حتى لا يختلط الكلام بعضه ببعض فأنا شككت فقط في أن الغزالي شهد زورا بقضية فرج فودة، أما ما سوى ذلك من قناعته بعقوبة جريمة الردة، وقناعة دكتورنا العلواني بأنها جريمة لا يترتب عليها عقوبة دنيوية فهذا ما فصلته في مشاركتي السابقة...

تذكرت الآن كلاما للغزالي نقله الشيخ القرضاوي في كتابه: (الشيخ الغزالي كما عرفته)، وهو ينقض ما نقل على لسان دكتورنا العلواني -إن صح-، حيث جاء في الصفحات 271-275 باختصار تكاسلا من نقل مطول:

(شهادته في قضية فرج فودة

والكاتب فرج فودة من الكتاب العلمانيين الذين كانوا يدعون صراحة إلى فصل الدين عن الدولة، ويرى أن تحكيم الشريعة من الرجعية؛ لأن الزمن تغير، والأحوال تغيرت، وكان يدعو إلى أن تكون الدولة مدنية بعيدة عن الدين.

وقام بعض الشباب باغتيال فرج فودة، وكان لزاما على المحكمة أن تقول كلمتها فيهم، بعد أن قال محاموهم بأن فرج فودة مرتد عن الإسلام، والمرتد يُقتَل في الإسلام.

واستدعت المحكمة الشيخ الغزالي، وأفتى بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتياتا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة.

فقامت الدنيا ولم تقعد بعد شهادة الشيخ الغزالي، واتُّهم الرجل بألسنة حداد أشحة على الخير مِنْ أناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم، فضلا عمن يعادي منهج الإسلام.

وذهب وزير إلى بيت الشيخ، وطلب منه أن يصرح أو يكتب مقالا يفسر به موقفه من قضية فرج فودة، لكن الشيخ أصر على موقفه، وعاد الوزير مرة ثانية يلح على الشيخ، فأجابه: أنا لم أكتب مقالا في صحيفة، ولا ألقيت خطبة في جامع، ولا محاضرة في جمعية، ولكني استدعيت للشهادة أمام محكمة، فشهدت بما أعتقد أنه الحق الذي أدين الله به وألقاه عليه، فإذا كان في شهادتي بعض الغموض فلتدعني المحكمة مرة أخرى، وأنا أشرح لها موقفي )

تعلق البعض بعدم ورود آية قرآنية مثير للعجب -احتراما- وإلا فإن آيات الأحكام القرآنية في حدود المائة وخمسين إلى مائتي آية، وتوسع في عددها من جميع الآيات المتشابهة ليصل بها لـ330 آية، وبالغ آخرون فجمعوا المكرر منها فما وصل 500 آية، وهذا العدد لا يمثل أكثر من 1/12 من آيات القرآن الكريم أكثرها في العبادات بأنواعها، حيث تصل بتكرارها إلى نحو140آية. ووفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ووصية وحجر وغيرها نحو سبعين آية بالمكرر، ووفي المجموعة المدنية من بيع وإجارة ورهن وشركة وتجارة ومداينة وغيرها نحو سبعين أيضا،وفي القضاء والشهادة وما يتعلّق بها نحو عشرين آية، ولم تحظ المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات بأكثر من ثلاثين آية بالمكرر.

من هنا كان التعويل على تبيين السنة النبوية التي نصت على أوقات الصلوات وركعاتها وشروطها وأركانها وواجباتها وسننها مثلا، وهي التي نصت على شروط النكاح وموانعه، كما أنها حرمت الوصية للوارث مع أن القرآن كان كتبها أول الأمر، والسنة هي التي فصلت شروط حد السرقة مثلا، وبكم تقطع يد السارق، وهي فصلت في البيوع فحرمت منه النجش والغرر وأشباهه، وحرمت ربا النسيئ الذي لم ينص القرآن فيها حكما، وهي أي السنة التي تكلمت في حد الزاني المحصن، وهكذا إلى مئات الأحكام الفقهية التي غطتها السنة لا القرآن....

نعم أقبل أن يناقشنا الزملاء مثل نقاش الزميل النجم اللامع، وهو كلام جمعه من كتب الفقه مشايخ معاصرون كثر كالعلواني والترابي والعوا والغنوشي وغيرهم...
وهنا الحوار يكون في تفاصيل تنزيل الحكم الشرعي وتحقيق مناطه، وهذا مفتوح لوجهات النظر المتعددة، لكن أن يأتي شخص يهرف بما لا يعرف كأحمد صبحي منصور وجمال البنا فيتكلمون في الأحاديث ودلالاتها وهم في الأصل ينكرون حجتها جملة فذلك حوار عقيم يعود بنا للأصول ولا يستأهل أن نضيع به في مزاريب الفروع قبل أن نتفق على الأصول...


وأخيرا ومع أنني من الذين يميلون إلى الرأي الفقهي السائد والذي يرتب عقوبة دنيوية للمرتد ، سواء أسمينا ذلك حدا -كما اتفقت المذاهب الفقهية-، أو سميناه تعزيرا كما يميل عدد من الفقهاء المعاصرين من لدن شلتوت مرورا بالبوطي وصولا للعوا

غير أن تحقيق مناط الحكم مهم لأن الحدود لا تنزل على واقع مشتبه...

جريمة الردة في عرف فقهاء الإسلام يتشاكل فيها القانوني بالسياسي بالاجتماعي بالديني، وهي بهذه الصورة المختلطة يمكن أن تصنف في نظري كجريمة...
فالوجه السياسي فيها أنها خيانة للوطن، وعقوبة الخيانة معروفة، والوجه الاجتماعي أنها حرابة للجماعة المسلمة وهي هنا تستأهل معالجة قانونية تنظمها قوانين خاصة بما بات يعرف اليوم بالإرهاب، وهي في وجهها الديني تنفيذ لنص نبوي أمرنا القرآن نفسه بأن لا نتردد في قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل نسلم ولا نجد في صدورنا حرج..

القرضاوي يرى أن حديث: (التارك لدينه المفارق للجماعة) يحكي صفة حال المرتد، فهو دائما هكذا والشواهد أكثر من أن تحصى، بل لا أعلم مرتدا أعلن ردته لم يخرج على قومه لا في التاريخ ولا في هذا العصر، ولذا فأنا أميل لهذا الرأي ولا أتعصب له وأعتقد أن المسألة تتسع لاجتهاد وحجة...
الترابي والعلواني والغنوشي يرون ذلك شرطا، بمعنى أن التارك لدينه غير المقارق للجماعة لا يحل دمه!
وهي وجهة نظر محل نظر ولها ما يقويها كاجتهاد...

وأهم من ذلك كله أن الغزالي لم يفتئت على الفقه الإسلامي بل أتى بالرأي الذي يكاد أن يكون هو القاعدة في الفقه الإسلامي، وشذوذ بعض الآراء لا يلغي القاعدة بل يكرسها والله أعلم، فحتى الساعة لم تتبنى مرجعية إسلامية سنية أو شيعية أو أباضية خلاف هذا الحكم....
واسلموا لود واحترام(f)