( إن أبي لم يشاغب بل ركب دراجته باحثا عن عمل ) نورمان تيبت - وزير في حكومة تاتشر.
( ما يفيد بوينج يفيد أمريكا) .بيل كلينتون .
الجزء الثاني
الليبرالية الجديدة.
جاء انهيار الكينزية بشكل فجائي نتيجة القفزة الهائلة في أسعار النفط عام 1973 ، فقد أدى الإرتفاع المفاجئ لسعر البرميل من 1.76 إلى 20 دولار خلال أشهر قليلة إلى إنكماش اقتصادي عالمي و تضخما في الأسعار وصل إلى 20 % في بعض الأقطار ، كما عجزت دول العالم الثالث عن خدمة ديونها ، أدى ذلك كله إلى أن الحكومات صارت تؤمن بأن المشكلة ليست في الإدارة بل في النظام السائد نفسه ، تطلبت الأزمة وقتها أسلوبا جديدا مختلفا في إدارة الإقتصاد يقوم على الكبح المالي و ضغط الإنفاق و محاربة التضخم و تحجيم القطاع العام ،و هذه السياسات الجديدة تبناها كارتر في الولايات المتحدة الأمريكية و جيمس كالاهان في بريطانيا ،و تبعتهما معظم الدول الأوروبية ، كما هو متوقع و رغم سقوط الكينزية فقد استغرق الأمر بضع سنوات لظهور شكل جديد للراسمالية بأيديولوجية جديدة .
في 3 مايو 1979 تسلمت مارجرت تاتشر السلطة في بريطانيا العظمى ، و تبعها رونالد ريجان إلى البيت الأبيض عام 1980 ، و كان كلاهما ينتميان إلى اليمين المتشدد ،و ظهر تعبير الليبرالية الجديدة ،وهي السياسة التي جائت في صورة انقلاب على الكينزية التي سادت في الغرب عقب الحرب العالمية الثانية ، و تعرف الليبرالية الجديدة أحيانا باسم التاتشرية – الريجانية ، و الليبرالية الجديدة تطبيق لتعاليم فريدريك فون هاييك و تلميذه ميلتون فريدمان ، و جدير بالذكر أن تاتشر من تلاميذ هاييك أيضا ، و قد تبنى العالمان السوق الحرة بحماس ، مع العداء بإصرار لمفهوم الدولة المتدخلة ، و هما يؤكدان على أن السوق الحرة قادرة على الإنتاج و توزيع السلع و الخدمات بشكل أفضل من الدولة ، و أن تدخل الدولة لإصلاح إخفاقات السوق تضر أكثر مما تفيد ، و لا توجد أيديولوجية واحدة تربط التاتشرية بالريجانية ، و لكن جمعهما ما يمكن أن يكون صفة النفي ، إنها الرفض لجميع أركان الإجماع الكينزي مثل الإقتصاد المختلط و غايات التوظيف الشامل و دولة الرفاه ، لقد تبني اليمين الجديد سياسات مثل التخفيض الجذري للضرائب ،و خصخصة وظائف و خدمات الدولة و تكليف مؤسسات أخرى القيام بها ، فاليمين الجديد يرى أن عقلية الرفاه قد نشرت البلادة و روح التواكل ،و الليبرالية الجديدة تؤمن بحرية تجارة السلع و الخدمات – حرية تداول رأس المال – حرية الاستثمار – الغاء القطاع العام و زيادة الخصخصة – اللامساواة الإجتماعية ظاهرة طبيعية .
جاء التحول إلى اليمين خشنا و متطرفا ، و كان شعار التاتشرية ( اركب دراجتك ) مقتبسا من قول نورمان تيبت وهو وزير من أتباعها :" إن أبي لم يشاغب بل ركب دراجته باحثا عن عمل " ، لقد حل الإستقلال مكان التكافل الإجتماعي ، كما رفضت أيديولوجية المساواة من جذورها ، و لم تعد عدالة توزيع الثروة من مهام الدولة ، و لم يعد معايير الفقر نسبية بل بالحاجة المطلقة ، و اعتبر الجشع و الأنانية و النفعية أشياء حسنة ، و النظر للإنسان كمجرد كائن اقتصادي .Homo Economicus ، كما جرى خفض أعباء الإنفاق الإجتماعي ، وصاحب ذلك كله عملية بيع واسعة للأصول من القطاع العام إلى القطاع الخاص وصلت في بريطانيا وحدها إلى 67 بليون جنيه استرليني ما بين عامي 1979 إلى عام 1997 ،و لم يعد هناك صناعة تحت ملكية الدولة مالم تكن هناك أسباب ملحة و شاملة تدعوا إلى ذلك ، في المقابل تضاعف عدد أصحاب الأسهم و صارت الرأسمالية شعبية ، أما في الولايات المتحدة فعلى العكس من أوروبا لم تنجح الملكية العامة قط ، لهذا لم تلق الريجانية مقاومة تذكر ، و سعى ريجان لخفض سقف ضريبة الدخل من 70 إلى 28 % .

تصدير الرأسمالية:
مع بداية التسعينات تغير شكل الحكومة في بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة لا رجعة فيها ، و سرعان ما انتشر مذهب رأسمالية السوق الحرة المبنية على النموذج الأنجلو أمريكي في العالم ، بل أن اليسار التقليدي أصبح يتبنى الكثير من قواعدها ، التي سرعان ما انتشرت في العالم كله ، هذا الإنتشار شمل بلادا متنوعة بتنوع بريطانيا ذات الإقتصاد الكينزي إلى ألمانيا ذات التراث القائم على التنظيم المحكم ، مرورا بالمجتمعات الشيوعية في روسيا و شرق أوروبا و بالهند الإشتراكية و الصين الماركسية الأصولية ، ظفر النظام الأنجلو أمريكي بالصدارة في المجتمعات الصناعية و الأسواق النامية على السواء ، و حتى في المجتمعات الشيوعية ، فقد نظروا إلى رأسمالية السوق كضرورة للإزدهار .
كانت استراليا و نيوزلنده و كندا من أول الأقطار التي تبنت النموذج الرأسمالي الجديد ، و في الولايات المتحدة الأمريكية اللاتينية أظهر الديكتاتوريون العسكريون أنهم مريدون نجباء لليمين الجديد ، كان بينوشيه أول من طبق السياسات الجديدة في شيلي في الثمانينات ،و في التسعينات تبعه جميع قادة دول الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية الكبار مثل المكسيك و الأرجنين و البرازيل ،و كان حافزهم الرئيسي الحصول على القروض من البنك الدولي ، في أوروبا اضطر هيلموت كول و جاك شيراك إلى تبني سياسات اليمين الجديد و التي كانوا سابقا يرفضونها كلية كنوع من الرأسمالية المتطرفة ، و بحلول عام 1995 كانت فرنسا و ايطاليا قد خصصت شركات تصل قيمتها إلى 50 بليون يورو .
نهاية الحرب الباردة:
في بداية الثمانينات امتلك الإتحاد السوفيتي أكبر قوة عسكرية في العالم ، سواء من حيث القوة البشرية أو التسليح و التفوق في الفتح الإستراتيجي ، و نجح هذا الحجم الهائل للقوة السوفيتية في حجب نواحي الضعف التي تعانيها الكتلة الشرقية ، بينما كانت ثلث البشرية تعيش تحت انظمة شيوعية ، و قد التهمت النفقات الدفاعية حوالي 25 % من العائد القومي الإجمالي على حساب ميزانيات التنمية و توفير الخدمات الأساسية ، وقد تضافرت أسباب عديدة في توقف النمو السوفيتي كلية خلال العقد الأخير من حكم بريجنيف ، و عندما وصل ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة عام 1985 ، تدنى النمو السوفيتي إلى صفر % ، كما عانت روسيا من حصيلة العملة الحرة بسبب الإنخفاض المستمر في أسعار البترول في الثمانينات ، بينما يشكل صادرات البترول 60% من حصيلة الصادرات للإتحاد السوفيتيي ، و كي يستطيع إنقاذ الإقتصاد السوفيتي إتجه جورباتشوف إلى تحوبل النفقات الدفاعية إلى قطاعات تنموية ، عارضا تنازلات عسكرية ضخمة على الولايات المتحدة ، و نتيجة سياسات التهدئة التي قادها جورباتشوف و ريجان وفي 1988 أعلن جورباتشوف نهاية 71 عاما من الحرب الباردة ، وفي العام التالي انسحبت القوات السوفيتية من أفغانستان ، وفي ديسمبر 1989 أعلن جورباتشوف و جورج بوش إنتهاء الحرب الباردة رسميا في قمة مالطة ، وفي فبراير 1990 تخلى الحزب الشيوعي السوفيتي عن 73 عاما من السلطة المطلقة ، و في نفس العام سقط حائط برلين ، و في ديسمبر عام 1991 تفكك الإتحاد السوفيتي نفسه إلى 15 دولة مستقلة ، و ساهمت ثورة الإتصالات و الإعلام في انتشار أفكار اليمين الجديد ، و يمكننا أن نقول بدرجة عالية من الصحة أن البث الهوائي لروبرت ميردوخ و تد تيرنر بالإضافة لزجاجة الكوكاكولا، هي التي هدمت الشيوعية !، لقد جعلت من المستحيل للسلطات الغير رأسمالية أن تحجب عن شعوبها نجاح النموذج الرأسمالي و إغراء أسلوب الحياة الغربية الإستهلاكية ، كانت أشياء مثل مطاعم ماكدونالد و سيارات المرسيدس و موسيقى الروك و نظارات ريبان و ساعات الروليكس و بنطالات الجينز ماركة ليفي ، لها أهمية تفوق الحريات الليبرالية في أعين مواطني شرق أوروبا الذين أمضوا حياتهم في عداء للغرب ، و تكررنفس الموقف في الدول التي سارت على النهج السوفيتي في الإقتصاد الموجه كالهند وزامبيا و تنزانيا و الجزائر و مصر ، و حتى الآن يعيش حوالي 25% من البشر في ظل حكومات شيوعية معظمهم في الصين ،و لكن حتى الدول التي تخضع لحكم الحزب الشيوعي كالصين و فيتنام تحولت إلى اقتصاد السوق ، ففي الصين اعترف قادتها بأن البلاد تخلفت بسبب الإقتصاد المركزي الإشتراكي ، بمثابة صدمة للإشتراكية لا تقل تأثيرا عن انهيار الإتحاد السوفيتي . أما الدول الشيوعية حاليا فهي الصين و كوبا ولاوس و فيتنام و كوريا الشمالية ، و بالرغم ان هذه الدول تحكم بحكومات لها نفس الطبيعة إلا أنها تنتهج سياسات مختلفة كلية .
هناك اعتراف بالمنافع التي تجلبها السوق الحرة حتى في المجتمعات النامية حيث ينظر بشك دائما للإستثمرات الأجنبية ، باعتبارها استغلالا و ضد مصالح الأمة ،و الآن تعلن معظم الدول النامية عن ترحيبها بتلقي الفوائض النقدية الغربية لإستثمارها و تخليها عن الإقتصاد الموجه ، وجاء نجاح النمور الأسيوية ( سنغافورة- تايوان- كوريا الجنوبية- هونج كونج ) حاسما في تخلي الباقي عن الإقتصاد الموجه .
وداعا للمساعدات !.
اليوم لا يقدم أحد المساعدات سواء داخليا أو على المستوى الدولي سوى لإجراء إصلاحات على النمط الأمريكي ، و نادرا ما يثير أحدة أن هذه الأقطار لا تشبه أبدا الولايات المتحدة الأمريكية سواء في التاريخ و الثقافة ولا في المؤسسات و مستويات التنمية و الإمكانيات ، حتى من لا يوافق على قسوة النموذج الأنجلو أمريكي اضطروا إلى قبول الروح السائدة ولو على مضض، و تكفلت مؤسسات الإقراض الليبرالية الجديدة ، و صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ، بفرض النموذج الإقتصادي الجديد على الأرض ، و هكذا أصبحت كلمة السوق هي قدس الأقداس في الثمانينات و التسعينات ، كانت مساعدات الأقطار الصديقة تعني شراء الولاء و الطاعة من الأقطار النامية لضرورات انتهازية بحتة من الطرفين ، و مع انتهاء الحرب الباردة سحبت دول العالم الأول المساعدات التي كانت تقدمها للدول النامية واستبدلتها بالإستثمار الأجنبي المباشر (FDI) ، ففي عام 1990 كانت المساعدات التي تقدم للدول النتمية تزيد عن 60 بليون مقارنة ب20 بليون للإستثمارات الأجنبية المباشرة وفي 1992 تعادلت الإستثمار الأجنبي المباشر FDIالمساعدات ، و لكن في عام 1997 بلغت المساعدات 40 بليون فقط مقارنة ب160 بليون للإستثمار الأجنبي في الدول النامية ، و كثيرا ما ربطت المساعدات بتنمية القطاع الخاص . و حاليا تحظى الولايات المتحدة باعلى نسبة من الإستثمارات الأجنبية المباشرة حيث تبلغ في يناير 2008 حوالي 1.8 تريليون دولار ، تليها بريطانيا 1.135 تريليون دولار ، ثم هونج كونج 769 مليار دولار ، ثم المانيا و الصين و فرنسا و بلجيكا و هولندا و إسبانيا ، و تحتل الإمارات المرتبة 42 ( 42.6 مليار دولار ) و مصر المرتبة 45 (37.7 مليار دولار )