التحدّي الذي تطرحه غزّة على «الاعتدال» العربيّ
حازم صاغيّة الحياة - 19/06/07//

أن تُفرَز فلسطين منطقتين وسلطتين ففي الأمر إشارة إلى سقوط مدوّ للتسوية بين نظرتين الى الأمور:

واحدة، حماسيّة، تسعى الى الالتحام المباشر بـ «العدوّ الصهيونيّ»، والقطع الكامل مع «الغرب»، والقطع البعيد نسبيّاً مع «العرب»، وإنشاء دويلة أيديولوجيّة يسوقها صواب العقيدة، لا شؤون المأكل والمشرب والعمل والتعليم. وهي دويلة حتى مصر قد تجد نفسها مدعوّة الى مقاطعتها فيما إسرائيل تمارس معها تصفية حساب لطالما تلهّفت إليها «حماس».

والثانية، فتحيّة، تسعى الى التسوية مع «العدوّ الصهيونيّ»، وأقصى الانفتاح على «العرب» و «المجتمع الدوليّ» انتباهاً منها الى حجمها وموقعها وقدراتها وحاجاتها. يختصر تلك الحساسيّات اختيار سلام فيّاض رئيساً للحكومة، بوصفه اقتصاديّاً وبوصفه موصولاً بأكثر من خيط بالدول المانحة، ولكنْ أيضاً بصفته مسيحيّاً، ما يشي، ضدّاً على «حماس»، بانتباه الى مسألة الأقليّات الدينيّة وتمثيلها.

لكن كلاً من الدولتين المحتملتين لها أصولها ومصادرها.

فتلك الحماسيّة تطابق تماماً دعوتها الأيديولوجيّة في نزوعها الأصوليّ المتعصّب، وإلحاحها على الصراع المفتوح مع عدوّ لم يستحقّ اعترافها، وفي رفع العزلة عن العالم الخارجيّ مبدأ مقدّساً، وفي إهمال الشؤون الحياتيّة والماديّة للسكّان، فضلاً عن رغبة التأسيس من صفر، على ما يدلّ التعامل مع صورة ياسر عرفات أو مع مكتب محمود عبّاس. فهي كسائر الدعوات الخلاصيّة تتّصل بتاريخ الخلافة الإسلاميّة بالقفز فوق تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.

في المقابل، تنهل الفتحيّة من ميل الحركات الوطنيّة القديمة الى نزع الحدّة الإيديولوجيّة، والسعي الى إنشاء دول وطنيّة يتمّ بها الانضمام الى الجامعة العربيّة، والتصالح مع «الغرب»، والاعتناق التدرجيّ لنموذجه بعد إنهاء الاحتلال.

والحال انه في مقابل راديكاليّة الأولى التي تبسط الآن سلطتها على غزّة، تبقى الثانية نتاج تاريخ سياسيّ سادته كلّه النظرة التسوويّة، لا فلسطينيّاً فحسب، بل عربيّاً أيضاً، ولا حركات وطنيّة فقط، بل أنظمة كذلك: فهناك، من جهة، نظريّة الضغط على «الغرب» للوصول الى حلّ معه، وكان جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وصدّام حسين، كلّ بطريقته، ممثّليها، وهناك، من جهة أخرى، نظريّة الصداقة السياسيّة مع الغرب المقرونة بمحافظة ثقافيّة بعيدة، وهي التي مثّلها حكام الخليج والأردن والمغرب. وربّما جاز القول إن الوطنيّة الفلسطينيّة وأداتها التنظيميّة الأبرز، حركة «فتح»، احتوتا دائماً وأبداً هذين البُعدين، تماماً كما ظلّ الموضوع الفلسطينيّ اللحظة الأعرض في النزعتين التسوويّتين العربيّتين، حيث حلّت «قضيّة فلسطين» على أجندتيهما بدرجات كانت تتفاوت في جديّتها وفي لفظيّتها.

أغلب الظنّ ان الصعود الاسلاميّ الراديكاليّ، مجسّداً بـ «حماس»، وربّما غداً بـ «حزب الله» فضلاً عن الاستقطاب الواسع الذي يتعرّض له عديد المجتمعات العربيّة، ينهي هذه المرحلة. ولسوف يتّخذ الإنهاء المذكور أشكالاً كثيرة يتصدّرها الانشطار في ما خصّ الموضوعين الوطنيّ والاجتماعيّ - الثقافيّ.

فلئن راحت قوى الإسلام الراديكاليّ تستولي على المسائل الوطنيّة، لا سيّما الصراع مع إسرائيل، فتقرنها ببرنامج بالغ المحافظة والتزمّت، وتُدرجها في أفق استراتيجيّ مآله دمشق وطهران، لم يعد جائزاً بقاء القوى الأخرى في مكان رجراج ومهزوز وتسوويّ حيال عدد من الخرافات السياسيّة والفكريّة الرائجة. وربّما كان الإيجابيّ الوحيد وراء مأساة غزّة الأخيرة أنه يفتح الباب لمبارحة الخرافات تلك في بعض أوساط الطبقات الوسطى العربيّة وممثّليها السياسيّين، أو أقلّه في المزاج الثقافيّ للنُخب. فقد غدا «الاعتدال»، في طلب الحداثة والتقدّم والسلام، دفاعيّاً جدّاً، وبات تطوير لغة وسلوك راديكاليّين لـ «المعتدلين» قضيّة حياة وموت. وهذا لا يقال حبّاً بالغرب واسرائيل، طبعاً، بل حبّاً فينا حيث العفن الضارب حياتنا لا يترك للهدوء والتدرّج مكاناً يُعتدّ بمساحته. فاليوم دويلتان في فلسطين، وربما غداً حكومتان في لبنان. أما العراق، فمجتمعات بالجملة... وهكذا دواليك الى أن لا يبقى ما نعتدل في شأنه أو نتطرّف.

:Asmurf:

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	صراع بين إيماني ونفاقي	فارس اللواء	6	1,800	12-30-2011, 09:39 PM آخر رد: فارس اللواء
	حرب اهلية يجب منعها /عبد الباري عطوان	فارس اللواء	1	851	11-20-2011, 10:24 PM آخر رد: السلام الروحي
	فرنسا : صراع حضارات أم صراع طبقات ؟	أبو إبراهيم	6	1,334	12-01-2007, 08:18 PM آخر رد: حمزة الصمادي
	عن صراع الهويات	آمون	1	1,009	01-30-2007, 04:36 PM آخر رد: آمون
	صراع العقائد.. وضياع العلمانيين ، في أتونه ..أو على هوامشه!	hasan albatahnah	1	518	01-22-2007, 11:08 AM آخر رد: hasan albatahnah