أما أن السنة غير محفوظة فكلام مطاط ولا معنى له، وسأقبل منك اعتذارك بجهلك وقلة حيلتك بالشريعة في تمريره هكذا!

نعم لم يقل أحد أننا متعبدون بعين الألفاظ التي قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك تجد تجويز العلماء لرواية السنة بالمعنى، ولا تجد من يجوز ذلك في القرآن المنقول تواترا باللفظ، فالقرآن محفوظ بلفظه لأنه يتعبد بتلاوته، ومن هنا كانت الحكمة في تسميته قرآنا لأنه يقرأ كما هو، أما السنة، وهي المنهج، فليست كالقرآن تقرأ ويتعبد بتلاوتها، وإنما هي منهج يروى ولو بالمعنى، وأحكام الشريعة الأساسية حفظت في السنة كما حفظت بالقرآن، ولكنها حفظت في السنة كمنهج، ومن هنا ومع كل ما كان بين أهل السنة والشيعة من تفاوت في تلقي السنة وتوثيق الرواة وتضعيفهم، فإنك تجد أن الخلافات الفقهية بينهما محدودة جدا، فلا يهم أن يضعفوا حديثا رواه أبو هريرة لولايته البحرين آنا وتشكيكهم في عدالته وحفظه، فإن المنهج الذي نستند فيه لأبي هريرة تراه هو هو، وأحيانا بذات الألفاظ ولكن من طريق الإمام جعفر الصادق مثلا رضي الله عنهما...

عموما وفي التركيز على ما اشتبه عليك دعني أؤكد لك أن آيات (المجموعة الجنائية) في القرآن الكريم لا تتجاوز الثلاثين آية بالمكرر
وهذا يشكل أقل من 1/200 من آيات القرآن الكريم، ما دلالة ذلك؟

دلالته أن ما يركز عليه جهلا بأنه شريعة الله غير ذلك، فنظام العقوبة في الإسلام جزء محدود جدا من الشريعة وليس كلها، هذا شيئ...
وشيئ آخر تبرزه هذه الإحصائية الواضحة، وإحصائية أخرى أجريتها الآن لمفردة (قرآن) عبر الحاسوب فوجدت أن لفظ (قرآن) تكرر 69 مرة، وفيها جميعا كانت مهمة القرآن بالإضافة للتلاوة أنه:
1- كتاب هداية {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}البقرة185 {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }الإسراء9
2-كتاب تذكير لمن يؤمن به ويخاف وعيد الله، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }الإسراء41 {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ }ق45 {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }القمر17
3- كتاب وعيد ينذر من بلغه {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}الأنعام19
4- كتاب رحمة {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الأعراف204 {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }الإسراء82

ومن هنا كان الخروج بالقرآن عن وجهته ككتاب هداية ورحمة، وتحويله لكتاب فلك أو طب أو هندسة أو فلسفة أو طلاسم كهان أو آيات ترتل في الجنائز ومجالس العزاء، أو تشقيقه لآيات خاصة بالصرع وآيات خاصة بالنفخة وآيات خاصة بالحموضة! أو مطالبته بأن يكون موسوعة فقهية وقانونية تحتوي تفاصيل أحكام الشريعة، أو تناوله كدستور -لا بالمعنى المجازي الذي يرفعه بعض إخواننا كشعار، ولكن كدستور تفصيلي يستغرف كل التفاصيل الدستورية- من شكل نظام الحكم وعلم البلاد وأقسام الدولة الإدارية وصلاحيات الرئيس ومجلس الشعب وووو كل هذا يخرج عن وجهة القرآن الكريم، وقد تحدث القرآن في جانب عمن يخرج بالقرآن عن وجهته الأصلية فقال سبحانه:

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }الرعد31

نعم نحن نؤمن بتفاصيل القرآن ولا نكفر بآية منه، ونتوقف عن الخوض في نص حكم قطعي، فلا اجتهاد في مورد النص، ولكننا في الوقت نفسه لا نتكلف أن نبحث عن كل التفاصيل في القرآن، بل نؤمن بآياته المجملة كما نؤمن بتفاصيله، والآيات الكلية التي أمرتنا بطاعة الرسول، والرجوع إليه في كل ما نتنازع به، وطاعته التي نص القرآن على أنها من طاعة الله، وأخذ ما آتانا، والانتهاء عما نهانا، والتأسي به في شأننا كله، هذا كله حادينا لألا نضل في طاعة الله ورسوله، وألا نتردد في حكم قضى به الله أو قضاه رسوله، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعض وحيه يتلى، وبعض وحيه منهج يتأسى به
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36

نعم ربما كنت أقبل في الخلاف أن يقال بأن الحدود لا تثبت بحديث آحاد، لأن به شبهة ظنية الثبوت، والحدود تدرأ بالشبهات، وأعتقد أن الأحناف قالوا بهذا قديما، وللشيخ شلتوت رحمه الله كلاما قريبا من ذلك لا أستحضره بتفاصيله الآن...

أو أن يطرح علميا تضعيف الحديث وتصحيحه على بساط البحث العلمي بأدوات الاجتهاد المعروفة، فذاك أمر مقبول مهما تخالفنا

أما أن يقال بأن السنة غير كافية في تثبيت حكم شرعي، وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غير ملزمة، ولا أقواله تشريعية، فذاك كلام أعرج لا يستقيم بحال...

واسلموا لود واحترام(f)