( الحاضر صورة المستقبل ) .جون كينيث جاليبرث- مفكر إقتصادي .
الجزء الأول : مقدمة
مع نهاية القرن 19 وفي الأعوام التالية شهد العالم تبدلات لم يكن ممكنا توقعها .. الشركات العملاقة ، نقابات العمال ، الثورة البلشفية ، تأسيس مجتمعات شيوعية و تحللها ، الكساد الإقتصادي ثم عودة إزدهار الرأسمالية الغربية ، حربين عالميتين و حرب باردة ، الوفرة المتزايدة ثم ندرة الموارد الطبيعية و أزمة الطاقة ، الطبيعة المتغيرة للنقود ، الدور الجديد للبنوك المركزية ، تضاؤل دور الزراعة و التوسع العمراني ، تفاقم الفقر في المدن ، صعود و أفول دولة الرفاه ، و الإستبعاد الإجتماعي ، الإمبراطورية الأمريكية ، يقظة المارد الصيني و النمور الأسيوية ، تفجر الأصولية الإسلامية .. كل هذه التغيرات غيرت العالم و بشكل لا يمكن النكوص عنه .
عندما نتابع الحوارات التي تتناول أحوال العالم نشعر أن المتحاورين يتحدثون عن عوالم مختلفة و ليس عن عالم واحد نعيش فيه جميعا ، وهذا يعني أنه لا يتوفر لنا نموذج متفق عليه عن العالم الذي نتحدث عنه . في هذا الشريط سأجتهد في وضع تصور موجز عن العالم المعاصر كيف ظهر و من صنعه و كيف أراه ؟، لن أزعم أني سآتي بشيء طريف أو جديد كلية ، أو أن هذا النموذج يجب أن يكون موضوعا لإتفاق بالنسية العربية الشهيرة 99.9 % ، حتى النصف + 1 سيكون ما فوق الكفاية ، فمثل هذا الإجماع لن تجده على الشبكة أو أي مكان آخر .. هناك قصة قصيرة لكاتب ياباني شهير تتحدث عن صديقين دخلا الغابة فقابلهما لص ،و بعد صراع طويل بين الثلاثة خرجوا من الغابة ليروي كل منهم -بكل الصدق- قصة مختلفة ، أما حقيقة ما حدث فلن يعرفها أحد ، و حتى اللص سيدعي أنه الذي سرق متاعه ، و عندما تكتشف الحقيقة بعد فترة فلن يهتم بها أحد ، ففي الغابات كما في الحياة لا شيء يُدعى الحقيقة الكاملة ، هناك فقط أنصاف الحقائق و أرباعها ،و بتلك الأجزاء يعيش الإنسان مخلصا لتحيزاته و أوهامه .
فقط أزعم أني أقدم رواية متماسكة ، ستكون متاحة للجميع كي يرفضها من يشاء ،و أن يعدلها أو يقبلها من يريد ، بعد مداخلات قليلة سيكون الشريط متاحا للجميع للحوار ،و لن يسعدني شيئا مثل أكثر المداخلات مفارقة و أبعد الرؤى عما آراه ، مذكرا الجميع أن الأفكار ليست منعزلة عن الواقع الذي تفسره ، و كما أن الواقع في صيرورة دائمة فكذلك الأفكار .
البداية .
منذ نهاية القرن 19 أصبح هناك نقد واسع ضد خشونة النظام الرأسمالي و الآلام التي سببها للمجتمعات الصناعية و المستعمرات على السواء ،و بدأت الحكومات الغربية تسلم بأن واجباتها تتخطى النظام الداخلي و الأمن الخارجي و أنها أمينة على حياة المواطنين و سعادتهم ، هكذا تولد الوعي بضرورة تطوير الوظيفة الإجتماعية للدولة لتلافي الآثار السلبية للرأسمالية و التخفيف منها . في ظل التوترات الإجتماعية العنيفة و نشاط الأحزاب الثورية و بإلهام أفكار كارل ماركس ، شهد العام 1917 نجاح الثورة البلشفية في روسيا و تأسيس الإتحاد السوفيتي في ديسمبر 1922 تحت قيادة فلاديمير إيليتش لينين كأول دولة شيوعية في العالم ، ومنذ البداية خضعت الدولة لحكم الحزب الواحد الشيوعي ( البلشفي ) ، بينما ادعى البلاشفة أن الديمقراطية المركزية تعكس إرادة الشعب ، بهذه الخطوة التاريخية ظهرت دولة ديكتاتورية البروليتاريا التي تنبأ كارل ماركس أنها ستقود البشرية إلى مرحلة الشيوعية و إنهاء دور الدولة كأداة للقهر و الظلم ، أما في الغرب فإن النمو الكبير في الدور الإجتماعي و الإقتصادي للدولة لم يصبح ملحا سوى مع الكساد العظيم (Great Depression) الذي ضرب الإقتصاد العالمي ، و تقليديا تؤرخ البداية الرسمية لهذا الكساد بالإنهيار المأساوي في سوق الأوراق المالية في وول ستريت (نيويورك) يوم الثلاثاء الأسود 29 أكتوبر 1929 . أدى الكساد إلى نتائج مدمرة على الدول الصناعية الكبرى و الدول المصدرة للمواد الخام على السواء ، فانهارت التجارة الدولية و أصبحت الدخول الفردية غير قادرة على الوفاء بالحد الأدنى لإحتياجات المواطن حتى في الدول الكبرى ،و توقفت حركة العمران في كثير من أنحاء العالم ، كما انهارت أسعار المحاصيل الزراعية و هبطت بنسبة فاقت 60% في بعض الحالات ، نتيجة هذا الكساد تحولت الديمقراطية الليبرالية إلى الدفاع ، بينما استغلت الحركات الشمولية المصاعب التي يمر بها الإقتصاد في تعبئة الجماهير وتأسيس نظم جماعية شملت العديد من الأقطار الأوروبية مثل إيطاليا و ألمانيا و الإتحاد السوفيتي الذي شهد مرحلة الستالينية .
لم يكد الإقتصاد العالمي يتعافى ببطء حتى نشبت الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل و استنزفت ثرواتها ، مع هذا كله أصبح تدخل الدولة مطلوبا بشدة ،و منذ منتصف القرن الماضي بدأت معظم الدول المتقدمة تقيم نظما شاملة للضمان الإجتماعي و تأسيس دولة الرفاه Welfare State، في تلك الأثناء كان الإتحاد السوفيتي يقدم لمواطنيه أعلى حزم من الرفاه في مقابل الحرمان الكامل من الحريات ، أما في خارج الإتحاد السوفيتي فقد اختلفت عناصر الحزمة من مجتمع لآخر .
لم تكن الدولة في الغرب هي الممول الأساسي للرفاه فحسب ، و لكنها أيضا أصبحت اللاعب الاقتصادي الرئيس عن طريق تملك مصادر هامة للخدمات و الإنتاج خلال عمليات التأميم الواسعة التي تمت ، أما على المستوى الشعبي فقد ساند الناخبون تلك السياسات متأثرين بما لمسوه من نتائج ايجابية لسيطرة الدولة على الإقتصاد خلال فترة الحرب . لم يكن تملك الصناعة وحده كافيا ، فقد شعرت حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية بضرورة السيطرة الكلية على الاقتصاد و ضبط آليات السوق ، و في عام 1944 حضرت 44 من الدول الصناعية المؤتمر الدولي للنقد في ( برتون وودز ) ،حيث تقرر إنشاء البنك الدولي (World Bank) و صندوق النقد الدولي (IMF) ، كان الهدف من البنك الدولي الذي تكون في البداية من البنك الدولي للإنشاء و التعمير IBRD)) ،و الإتحاد الدولي للتعمير (IDA) هو المساعدة في إعادة بناء أوروبا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية ، و بعد تعمير ما خربته الحرب ركز البنك نشاطه على مساعدة الدول النامية خاصة في بناء البنية الأساسية ، و يركز البنك نشاطه حاليا على تحقيق أهداف التقدم في الألفية الجديدة (MDGs), من أجل التنمية المستدامة و التخلص من الفقر ، و يقوم البنك بدوره عن طريق تقديم القروض منخفضة أو معدومة الفائدة و أيضا تقديم الهبات للدول الأشد فقرا ، و يحصل البنك على الأموال اللازمة لنشاطه من 40 دولة مانحة تستعوض أموال البنك كل 3 سنوات ، و البنك لا يقدم القروض للدول النامية فقط بل يقدم أيضا المشورة الفنية و التحليلات الإقتصادية ، أما صندوق النقد الدولي فهو مؤسسة دولية واجبها الإشراف على نظام التمويل العالمي ، و يقوم بذلك عن طريق مراقبة أسعار الصرف و ميزان المدفوعات ، بالإضافة لتقديم مساعدات مالية و فنية ، و لكن يؤخذ عليهما فرض شروط على المساعدات غالبا ما تشمل على برامج مرهقة للهيكلة البنيوية ، يكون ضحاياها عادة من الشرائح الإجتماعية الأشد فقرا .
خلال مؤتمر ( برتون وودز ) تم أيضا إعتماد الدولار الأمريكي ليكون العمود الفقري للتبادل التجاري الدولي ، وفي النهاية تم توقيع الوثائق الرسمية للمؤتمر في القاعة الذهبية ،و التي جائت بتنظيمات دقيقة لسوق الأوراق المالية ، أما على مستوى النظرية الإقتصادية فقد حلت أفكار كينز Keynes ( جون مينراد كينز ) محل الليبرالية الكلاسيكية و التي كانت تترك لآليات السوق حرية تنظيم الحياة الإقتصادية . يعتبر كينز هو مؤسس علم الإقتصاد الشامل "Macroeconomics" كما هو معروف الآن ، بينما كان كينز يطالب بضرورة تدخل الحكومات في الإقتصاد ، و توفير الوظائف التي لا يمكن توفيرها بشكل طبيعي وفقا لآليات السوق ، و هكذا ظهر نموذج إقتصادي جديد تماما في بريطانيا العظمى و انتشر منها إلى أوروبا و يقوم على دولة رفاه كبيرة تملك فيها الدولة للصناعات الرئيسية ، و تدير حكومة التدخل استراتيجيات تنمية قومية تسيطر عليها الدولة ، بالرغم من وجود ثغرات في ( النظرية العامة) لكينز منذ البداية إلا أنها لاقت قبولا على نطاق كبير ، كان من تلك الثغرات إفتراض كينز أن التضخم يحدث فقط عند إقتراب المجتمع من التشغيل الكامل للعمالة و لكنه تلاحظ حدوث تضخم في مجتمعات تعاني من البطالة الشديدة (Stagflation) ، رغم ذلك فنفس النظرية العامة مازال لها قبولها في الإقتصاد الشامل الحديث ،و يعزو كينز البطالة إلى معدلات إدخارية عالية أو نقص في الإنفاق الإستثماري .
يكشف تقرير ويليام بيفريدج عام 1942 عن ملامح دولة الرفاه كما ظهرت في بريطانيا ، و التي كان عليها وفقا للتقرير أن تكافح الشرور الخمس في المجتمع وهي التشرد و الجهل و الحاجة و التعطل و المرض ، و عقب الحرب العالمية الثانية اتخذت الدولة إجراءات متعددة لمكافحة تلك المثالب ، و كانت دولة الرفاه تعني في عبارة مختصرة رعاية الدولة للأفراد من المهد إلى اللحد ، و أدى هذا المفهوم إلى زيادة هائلة في الإنفاق العام و توسع كبير فيما يعتقد أنه واجبات الدولة ، و بالتالي فقد امتد تدخل الدولة ليشمل إعادة توزيع الأعباء ليقع الحمل الأكبر على الأغنياء ، و شمل أيضا التدخل لحماية المستهلك و التوسع في مفهوم الفقر الذي يجب مكافحته ليشمل العديد من المعايير النسبية ، أما الأسباب الأعمق لإنشاء دولة الرفاه فهي أكثر تعقيدا ، أهمها وجود تهديدات من الأفكار الراديكالية اليسارية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى كذلك الحاجة إلى تعليم أفضل و مستويات صحية أعلى للتعامل مع الموجة الصناعية الجديدة ، و لكن هناك من يعتقد أن السبب الرئيسي هو إحجام البيروقراطية على تسليم سلطاتها التي حصلت عليها أثناء إدارة الدولة في زمن الحرب ، و في بريطانيا مثلا تضاعفت نسبة ما ينفق على خدمات الرفاه من إجمالي الناتج المحلي أربع مرات فزاد من 5% فقط عام 1945 إلى 20% عام 1975 ، و ارتفع الإنفاق على الخدمات الصحية الوطنية من 200 مليون جنيه عام 1951 إلى 5596 مليون عام 1975 أي 28 ضعفا تقريبا ، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فجاء التوسع في الإنفاق الإجتماعي متأخرا ، ولم تظهر الدولة اهتماما ملموسا في توسيع ميزانية الرفاه سوى في إدارة كينيدي-جونسون ( 1961-1968) ، وفي عام 1964 فقط أعلن جونسون "حربا وطنية على الفقر" .
في المقابل و بسبب الإنتصارات السوفيتية على النازية في الحرب العالمية الثانية ، احتل الجيش السوفيتي أراضي العديد من الدول في شرق أوروبا و شرق آسيا ، نتيجة لذلك أسست دولا شيوعية بمساعدة الإتحاد السوفيتي في بلغاريا و تشيكوسلوفاكيا و شرق ألمانيا وبولندا و المجر ورومانيا ، كما أسست دولة شيوعية تحت قيادة المارشال تيتيو في يوغسلافيا و تحولت ألبانيا إلى الشيوعية ، وفي عام 1949 استولى الشيوعيون على الصين و أسسوا دولة شيوعية فيها على النهج الماوي ( ماو تسي تونج ) ،و قد نشطت الشيوعية في أجزاء عديدة من العالم و قادت بالفعل حركات تمرد قوية في أقاليم أخرى مثل فيتنام و كوريا ولاوس ، و أجزاء من افريقيا و الشرق الأوسط ، و مع بداية السبعينات ظهر إلى الوجود تعبير الشيوعية الأوروبية Euro-communism ،و الذي استخدم للإشارة إلى الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا ،وهي أحزاب شيوعية أدخلت تعديلات هامة على الأفكار الشيوعية التقليدية ،و اختلفت في نهجها عن تجربة الإتحاد السوفيتي كما رفضت تقديم الدعم غير المشروط لسياسات موسكو ، كانت تلك الأحزاب نشطة سياسيا ، كما أنها كانت تحوز على نسبة عالية من الأصوات خاصة في إيطاليا (PCI), و فرنسا (PCF), و إسبانيا (PCE) ، بل كاد الحزب الشيوعي الإيطالي أن يحصل على الأغلبية و بالتالي يكون مهيئا لتشكيل الحكومة في إيطاليا في منتصف السبعينات .
للموضوع تكملة و لكني سأرحب بأي تعليقات فورا .