة تهديد أمن الخليج, وكان ذلك في يناير1980.
وبقدر ما قدمت بعض الدولة العربية المعنية الدعم المالي, وتسهيل مهام مكاتب التطوع للجهاد ضد الكفار في أفغانستان, قامت الولايات المتحدة بتدريب أعداد لا يستهان بها من المجاهدين في صحراء أريزونا, ولم تبخل بالسلاح والمال في سبيل القضاء علي المد الشيوعي, ومن ثم التحالف مع الدعاة الأفغان للدولة الدينية, ومعهم الدعاة العرب الذين عادوا إلي أوطانهم العربية, بعد الانتصار علي النظام الشيوعي الأفغاني وإقامة الدولة الدينية الأفغانية. وسعي المجاهدون العرب, بدورهم, إلي إقامة الدولة الدينية الإسلامية الجديدة بالقوة, خاصة بعد أن أعلنوا أن الجهاد لن يتوقف ضد الأنظمة الجاهلية العربية التي تحكم بغير شرع الله من ناحية, وضد الولايات المتحدة التي أصبحت الشيطان الأكبر الذي انقلبوا عليه بعد أن تحالفوا معه لتحقيق مصالحهم المشتركة التي لم تعد قائمة بعد تقلص المد الشيوعي وقيام البروسترويكا من ناحية مقابلة.
واقترن ذلك بتداعيات الثمانينيات, ثم التسعينيات التي شهدت نهاياتها بداية عولمة الإرهاب الديني الذي أخذ يخترق القارات, حاملا راية الجهاد الإسلامي الذي يسعي إلي القضاء علي الأنظمة الجاهلية في كل مكان, واستبدال الدولة الدينية بالدولة المدنية, وإحلال العصبية الدينية محل التسامح الذي يحكم- أو يفترض أن يحكم- علاقات مؤسسات المجتمع المدني وطوائفه.
وكانت النتيجة قرينة تصاعد الدعوة إلي الدولة الدينية والقضاء علي الدولة المدنية التي قيل إنها أحدثت من الشرور والمفاسد ما أعاد زمن الجاهلية إلي ضراوته التي أصبح القضاء عليها فرض عين علي كل مسلم يريد الجهاد في سبيل الله. وازداد الأمر تعقيدا بسبب ما انطوي عليه العديد من الأنظمة المدنية العربية, خصوصا ذات الطبيعة العسكرية أو التسلطية, من مفاسد اقترنت بأزمات اقتصادية طاحنة, دفعت الناس إلي البحث عن خلاص. وكان وعد الخلاص, ولايزال, جاهزا عند دعاة الدولة الدينية, أولئك الذين وجدوا في مفاسد الأنظمة القائمة وتسلطيتها ما ساعدهم علي الانتشار, ووجدوا في الثقافات التقليدية السائدة ما أعانهم علي النجاح. والنتيجة هي كسب تعاطف الآلاف المؤلفة من البسطاء الذين أضناهم الفقر, وأوجعهم الظلم, ودفعتهم بشاعة الأجهزة القمعية للدولة التسلطية إلي رفضها والبحث عن بديل لها. وكان البديل جاهزا, صيغ في تخييلات مغوية, قائمة علي وعود لا تفارقها أنواع من العون المادي للمحتاجين في مجالات التعليم والصحة والإسكان,
وغيرها من أشكال الرعاية التي لا تزال تقوم بما تعجز الحكومات عن النهوض به. وأصبح للمجموعات الداعية للدولة الدينية, علي اختلاف طوائفها وتياراتها, حضور متزايد, بواسطة أجهزة إيديولوجية قوية, موازية لأجهزة الإعلام الحكومية ومتفوقة عليها, سواء بواسطة وعاظ المساجد والزوايا, وأئمة الدعوة, وأمراء الجهاد الذين ملأوا الجامعات, وحاضروا, ولا يزالون, في النوادي الاجتماعية والرياضية, ونجحوا في اختراق العديد من مؤسسات المجتمع المدني التضامنية التي تضم النقابات والاتحادات, كما نجحوا في التسلل إلي مواقع عديدة, منها القضاء وأجهزة إعلام الدولة التي أصبح لها ما يوازيها من أجهزة إعلام خاصة بهذه الجماعات, ابتداء من القنوات الفضائية وليس انتهاء بالإذاعات أو الصحف والمجلات, أو مواقع الإنترنت. وحققت المجموعات الداعية للدولة الدينية أكثر من انتصار نتيجة فساد الخصوم, ولا داعي للأمثلة فهي معروفة. ولكنها أدت في الأقطار التي تكاثرت فيها إلي كوارث وخيمة, حسبي الإشارة إلي المذابح التي حدثت في الجزائر, واتساع دوامات الاغتيال للمسلمين الذين أصبحوا موصومين بالكفر, لا لشيء إلا لأنهم لم يقبلوا بفكرة الدولة الدينية, خصوصا من المثقفين الذين أصبحوا هدفا للاغتيال في الجزائر ومصر وغيرهما من الأقطار العربية
الواقع أن مثقفي المجتمع المدني والمدافعين عن الدولة المدنية هم أكثر الناس رفضا لمفهوم الدولة الدينية والدعوة لها, وهم الأكثر تنبيها إلي مخاطرها وكوارثها الممكنة, ولذلك تترصد لهم المجموعات الداعية إلي الدولة الدينية, ساعية إلي استئصالهم, أو قمعهم ماديا ومعنويا, بما يزيحهم من طريق الدعوة التي لا يزالون عقبة في طريق تحقيق هدفها. والخطر الأول الذي ينبه إليه هؤلاء المثقفون الواقعون, للأسف, بين مطرقة مجموعات الإسلام السياسي ومفاسد الكثير من الحكومات,هو الخطر المقترن بالصفة البشرية لا الدينية لمفهوم الدولة الدينية, فهي دولة بشرية, لو أمكن قيامها, تحكمها مجموعة من البشر, تتحدث باسم الدين, وتنوب عنه, وتحتكر تأويله وتفسيره, وادعاء معرفته, ومن ثم تقيم تطابقا تخييليا بينها وبينه, فتصبح هي إياه, أو يصبح هو إياها علي سبيل التخييل لا التحقيق, أقصد إلي أن شرع الله ليس هو الذي يحكم في حالة الدولة الدينية, وإنما مجموعة البشر التي تدعي الإنابة عنه واحتكار المعرفة به, رافضة أن يشاركها غيرها في الإنابة أو الحكم أو المعرفة,
ولذلك فهي المصدر الوحيد لتفسير النصوص المقدسة للدين, والناطق الأوحد لمقاصدها, وقولها أو حكمها هو الحق وما عداه الباطل, ما ظلت محافظة علي هذا التطابق التخييلي بينها ونصوص الدين التي تدعي احتكار الفهم لها, ولذلك ينبني خطابها علي نوع من الوثوقية والجزم والحسم في اقترانه بأنواع الأمر والنهي والتحريم أو الإباحة التي يؤديها هذا الخطاب الذي لا يخلو من عناصر القمع الخاصة به, خصوصا حين يتوعد المخالفين بعذاب الدنيا والآخرة, ويسن خطابهم المضاد بالبدعة المقترنة بالضلالة المفضية إلي النار.
والاختلاف مع خطاب هذه المجموعة يعني الكفر والخروج علي الثابت المعلوم من أمر الدين الذي تحدده هي ولا يحدده غيرها, والذي تغدو إياه في علاقتها بالآخرين الذين لها عليهم حق السمع والطاعة والتصديق وعدم المساءلة, ومن ثم الإذعان والاستجابة إلي كل ما يقال, مهما كان هذا الذي يقال. وبقدر ما تتحول العلاقة بين هذه المجموعة وغيرها إلي علاقة أعلي بأدني, قامع بمقموع, آمر بمأمور, ينتفي حضور حق الاختلاف الذي يغدو معصية. ولا مجال للاجتهاد المغاير الذي يغدو خطيئة,
ولا سبيل إلي المجادلة بالتي هي أحسن ما بين هذه المجموعة( الأعلي علي نحو مطلق) وغيرها( الأدني علي نحو مطلق), فالمجادلة بالتي هي أقمع هي الأصل الملازم لاحتكار المعرفة الدينية, والناتج عن التطابق التخييلي بين الدين والمجموعة التي توهم الآخرين أنها تنوب عنه, أو تتحد معه كأنها إياه. ولا ينفصل عن نتائج ذلك إلغاء الاجتهاد الذي يحل محله الاتباع, وإحلال النقل محل العقل, والتقليد محل الابتكار, وسيطرة التراتب( البطريركية) بدلا من المساواة, والتعصب بدلا من التسامح,
فيحل التمييز محل التكافؤ, ونخبوية المعرفة الدينية بدلا من تعميمها الذي يؤكد حق الجميع فيها أو الوصول إليها بطرائق مغايرة, فتتحول المعرفة بوجه عام إلي معرفة مضنون بها علي غير القلة التي تحتكرها, أو النخبة التي بيدها مفاتيح المعرفة المحرمة علي غيرها. ولا يؤدي ذلك إلي التضاد بين علم القلة بوجه عام وجهالة الكثرة فحسب, بل يضيف إليه انحطاط معارف الكثرة( بإطلاقها) بالقياس إلي علو مقام معارف القلة المضنون بها علي غير أهلها في كل الأحوال. والنتيجة هي كثرة المحرمات المعرفية الموازية لشيوع التراتب ومنطق الاحتكار وإلغاء المغايرة.
وإذا نقلنا هذا المبدأ من المعرفة بوجه عام, والدينية بوجه خاص, إلي الممارسة السياسية كانت النتيجة متماثلة, فإلغاء حق الاختلاف يبدأ من المعرفة وينتهي بالسياسة التي لن تعرف, في حالة الدولة الدينية, تعددية الأحزاب, أو تنوع قوي المعارضة وحريتها, بل تعرف الصوت الواحد الأحد الذي لا يطلب سوي الإجماع, ويحارب التنوع والتعدد وحق الاختلاف من حيث هي نقائض لحتمية الإجماع الذي يقترن بالطاعة الواجبة( دون مساءلة) لقمة الهرم المتراتب دينيا ومعرفيا وسياسيا واجتماعيا, حيث تهبط الأوامر المنزلة( كأنها الوحي) من إمام المجموعة إلي النخبة المحيطة به, بوصفها أدني بالضرورة, كي تنقلها إلي غيرها الأدني منها.. وهكذا إلي سفح الهرم السياسي الاجتماعي المعرفي, مستعينة علي ذلك بعمليات تخييل إيديولوجي, يبرر احتكار النخبة ورأسها الأعلي لكل شيء من ناحية, ويشيع أفكارها ومبادئها بما يقنع بسلامتها من ناحية موازية, وذلك في حجاج إيديولوجي يقسم المجتمع إلي فرق متعددة, كلها في النار, ما عدا فرقة واحدة ناجية, مآلها الجنة والسعادة في الدارين,
هي فرقة النخبة الحاكمة التي يخلع عليها رأسها ما تخلعه هي علي غيرها من صكوك الإيمان والرضوان, والبركة والغفران, في أحوال الإيجاب, أو صكوك' الكفران' أو اللعنة الأبدية, في أحوال السلب, فالفرق الضالة مضلة هالكة, موعودة بعذاب الدارين, واستئصال أفرادها واجب وجوب استئصال الزوان من الحنطة, فيما يقول متطرفو الحنابلة المتأخرون.
والنتيجة هي شيوع العنف, مقرونا بالقمع في المجتمع, وتغدو الأجهزة الأيديولوجية الدينية ودعاتها, في علاقتها بالمواطنين الذين يتحولون إلي رعايا, أدوات إرسال ذات بعد واحد, يتجه من الأعلي إلي الأدني دائما, أو من المركز القامع إلي الهوامش المقموعة, فارضا السمع والطاعة والتصديق والإذعان في كل الأحوال, هادفا إلي تحقيق الإجماع الذي يتم استئصال الخارج عليه, أو النظر إليه بوصفه الشاة الضالة التي خطفها الشيطان وسكنها. وعندما يصل القمع إلي ذروة ممارساته يتحول إلي عدوي, تحيل المقموعين إلي قامعين بدورهم, أو مقتولين قتلة, أعني أن المقموعين الواقع عليهم القمع يعكسونه كما تعكس المرايا ما يقع عليها وتسقطه علي غيرها الذي يسقطه علي غيره بدوره, وذلك في دورة جهنمية, لا يكف فيها القمع عن توليد القمع, ويتبادل فيها المقموع والقامع الوضع والمكان, خصوصا حين يتحول المقموع إلي قامع يمارس فعل القمع علي غيره الذي يمكن أن يقع تحت سطوته, فيتحول المجتمع كله إلي قامعين مقموعين في زمن لا يمضي إلي الأمام بل يعود إلي الخلف, وجماعة لا تتطلع إلي مستقبل واعد, بل إلي ماض تخييلي تسجنها أوهامه.
__________________
:9:
|