الفكر العربي: من ’المركزية‘ إلى ’التشظي‘
الزميل العاقل,
مناقشة تغير التوازنات الاستراتيجية في المنطقة امر طبيعي في اللحظة الراهنة, فكل ما حولنا يؤكد اننا علي حافة مرحلة جديدة. لكنك, علي ما يبدوا, تقرأ الاحداث من منطق العصر الخليجي او السعودي و إلي اخر هذا التوجه, وتصيغ فكرتك في اطار انتقال مركز الثقل العربي من دول المركز القديم (الشام, العراق, مصر) إلي مركز الجديد و لا تنسي في سياق هذا اعتبار دول المركز القديم "ظالمة" او متجاهلة في اقل تقدير للاطراف التي لم يعبر عنها.
لن اتطرق هنا لنقاش لماذا سيطرت ثقافة المركز, فالمركز لم يسيطر بل كان نقطة جذب لمن اراد ان ينخرط بثقافته من ابناء الاطراف.
لكنك مثلا تسأل لماذا نعتبر الحملة الفرنسية هي نقطة تحول في تاريخ المنطقة بينما هي في السعودية مثلا حركة محمد عبد الوهاب؟
و هنا يتضح مدي قصور الفكر الاستراتيجي لديك, نعم الحملة الفرنسية نقطة تحول حاسمة, الحملة الفرنسية جاءت اعلانا صريحا عن الضعف الذي حل بالدولة العثمانية, المهيمن التقليدي علي دول المنطقة, و فتحت هذه الحملة الباب واسعا امام تدخلات الدول الاوربية التي سوف تتعاظم تدريجيا مزيحة نفوذ العثمانين و اثناء ذلك وضعت اطر جديدة "حدود" لما يسمي الان بالدول العربية, بعض هذه الحدود جاء منطقيا منسجما مع التاريخ و الجغرفيا و خلق مجتمعات اقرب للتجانس, و البعض الاخر خلق دولا مشوهة "علي كف عفريت".
الاهم ان بوجود العثمانين الاقوياء لم يكن من السهل ظهور هذه الدول, و سوف اضرب لك مثال بسيط, ففي وجود الخلافة العثمانية في مرحلة كانت توصف فيها برجل اوربا المريض, كان كافيا ان توكل رجلها القوي في مصر "محمد علي" لكي يجهز علي الدولة السعودية و يدمر عاصمتها الدرعية, و لك ان تتخيل ان بأستمرار وجود الخلافة او حتي والي قوي لها كمحمد علي لم تكن لتقوم هذه الدولة السعودية ابدا.
اما الثورة العربية التي تقول ان تأثيرها كان علي الشام, فعلي العكس, شجعتها دول الحلفاء كجزء من الحرب علي تركيا لانهاء الوجود العثماني في الشام و اصبح لزاما علي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولي ( القوي العظمي وقتها ) ان تعيد ترتيب المنطقة و تبحث عن قوي لملئ الفراغ و التقسيم و رسم الحدود و بموجب نفس هذه السياسة باركت انجلترا و دعمت الملك عبد العزيز في محيط الجزيزة العربية لايجاد حكومة او كيان يحافظ علي مصالحها و يتحرك في الاطار الذي ترسمه له. و لاحظ انها لسيت صدفة ان يحدث ذلك بعد انتهاء الخلافة من ناحية و دول المركز في المنطقة (مصر التي انطلق منها محمد علي و الشام) محتلة من الناحية الاخري.
كل هذا لا يمكن تفسيره إلا انطلاقا من الحملة الفرنسية و نتائجها!
النقطة الثانية, ان التغير في التوازنات الذي يحدث الان اكبر من مجرد انتقال في من دول مركز العربي القديم "علي حد تعبيرك" الي مركز جديد, الشرق الاوسط الذي يتشكل حاليا ليس عربيا اصلا, فنفوذ ايران يتصاعد لملئ الفراغ الذي يتركه العرب, في مقابل النفوذ الاسرائيلي المدعوم بامريكا التي اصبحت بالفعل موجودة في المنطقة و بكل ثقلها. كما ان دولا اخري "تركيا مثلا" مرشحة لتلعب دورا اكبر بحكم قربها من النموذج الذي تريده امريكا لدول المنطقة.
اما صعود الدور الخليجي و السعودية الاهم و لكنها ليست الوحيدة التي يصعد دورها فهو منطقي جدا, فالقضية الاهم في هذه اللحظة ليست فلسطين بل النفوذ الايراني, وفيه تدور حرب باردة "من الناحية الاستراتيجة" بين امريكا و ايران, لكنها ساخنة و دموية علي الدول الضحية لهذه الحرب كالعراق , لبنان و حتي فلسطين التي تحولت من قضية العرب المركزية لمجرد ورقة في صراع توازنات المنطقة. و بموجب هذه الحرب الباردة فإن خطوط التماس مع ايران و العراق من الطبيعي ان يصعد دورها (هذه الدول هي التي تتمركز فيها القواعد الامريكا و سوف تعبر سفنها و طائراتها مياهها الاقليمية و مجالها الجوي) , و إذا وضعنا في الحساب الصبغة المذهية التي يصبغ بها هذا الصراع يكون صعود الدور السعودي الوهابي حتمي.
لكي اوضح مدي عبثية هذه الادوار الصاعدة دعني اضرب المثل القطري, التي لا يختلف احد علي صعود دورها, و دعني اسأل علي اي اساس يرتكز هذه الدور, و اي مصالح استراتجية يمكن ان تتبناها شبه الجزيرة القطرية؟
لن اناقش الان البعد العسكري, لا تنسي ان دول المركز الجديد في منطقة ملتهبة بالصراعات الدموية لا يمكن ان تكون بلا جيوش و بنية عسكرية فعالة! "لا اعتقد ان عاقل واحد سوف يختلف علي هذه النقطة"
هناك اسباب اخري لصعود الادوار الخليجية, اسباب اقتصادية و اجتماعية و بالتأكيد ضعف الدول ذات النفوذ التقليدي لكن و في جميع الاحوال لا تتحول إلي مركز جديد للمنطقة, هي فقط يصعد دورها و يظل و ابدا هذا الدور يتحرك في الاطار الذي ترسمه له امريكا.
اما كلامك عن مصر, فيكفي ما رد به الزميل امون, و اعود و اقول ما قاله:
"أرى أن مجرد أن تقارن السعودية بمصر معناه أن مصر تعيش كارثة ما لها من قرار وهي بالفعل تعيشها"
اطيب تحياتي
|