مخاطر الدولة الدينية
متابعة :
مخاطر الدولة الدينية
بقلم: جابر عصفور
رفض المفاهيم التي تربينا عليها عن القومية والوطنية سمة أساسية من سمات الدولة الدينية التي ينفر دعاتها من القومية الوطنية علي السواء الأولي بوصفها الرابطة التي تجمع بين أقطار عديدة علي أساس من المصالح المشتركة والتاريخ المشترك والثقافة الواحدة والتطلع إلي الأماني التي تصوغها شعارات متفق عليها, كالحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة التي لا تزال أماني وشعارات عزيزة في حركة القومية العربية, تلك الحركة التي جمعت ما بين العرب في السعي وراء الاستقلال, والخلاص من الاستعمار, وبناء مجتمع جديد لا يخلو من وحدة التنوع التي تمتد من المحيط إلي الخليج, وكما كانت الدعوة الي القومية العربية قائمة علي أسس مدنية وسياسية, لا تخلو من وضع عامل الأديان في اعتبارها, بوصفه عامل قوة تحفز علي التقدم,
كانت هذه الدعوة قائمة علي نزعة إنسانية, معادية للنزعات العرقية أو العنصرية المغالية, ساعية إلي تحقيق مبدأ الحوار المتكافئ والتفاعل الكامل والتعاون البناء بينها وغيرها من القوميات التي تؤمن بالمبدأ نفسه, ولا يزال الأساس الإنساني هو الوجه الآخر للأساس المدني في حركة القومية العربية, سواء في أهدافها النبيلة أو صياغاتها الأصيلة الداعية إلي التقدم الواصل ما بين الخاص والعام, القومي والإنساني, بعيدا عن محاولات تشويهها أو الانحراف بها عن أهدافها.. وينطبق الأمر نفسه علي مفهوم الوطنية التي تردنا دلالاته إلي معاني المواطنة, خصوصا من حيث هي عقد اجتماعي بين المواطنين من الأفراد الذين لا يتمايزون في الحقوق والواجبات, ويتراضون علي دساتير وقوانين تبدأ من واقع حياتهم لتستبدل به واقعا أفضل, وإمكانات أنضر, فاصلة دائما بين السلطات, محترمة دائما كل الأديان والمعتقدات, سواء بمعناها الجمعي الذي يصل بين أغلبية وأقليات, أو معناها الفردي الذي يؤكد حرية الإنسان ـ أو المواطن الفرد الحر ـ في اعتناق ما يشاء.
هذا التصور للقومية أو الوطنية مرفوض دائما عند دعاة الدولة الدينية والجماعات السياسية الساعية إلي اقامتها, فالقومية شر ومنبع للمفاسد والشرور وعداء للإسلام والمسلمين, كالوطنية والمواطنة وغيرها من البدع التي أتي بها الغرب الكافر الفاجر, وذلك عند دعاة لا يزال لهم تأثيرهم, مثل أبي الأعلي المودودي ومن سبقه أو لحق به أو تبعه من مجموعات الإسلام السياسي, وهي مجموعات يجمع ما بينها التعصب للعقيدة الدينية التي تنقض القومية, والأصولية التي تسعي إلي استئصالها, ولا ينفصل التعصب والأصولية عن الإرهاب الديني الذي يسعي, بدوره, إلي استئصال القيم والمبادئ الوطنية, والهدف هو استبدال رابطة العقيدة برابطة المواطنة,
وبالوحدة القومية الوحدة الدينية العابرة للقارات والثقافات, ويتفق مع أبي الأعلي المودودي في كذلك كثيرون غيره في تأكيد أولوية العقيدة الدينية وتفضيلها علي أي عقيدة مغايرة, قومية أو وطنية أو حتي إنسانية, خصوصا من حيث هي عقائد من صنع البشر الذين يتميزون بالنقصان والفساد, ولا عاصم لهم إلا بالعودة إلي خالقهم, وتسليمهم بأن الحاكمية له وحده دون بقية خلقه الذين لا يفارقهم الشيطان ويسري في نفوسهم اللوامة مسري الدم في الأوردة والشرايين, ولكن الحاكمية لله لا تعني ـ في النهاية ـ سوي الحاكمية لبعض البشر الذين يتحولون إلي وسطاء لله في الحكم, أونائبين عنه, ولا عصمة لهم بالقياس إلي غيرهم من البشر, فقد انتهي إلي الأبد زمن العصمة الذي اختص به الله انبياءه, في تتابع الديانات التي ختمها الإسلام.
ولذلك لم يعد لأحد مهما يكن ـ بعد الله وانبيائه ـ سلطة علي أحد من البشر الذين توافقوا فيما بينهم علي عقد اجتماعي ارتضوه أساسا لمعيشة تحقق لهم, جميعا, دون تمييز, الحق والعدل والمساواة, وتدفعهم جميعا إلي ذري التقدم والحرية, بعيدا عن شروط الضرورة والتخلف التي شقي بها البشر عبر عصور الظلم وأزمنة الإظلام, والإيمان بضرورة عقد اجتماعي له صفته المدنية التي لا تحمل معه القداسة الدينية, أو العصمة لأي فئة بشرية أو تمييزا لها علي غيرها, يعني حتمية الإيمان بالدستور والقوانين التي يتعاهد عليها المواطنون. ويرون فيها حماية لهم في عالمهم الدنيوي الذي هم أدري بشئونه, وأقدر علي صنع أنظمته وأشكال حكوماته, ما ظلت هذه الأنظمة والحكومات محكومة بدورها بما يضمن الفصل بين سلطاتها, ويصون حرية الأفراد المتساوين في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم علي أساس من جنس أو عرق أو طائفة أو دين.
ولذلك لا يختلف معني المواطنة المدنية عن الوطنية في دوائرها المدنية الخالصة أقصد إلي تلك الدوائر التي يجسدها المجتمع المدني في تعدد مؤسساته وتباين مجموعاته, خصوصا في حرية الحركة التي تظل محكومة بالمبدأ العام الذي يؤكد حقوق الإنسان من ناحية, وعدم التمييز بينها وحقوق المواطنة من ناحية ثانية, فالأولي هي الثانية, والثانية هي الأولي في تطبيقها علي فضاء جغرافي بشري بعينه, له خصوصيته الثقافية والحضارية بالطبع, لكن بما لا يتناقض ومبدأ وحدة التنوع الخلاق في الحقوق والواجبات الإنسانية التي تصونها المواثيق والتشريعات الدولية التي تؤكد البعد الإنساني العادل في الممارسات الوطنية والفردية المقترنة بالمواطنة أو القومية, ولا يفارق ذلك, بالضرورة,
احترام المعتقدات الفردية وعدم التمييز بينها, فالكل سواء أمام الدساتير والقوانين التي لا تفارق العقود المدنية التي ارتضاها المواطنون أساسا لحياتهم, في وطن حر, لا يتوقف عن التقدم, مدركا أهمية التراث الروحي والديني لكل من الأغلبية والأقلية, في تحقيق معني الإيمان بأن الدين لله والوطن للجميع, وأن الحاكمية للدستور والقانون وليست لفئة من البشر, تدعي الإنابة عن هذا الدين, أو ذاك, فتحيله من قيم ومبادئ روحية أخلاقية عادلة, ثابتة, قائمة علي المساواة والحرية, إلي مبادئ سياسية نفعية, متغيرة ومتحيزة معادية ـ في النهاية ـ للوطن والمواطنة والوطنية والقومية علي السواء. وهذا هو السبب الجذري في رفض جماعات الإسلام السياسي, وما يوازيها من أصوليات مسيحية أو يهودية, مفاهيم المواطنة والوطنية والقومية, وما يصاحبها من مؤسسات وتنظيمات حديثة, مقترنة بالتعددية والتنوع, وحق التعبير أو الاختلاف في كل المجالات.
__________________
أتصور ان الثقافة التي تشيعها الدولة المدنية, عندما تكون مدنية وحديثة بحق, بعيدة عن التسلط والفساد, هي الضمان الوحيد لكي لا يتحول الدين إلي شعائر شكلية أو شعارات من حكام الجور الذين ظلموا باسم الدين, واستباحوا حريات الافراد والمجموعات, وظلموا شعوبهم التي لاتزال تئن من وطأة القمع الواقع عليها, وقد ساعد حكام الجور علي ذلك انه لم يكن هناك دستور مكتوب أو عقد اجتماعي تترتب عليه قوانين حاكمة للجميع, ولا معني حقيقيا للشوري مع هؤلاء الحكام, حتي لو احتاجوا إلي بعض الفقهاء أو العلماء ليزخرفوا لهم امسيات المنادمة, اما الحكم النهائي فللحاكم الذي يرفع ذهب المعز وسيفه, ولاحرية لاحد من رعاياه إلا باذن منه, وذلك بما ينفي حضور الحريات المدنية بمعناها المعاصر, وسيتأصل وجودها.
وقد عرفنا فقهاء السلاطين الذين زينوا لهم الظلم قديما, ولايزالون يبررون لهم الاستبداد حديثا, فيدفعونهم إلي منافسة مجموعات الإسلام السياسي في ادعاء احتكار التأويل الإسلامي, واشاعة اللوازم التي توهم بأنهم لايقلون حرصا علي الإسلام من خصومهم, واقعين بذلك في شراك الخطاب النقيض, وداعمين تحول الإسلام الذي لاسلطة دينية فيه إلي سلطة كهنوتية تمارسها مؤسسة دينية, تسعي إلي توسيع نفوذها, ومشاركتها السلطة الحاكمة في الهيمنة والسيطرة, ويحدث ذلك في إطار من علاقات تبادل المنافع والمصالح, والنتيجة احدي اثنتين: إما تحول المؤسسة الدينية الرسمية إلي سلطة اكليروس من نوع جديد, ما ظلت علي تحالفها مع الدولة الاستبدادية,
وما ظلت تعيد انتاج الخصائص نفسها علي المستوي الديني, أو ممارسة هذه المؤسسة دورا اشبه بدور محاكم التفتيش التي كانت كارثة علي الحريات الفكرية والابداعية, وفي كلا الحالين تعكس المؤسسة الدينية صفات التسلط في الدولة, فتبدو كأنها اياها, أو تنسرب إليها من صفات جماعات الإسلام السياسي ما يجعل الفارق بينهما كميا وليس كيفيا, والاستثناء الممكن, والحادث بالفعل, لاينفي القاعدة العامة التي نري شواهدها في علامات كثيرة, اهمها عدم تقبل المؤسسة الدينية لاي اجتهاد مغاير لاجتهادها, واستخدامها المنطق القمعي في وصف ما تنتهي إليه علي أنه من ثوابت الإسلام وفرائضه, ومن هو المسلم الذي يفكر في الخروج علي ثوابت الإسلام وفرائضه, أو يعلن اختلافه مع السلطة الدينية فيها, وأوضح ما انتهي إليه موضع المساءلة؟! وهو أمر يدني بهذه السلطة إلي حال من الاتحاد مع جماعات التطرف الديني التي تدعي احتكار معرفة الحقيقة الدينية والإنابة الحصرية عنها, وهو الأمر الذي يصل بين الطرفين اللذين يبدوان متناقضين للوهلة الأولي.
ولاشك ان نشوء تيار إسلامي مدني, يؤمن بفصل الدين عن الدولة, ودعم الدولة المدنية التي ترعي كل الاديان وتصون مقدساتها, هو أمر بالغ الأهمية في زماننا الصعب الذي لابد فيه من دعم مؤسسات الدولة المدنية القائمة علي مبدأ المساواة في المواطنة, وهو أمر بالغ الحيوية والأهمية لتطوير المفاهيم الدينية, وتحديث المؤسسة الدينية المدنية, علي السواء, ولكن بشرط الايمان بدنيوية الممارسة السياسية, ولوازم الدولة المدنية من الديمقراطية الحقيقية والتعددية, وتداول السلطة, واستناد البرامج السياسية إلي اسس مدنية ومعايير عقلانية, بعيدا عن المزايدات الدينية, والتدخل في حيوات الناس الشخصية, ولاتكتمل وعود هذا الهدف إلا بأن تكف الدولة عن منافسة الجماعات الدينية بادعاء انها دينية أكثر منها حرصا علي الدين والتزاما بشريعته, فالدولة المدنية القوية لاتزايد علي احترامها الاصيل للاديان, كل الاديان, وعلي حمايتها لكل المعتقدات والحريات بلاتمييز, ولايختل ذلك إلا في دولة مدنية هشة, ينخرها الفساد والضعف, أو الاستبداد والتسلط, بما يؤذن بخرابها وانهيارها.
وللأسف فنحن لم نفصل فصلا حاسما, إلي اليوم, بين الديني والدنيوي, ونتمسح بالديني الذي ليس مقصورا علي الاغلبية المسلمة نفسها, ونتتنازل سريعا تحت ضغط الغوغائية الدينية التي تعود بنا إلي الوراء في كل مجال اخترقته, ونتبني منطق جماعات الإسلام السياسي في غير حاله, فنقع في شباك خطابها النقيض, ولانتوقف عن مجاراتها ـ دون وعي ـ حتي في الباطل الذي تدعيه, ومحاكاتها في الاتجاهات الخطرة التي تقودنا إليها, وما دعوي اسلمة التشريع الذي لايزال, من بقايا الزمن الماضي مطروحا إلي اليوم, إلا مثال علي ما أقول.
ولاتزال نقابات واتحادات مهنية مهمة مخترقة من مجموعات الإسلام السياسي التي هيمنت عليها واخطر من ذلك لاتزال الساحة السياسية مقصورة علي الاستقطاب بين حزب الاغلبية والجماعة المحظورة للاخوان المسلمين, ولا ندعم الأحزاب المدنية القائمة, ولانسمح بوجود احزاب مدنية أكثر جدة وقوة, يمكن ان تزيد الدولة المدنية عافية والمجتمع المدني صلابة, ولذلك تقوي جماعات الإسلام السياسي ويتزايد نفوذها علي الجماهير عاما بعد عام, نري ذلك في شعاراتها التي اصبحت اكثر ترددا علي الالسنة, وأكثر تأثيرا في قيم المجتمع المدني.
__________________
|