"الكرادة" حكاية بغدادية أخرى ... تشتم منها عبق التاريخ البغدادي ... انها "الكرادة" قلب العاصمة النابض ... تجد فيها كل شيء ... سياسة، ثقافة، تجارة، أدب، علوم، دين، حركة، حب، جمال، حياة، موت ... كل شيء خليط ممتزج تشربه لتدرك ماهي "الكرادة".

في البداية علينا التفريق بين "كرادة مريم" التي تقع في الرصافة ... وبين الكرادة المشهورة التي أتحدث عنها ولتمييزها يُطلق عليها "الكرادة الشرقية" ... وان لفظ أحدهم "الكرادة" وحدها فانه يقصد الشرقية بالتأكيد.

الكرادة يسكنها خليط متنوع من السكان مع تفاوت في النسب ... أغلب سكانها هم عوائل بغدادية عريقة ... ليس من الضروري أن تكون غنية ولكن يكون لها جذور عميقة في بغداد.

تضم الكرادة عدة شوارع شهيرة في بغداد ... مثل شارع "أبو نواس" الذي يشتهر بفنادقه ومطاعمه الراقية وبـ "السمك المسقوف" والليالي الملاح والتقاء الأحبة واقامة الحفلات والأفراح ... وهو مكان مناسب للتسوق بالاضافة الى شارع الكرادة الداخلي.

هناك عدة كليات تقع في "الكرادة" حيث تلتقي مثلثات الهندسة ونظريات فيثاغروث ونحويات الدؤلي وأسس المربين وفن السياسة كلها في مشهد جامعي واحد في "الجادرية" احدى شوارع الكرادة ... بالاضافة الى ذلك فان الجادرية فيها بيوت كبار رجال السياسة وأهل الحكم والسلطة ... فبعدما كان بيت "طارق عزيز" وقيادات بعثية في الجادرية في عراق ما قبل 9 نيسان ... أصبحت الجادرية مكاناً لقصور الجلبي والحكيم وغيرهم من الساسة العراقيين.

"الكرادة" شهدت نشاطاً سياسياً لأحزاب كثيرة ... فحزب الدعوة استطاع اختراق جو الكرادة التجاري والمائل الى اتجاهات فكرية يسارية وقومية وحوّل التفكير الى اسلامي منفتح ... ولا ننسى أن شخصيات ومفكرين اسلاميين شيعة كبار نشأوا في الكرادة ونشطوا فيها.

الكرادة كانت مؤشراً للوسط البغدادي وتوجهاته السياسية .... ومنها انطلقت ثوارات وشهدت انقلابات وقامت حكومات وسقطت.

ان تحدثنا عن "الكرادة" فلا بد أن نتحدث عن "مقاهيها" لأننا ان غفلنا رائحة البن وصوت الموسيقى وحوارات الطاولة والمناقشات الحادة وزفير رجل عجوز تشعر بسخونة الهواء المنبعث من أنفه وترى في عينيه ألم السنين ... فاننا نكون قد شطبنا "نصف" الكرادة ... فلا نستطيع أن نحكم من جلب الشهرة لمن؟ ... هل "المقاهي" صاحبة الفضل أم "المنطقة" نفسها!

فهذه "المقاهي" أماكن للجدال والسجال السياسي ... والحوار الأدبي والثقافي ... يتباحثون حول كتابٍ قرأه الجمع كل يدلو بدلوه ليصبوا في بئر عقولهم ماءً يرجونه صافياً يوازي ساعات جلوسهم الطويلة هناك.

"مقهى الشاهبندر" ... زرته في آخر مرة ذهبت لبغداد ... يقول أبي أنه تغيّر في الشكل والمظهر ولكنه مازال يحتفظ بهويته ... يجتمع الباب في زاوية ليرفهوا عن أنفسهم قليلاً بعيداً عن أصوات المجنزرات ودوي الانفجارت والمفخخات ... بينما يجتمع في وسط المقهى كبار سنٍ كأنهم كتاب تاريخٍ مفتوح ... ولكنه كتاب يرافقه التذمر والمللمن كل شيء وعلى كل شيء!

قبل فترة تعرض المقهى لانفجار كبير ويقول البعض أنه تتهدّم جزئياً ... ولا أعرف هل يسعى البعض لتخريب تراث بغداد وتدمير معالمها حتى نشك اذا زرناها أننا في بغداد وأننا في كرادتها.

مقهى "الزهاوي" الذي سُمي باسم الشاعر الكبير مازال صامداً في وجه السنين ... مقهى "أم كلثوم" رغم قدمه وتهاويه كان حاضراً في آخر زيارةٍ لي ولا أعلم ان بقى على حاله حتى الآن.

"شارع المتنبي" رئة الثقافة العراقية ... مصداق المثل الذي يشير الى "بغداد القارئة" موجودٌ هنا ... مازال هذا الشارع يتعرض للمفخخات ... ربما يريدون اغتيال الزعيم الأكثر شعبية ... سيد "ثقافة"!