Arrayلو لاحظت جيداً فأنت تصف التشكيك بالنفس ذاتها؛ ’مرضاً‘، لأنهم لا يستطيعون نفيها عملياً، لكني ههنا سأسأل ما الفرق بين الحقيقة العملية والنظرية إذاً؟ وهل اللون الأسود والأحمر هو حقيقة بحد ذاتها؟ هل هناك حقيقة معرفية ترتبط بها بدون الجانب العملي؟ أراك وأعتقد بأنك بمرحلة تقلب فكري، أليس كذلك؟ أنت تذكر شيئاً ما حجج العدميين بعصر نيتشة. وكأنك تقبل بتشكيك المشككين بكل شيء ولكن على مضض، ثم تنفيهم ثم تعود لهم بنقاشك مع لوجيكال مثلاً. بل إنك تذهب لتنفي وجود "بديهيات"، هل يعقل لعاقل أن ينفي وجود بديهيات، ولولاها لانعدمت علوم أولها الفلسفة والمنطق والرياضيات؟![/quote]

أولا ، أنا قلت أنها تحتاج لإثبات عند من بلغ بهم الشكّ حدا مرضيا، ولم أقل أن تشكيك النفس في ذاتها مرضا.

ثانيا، لا أعلم ماذا تقصد بالتفريق بين الحقيقة العملية والحقيقة النظرية .. ولكن الذي أقوله أن التشكيك النظري أمر سهل وبسيط، تستطيع ان تشكك بكل شيء وانت جالس على أريكتك، لكن أن تقوم باعمال تتضمن إقرارا ضمنيا بهذا الذي شككت به، فتشكيكك السابق لا معنى له .

ثالثا، أما الحديث عن البديهيات فسسنرجئه لمكانه المناسب، بعد قليل.

Arrayوكيف نستطيع تقدير مقدار اقترابنا منها أكثر فأكثر؟ إن نفيت حقيقة الأشياء لذاتها فأنت تنفي حقيقة نفسك والحقيقة بحد ذاتها.
أنا أرى أننا نجهل الحقيقة، ولكن التقارب هو تقارب عملي فقط، مقياس الحقيقة هو ما قاله لوجيكال: الكثرة. وهو المقياس الوحيد، وهو الذي يجعل للحقيقة النسبية التي تتحدث عنها وتسميها البراغماتية معنىً. وحتى لو تبين خطلها لاحقاً. لا غنىً عنها، كيف نتفق أن الأسود أسود وأن الأحمر أحمر؟ فقط لأن مجموعة كبيرة من الناس اتفقت على أنه ذات اللون، ونفت المصابين بالدالتونية منهم.
أتفق بعدها معك بصراحة بكل شيء، وأحس أني متفق معك حول هذه الحقيقة (النسبية/ البراغماتية) ولكني أراك أنت من يحملها أكثر مما تحتمل، وجود ذاتك بحد ذاته نابع عن براغماتية، إذ ما فائدة نفي الذات؟ غير الجنون والانتحار إذاً. ومن أين تنبع معرفة الإنسان بذاته، إن اعتبرنا مكمن الوعي هو العقل أو المخ بتعبير أدق، وبذلك قد يكون بقية الجسد خارج مكان الوعي بالذات أساساً.[/quote]

أولا ، نستطيع تقدير ذلك عبر أكثر من معيار: فهناك معيار استعصاء هذه المعرفة والنظرية على التفنيد والنقد، وكذلك من خلال تلمّس قوتها التفسيرية ، وقدرتها التنبؤية .

ثانيا، أنا لم أنفِ حقيقة الأشياء، أنا أقر بوجودها، ولكني أقول باستحالة معرفتها معرفةً كاملة. وشتّان بين الأمرين !

ثالثا، مقياس الحقيقة ليس الكثرة، فالعالم كلّه في عصر كوبرينسكو ينكر دوران الشمس حول الأرض ... وهل يكفي تجميع مجموعة كبيرة من الأشخاص ليكون الشيء حقيقيا ؟
ستقول : أقصد الكثرة من العلماء ، فأقول لك .. أن كلمة "علماء" هنا مضللة ، والعلم لا يبنى على اختيارات الأفراد .. بل يبنى على المناقشة النقدية.

فهناك معايير من خلالها نحدد كون نظرية ما ، نظرية علمية تجريبية أم لا. فالمادية الجدلية الماركسية رغم ادعاءها العلمية إلا أنها ليست علمية، كما ان المانوية ليست علميّة ، في حين أن النسبية علميّة . مالمقياس ؟ الكثرة ؟! هذا كلام لا معنى له مطلقا أبدا ..

هناك مقياس يسمى "القابلية للتفنيد". يقول : " حتى تكون النظرية : علمية، فيجب عليها ان تحدد حدودها، بمعنى أن عليها أن تصف الحالات والوقائع التي بمجرد حدوثها ووقوعها تكون هذه النظرية باطلة".

فمثلا ، تقوم النسبيّة الخاصة على مسلمة أن سرعة الضوء أقصى سرعة ولا يمكن تجاوزها. هذه النظرية علميّة لأنها ترضى أن تخضع لمحكّ التجربة، فبمجرد إثباتنا أن هناك سرعات تتجاوز الضوء، فإنها تتلاشى تماما، كما فعلت هي بنظرية الأثير السابقة عليها.

في حين أن نظريّة المؤامرة نظريّة غير علمية، لأنها تستطيع تفسير كل حدث وكل واقعة وكسبها لصالحها، إذ أنها لا تعين لنفسها حدودا.

فاختبار نظريّة علميّة ما يقوم على أمرين :
1- أن تحدد النظرية حالات ، بمجرد وقوعها ، تكون هذه النظريّة لاغية .
2- أن تكون التجارب التي تستند عليها هذه النظرية، هي تجارب تهدف لاختبار هذه النظريّة. ( كارل بوبر، أسطورة الإطار، ص 115-117).

وبتجاوز النظرية لهذه الخطوات نستطيع وصفها بالعلمية ، وغنيّ عن البيان أن هذا الوصف لا يترادف مع الصدقية والصحّة ..إلخ.

رابعا ، لا أعلم ماذا تقصد بـ"الحقيقة النسبية" .. فأنا أراها عبارة متناقضة في ذاتها. ولكن الذي اقوله أن كون النظرية لا تعبر عن حقيقة ، هذا لا يعني أنها غير مفيدة .. وهذا هو الجانب العملي الذي تتحدث عنه انت ، وهو الفائدة .

خامسا، تخلط انت بين أمرين : تواطؤ الناس على أسماء وافكار ، اعتماد هذا التواطؤ معيارا للحقيقة.

فكون اللون الذي نسميع أحمرا ، تسمى بهذا الاسم، وتواطا الناس على تسميته بهذا الاسم، فهذا لا يعني بحال ، أن اتفاقهم على كونه "شعاع يخرج من العين" صحيح ، كما أثبت ابن الهيثم بطلانه.

فالتواطؤ يكون مهما وضروريات لأغراض التواصل بين البشر، ولكن لا قيمة له في "المعرفة"... فتاريخ العلم لا يخبرنا بشيء أكثر من أن أكثر النظريات التي وثق بها العلماء تم تفنيدها وتجاوزها.

سادسا ، معرفة الانسان بذاته تختلف عن معرفته بغيره .. إذ أنا لا أعي ذاتي بالحس أو الحدس أو بالتحليل .. إنما هو شعور أشعر به، وبالتالي تصبح مقولة ديكارت لا معنى لها .. فهو يقول "أنا أفكر ، إذن أنا موجود" .. فبمجرد أن قال "أنا" فقد أثبت وجود ذاته، دون أن ينتظر كونه مفكرا.


Arrayفي فيزياء الكم لا وجود لمعادلات؟ وحد ربك يا مواطن !
الفيزياء الكمية بحد ذاتها هي فيزياء الرياضيات، وفيزياء المعادلات، هذا تبسيط وتسطيح كبير لفيزياء الكم، عن أي متراجحات تتحدث؟ أنت تتحدث عن نتائج لمعادلات، أصلاً مبدأ هايزنبرغ ناتج عن معادلة بالأساس وليس متراجحة.
هذا لو تحدثنا عن الشكل، أما عن العمق، فأنت تضرب حقيقة بحقيقة، ألم تلاحظ ذلك؟!
أنت وضعت حقيقتك أمام حقيقة أخرى وتضرب علماً بعلم فتخرج هكذا منهما خالي الوفاض، فهل أنت مؤمن بمبدأ هايزنبرغ وبأن المراقب لا يمكنه تحديد السرعة والمكان للإلكترون بنفس الوقت؟ (إذاً تعتبرها حقيقة مطلقة) أم تعتبرها كمبدأك الذي اعتمدته ممكنة أو بشكل أكثر دقة حسب تعبيرك "كل ما هنالك أننا نقترب أكثر فأكثر من معرفتنا بها"؟ وبحال إمكانية نفيها يكون بإمكاننا تحديد السرعة والمكان بنفس الوقت.[/quote]

صدقت، الفيزياء الكمية فيزياء رياضية . وفاتك أن الاحتمالات والمتراجحات هي رياضيات أيضا. لنستعرض أهم قوانين الفيزياء الكميّة التي هي بالتعريف :

1- مبدأ هايزنبرج عبارة عن متراجحة.
2- تفسير "ماكس بورن" للوظيفة الموجية : " احتماليّة - لنرمز لها بـ ب (س) - أن يوجد جسيم في فترة متناهية الصغر (دس) حول النقطة س هي : ب(س) دس = | و (س،ز)| (تربيع) دس .. حيث ز: الزمن ، و "و" : الوظيفة الموجية ، التي لابد أن تكون متسقة مع معادلة شرودنجر.
3- وقوانين الديناميكا الحرارية تصبح غير فعّالة في العالم المتناهي الصغر ، لذلك أستحدث فرع جديد من الفيزياء يسمى "statistical physics".

وهكذا ، لن تجد في الفيزياء الكميّة إلا حديثا "أحتماليّا" ومقاربات احصائيّة .. ومتراجحات.

أما بخصوص كوني أضرب علما بعلم. فمبدأ هايزنبرج لا يدعي معرفة حقيقة، بل يقول أننا لن نتمكن من المعرفة الكاملة. والقول : هل عدم معرفتنا للحقيقة : حقيقة ؟ هو سفسطة .. إذ أن الحقيقة هي المطابقة بين التصور والماهية، والقول باستحالتها ليس "حقيقة" إذ لا وجود لماهية، بقدر ما هو إقرار.

فعندما أقرّ أني لن أستطيع معرفة أكثر من هذا الذي أعرفه، فإن كان إقراري ذاتي - أي لعجز في ذاتي - فإقراري هذا قابل للتجاوز .. أما إن كان إقراري لا علاقة له بذاتي .. أي أن طبيعة الموضوع لا يمكننا من هذه المعرفة ... فهذه ليست حقيقية بل التعرف على حدود، وهي ليست نهائية طبعا .. إذ أنها تستمد قوتها من رهانها على عدم وجود تجربة تستطيع تحديد سرعة ومكان الإلكترون.

Arrayلم يكف عن طرح الأسئلة، أي علم هذا الذي يتوقف عن طرح الأسئلة، كل ما هنالك وكما ورد هنا، لم يتعرف بعد الإنسان على الضوء بشكل دقيق، فيعامله نموذجياً وعلمياً بتقريبات تمكنه من دراسته بأفضل شكل، وحسب ما ذكرت أنت، ولكنه لم يتوقف عن شيء، العلم الذي يتوقف عن طرح الأسئلة ومحاولة المعرفة ليس علماً، بل يصبح أيدولوجيا ثابتة.[/quote]

لم أقل أنه كفّ عن طرح الأسئلة، بل قلت أنه كفّ عن طرح أسئلة بعينها ، إذ لا جدوى منها.

Arrayربما أنت متأثر بمعنى ديني للكلمة، البديهية هي شيء نراه صحيحاً بداهة، هي شيء نسلم به، بالفرنسي لم أجد فرقاً بين ما يُسمى بالعربي البديهية والمسلمة، ولكننا بحاجة للبديهيات (أمر نعرفه بداهةً ونسلم به) وبدونه لا وجود للعلم، فالمنطق (الرياضي على الأقل) له جانبين الصورة والمادة بالفلسفة. ورياضياً المنطق هو الصورة أي طريقة الاستقراء والاستنتاج، ولكنه بحاجة للمادة أي البديهيات ليتشكل.
لا بد أن تعترف بوجود ذاتك مثلاً، لوجود شيء اسمه عد وأعداد، وأن واحد بجانبها واحد تشكل اثنان. وأن مستقيمين متوازيين لا يلتقيان .. الخ
يمكنك بعد ذلك أن تشكك بأي شيء، ولكن لذلك أصوله المنطقية، البناء المنطقي إن أدى لتناقض داخلي يُنفى ويعدل لإيجاد منطق آخر أو حقل آخر.
لذلك حديثك عن الهندسة الإقليدية وغيرها من هندسات أخرى (لا تتعارض مع بعضها أصلاً) هو حديث من هو غير متبين بالمنطق الرياضي، لأنه بناء لحقل رياضي له تطبيقاته، وهو فضاء رياضي متماسك داخلياً، له صفة "الهندسة" (من ناحية اللفظ) ولكن لا يعني أنه يعكس عالمنا الجيوغرافي، هو بناء رياضي حافظ على أسماء تاريخية ولكن له تطبيقات في مجالات أخرى غير البناء والهندسة المدنية، وذلك بعدما تعدت أصلاً الهندسة الرياضية الإقليدية مجالات الجغرافيا، هذه هندسات تدخل حتى في حسابات الأعداد الأولية.[/quote]

نحن لا نتحدث عن المسلمات هنا ، نحن نتحدث عن البديهيات .. تلك التي سميتها انت "نراه صحيحا بداهة".

أتمنى ان تجود علي ببعض الأمثلة ..
فمعرفتي لوجودي ليست معرفة بديهيّة إذ أنها بحاجة لإثبات.
واستنتاج الاثنين من عملية جمع الواحد مع الواحد، ليس بديهية، إذ أنها تحتاج لإثبات وهناك مواد باكملها في الجامعات لإثبات هذه العمليّة.
وكون المتوازيين لا يلتقيان، هي مسلمة ، وليست بيديهة، مسلمة قابلة للعكس ، ومسلمة تقوم عليها هندسة اقليدس.

أين البداهة هنا ؟

أخيرا ، شكرا لك ..