إن تصنيف العالم إلى عالم الحرمان مقابل عالم الرفاه ، عالم مجدي في الشمال مقابل عالم عديم الجدوي في الجنوب ، يؤدي إلى نتائج خطيرة تهدد النظام العالمي كله بنفس الشكل الذي هدد فيه التباين الطبقي السلام في القرن العشرين و أفرز حربين عالميتين و العديد من الثورات الدامية .

الأخت الكريمة نسمة عطرة .
مشاركتك تعطي للموضوع أهمية و نضارة .. فمرحبا بك .
إن أفضل الأصدقاء هم الذين تصمد صداقتهم للإختلاف كما تنمو بالإتفاق ، و لكننا اليوم لن نختبر صداقتنا بالإختلاف بل سندعها تنمو .. فأنا أتفق معك كلية .

الجزء السادس و الأخير .

قضية التنمية

سبق أن استعرضت أجزاء من هذه الفرعية في ردود سابقة ..
في منتصف الخمسينات كان أمام الشعوب النامية الفقيرة و المستقلة حديثا و منها الشعوب العربية بديلا يبدوا مغريا هو الإشتراكية التي تقودها حركة الشيوعية العالمية ، هذا البديل كان يبدوا غنسانيا وواعدا ،و لهذا تبنته معظم شعوب العالم الثالث التي يتوفر لها قيادة وطنية ، و منها بعض الشعوب العربية مثل مصر و سوريا و الجزائر و كلها طورت صيغا معدلة من الماركسية و سعت لتطبيقها ، و لكن الشيوعية هوت فجأة في موطنها الأصلي و لم تحقق الإشتراكية النتائج المأمولة في دول العالم الثالث التي انتهجتها كما حدث في دول مثل مصر . في المقابل رأت مجموعة من منظري التحديث في الغرب أن البلدان الفقيرة في حاجة إلى رأسمال ضخم و تكنولوجيا و تنظيم اجتماعي حديث و قيم حداثية ، هذه الرؤية كانت مؤثرة جدا في الإدارات الأمريكية الديمقراطية ، و نتذكر أن ( و.و. روستو ) الذي عمل في إدارات كينيدي و جونسون كان يرى أن التراكم المتزايد لرأس المال سوف يقود عملية التحديث ، و أن نقل الاستثمارات و التكنولوجيا من البلاد الأكثر ثراء إلى البلاد الفقيرة ستسمح للأخيرة أن تصبح حديثة بمعدلات أسرع ، بينما كان هناك آخرون يركزون على أهمية رجال الأعمال و طبقة المديرين المتخصصة في عملية التطوير ، جاء أيضا صمويل هينتنجتون وهو منظر هام في التحديث بفكرة أن الحداثة هي عملية تطورية تغير المجتمعات بطريقة ثورية . إن عملية التحديث هي سلسلة متتالية من التغيرات و تبني طرق جديدة للتعليم و الحياة المادية ،وفي المقدمة منها الحياة في المدن كأكثر الطرق قدرة في تحديث الناس ،و بالنسبة لهؤلاء المحدثين في الغرب كانت هناك وصفة واحدة للتنمية هي :
استدن .. استورد .. قلد .. ثم رشد .
وهي الوصفة التي صنعت النمور الأسيوية .
بعد مراحل تاريخية متتالية من الحداثة وما بعد الحداثة و العولمة نجد أن أمامنا نموذجين استرشاديين للتنمية ..
الأول هو النموذج السابق و الذي طرحه مفكرو مرحلة أو حقبة الحداثة ، و الذي يرى أن الدول كلها كيانات متشابهة على درجات مختلفة من النمو ،و أن التخلف يعود لأسباب داخلية يمكن تجاوزها بالإصلاح الداخلي ، أي أن الدول أشبه بمن يقف في طابور واحد ، و بمجرد أن تقوم الدول الموجودة في المؤخرة بنفس الإجراءات التي قامت بها الدول المتقدمة في فترة سابقة من تاريخها فإنها سوف تتقدم و تلحق بالمتقدمين و ربما تتجاوزهم ،و هذه الفكرة مازالت سائدة بين البعض دون إدراك للمصيدة التي سقطت فيها الشعوب النامية و التي تسكعت في مسارات التنمية حتى داهمها طوفان العولمة .
أما النموذج الآخر فهو نموذج التبعية الذي يرى أن الدول الفقيرة و الغنية هي أجزاء من الكل نفسه ، وذلك الكل هو النظام الرأسمالي العالمي ، و بالنسبة لنموذج التبعية نجد أن التخلف في المحيط هو النتيجة المباشرة للنمو في المركز . هذا النموذج الأخير تم تعديله نتيجة نجاحات غير متوقعة لظاهرة النمور الأسيوية ، و يتألف النظام العالمي كما يراه مناظرو العولمة الآن من ثلاث دوائر هي دائرة المركز و شبه المحيط و المحيط ، و يضم شبه المحيط دولا مثل البرازيل و جنوب إفريقيا ، تحمل ملامح كل من البلاد الفقيرة و البلاد الغنية ،و تعمل كوسيط في عملية استغلال المركز للمحيط . هذه النظرية بخلاف الشكل الفج لنظرية التبعية تسمح بالحراك بين المستويات الثلاث تحديدا ما بين المحيط الفقير و شبه المحيط الواعد ، مع ملاحظة أن هذا النموذج ليس ورديا تماما فمعظم دول المحيط لن تكون أبدا قادرة على الصعود لأعلى ، بل إن تلك المهمة تتعقد باستمرار .
بالرغم من الضرر الواقع عليها ، فلا يمكن للدول الفقيرة أن تتخلص من النظام العالمي دون أن تعرض نفسها للعقوبات و حتى الخروج من التاريخ ، فهذا النظام هو محصلة لعملية تاريخية كبرى ، و لكن يمكن لهذه الدول و المجتمعات أن تحقق نوعا من التنمية ضمن هذا النظام العالمي ، وهذا يتحقق خلال ما يمكن أن نطلق عليها عمليات التنمية بالمشاركة associated development ،و يجب أن يكون واضحا للجميع أن ذلك يعني بصيغة أخرى نوعا من التنمية التابعة dependent development ، هذا النسق من التنمية هو فقط المتاح للدول الفقيرة على الأقل حتى تتخلص من حالة الفقر و تلك عملية تزداد صعوبة ولا تقبل المخاطرات غير المحسوبة .
إن العولمة أصبحت تفرض مفاهيما جديدة لا يمكن التفكير خارجها لو أردنا أن نفهم هذا العالم المعقد ، أهمها أن نتجاوز فكرة الدول الفقيرة ضد الدول الغنية ،وكأن هناك عالمين أو ثلاث عوالم ، بدلا من ذلك علينا أن نفكر كيف أصبح هذا العالم موحدا وقائما على الاعتماد المتبادل ،و أن القوانين نفسها تطبق في كل مكان .إن العولمة لا تعني فقط دمجا اقتصاديا على نطاق العالم ،و لكنها نقلة نوعية كبرى في شكل التنظيم الاجتماعي و القيم الثقافية ، كما أنها تمثل تحولا تاريخيا في نظام العالم الرأسمالي .
في النتيجة نرى أن التنمية تصبح ممكنة فقط في إطار مفاهيم عالمية وهي ما نطلق عليها الليبرالية الجديدة ، هذه الليبرالية تقبل أشكالا عديدة من الخصوصيات الثقافية ،و لكنها فقط التي لا تتعارض مع الأسس التي يقوم عليها النظام الإقتصادي العالمي . إن مفهوم الليبرالية الجديدة يعيد إحياء الإعتقادات القديمة في حرية التجارة و انتقال رأسمال و العمالة و الخدمات و بالأساس الأفكار و القيم و المفاهيم . إن الأنظمة الخاصة المنعزلة و الشمولية كالأنظمة القومية الشوفينية أو الدينية الأصولية لا مكان لها في عالم جديد قد لا يكون عادلا و لكن لا يوجد عالم غيره .
العولمة كما يراها أنصارها هي عالم واحد تنتقل بين أطرافه الأموال و السلع و الخدمات و الأفكار بلا حدود ، و تتحدد فيه الثروات على ضوء مقتضيات السوق وقوانينه ، كما تحل فيه الشركات متعددة الجنسية محل النخب السياسية و البيروقراطيات الحاكمة ، و يكون شاغل هذه الشركات الأوحد هو إغتنام الفرص في سوق عالمي تسيطر عليه حركة التكنولوجيا و الإبداع و المال و المعرفة ، هذا العالم لا محل فيه لمنتج وطني أو حتى إقتصاد وطني ، و لكن السوق يقوم على لاعبين يشتركون في شبكة واحدة و يتعاملون مع بعضهم البعض بشكل دائم ، و تشارك شريحة محدودة من سكان العالم في هذه الشبكة التي تربط ( الفئة الناجية ) ، كالعلماء و المديرين و مديري البرامج و المهندسين و رجال البنوك و القانون و الإعلام و الدعاية و غيرهم ، هذه الدوائر أيضا كما تربط اللاعبين في أطراف العالم كله فهي أيضا تستبعد الباقين و تهمشهم .
مدرسة التبعية
( يطلق هذا الاسم أكاديميا على مناهضي التبعية ) . تبلورت تلك المدرسة نتيجة انصهار عناصر اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية مع عناصر من الماركسية الجديدة في الستينات في تحد لنظرية الحداثة التي تقودها الولايات المتحدة . قدمت مدرسة التبعية العالم على أنه مؤلف من قطبين :دول غنية في المركز لنظام عالمي جديد و دول فقيرة هي تابعها أو محيطها كما ذكرت سابقا .وفقا لهذه النظرية يتسلط المركز على المحيط و يستغله على امتداد سلسلة تمتد من مراكز الدول الغنية إلى عواصم البلاد الفقيرة إلى مدنها الإقليمية ثم إلى مناطقها الريفية النائية ثم صعودا إلى أعلى السلسلة غير المتكافئة من جديد ، خلال هذه السلسة يتدفق من أعلى لأسفل السلطة و الأيديولوجية و السلع غالية الثمن ، يقابلها من أسفل لأعلى فائض القيمة و التبعية . يحدد منظرو التبعية عوامل رئيسية تنشط حالة التبعية أهمها الرأسمال الأجنبي ممثلا بالشركات متعددة الجنسيات ، أيضا مجموعة النخب ضمن دول المحيط ،و التي أبرز عالم الاقتصاد البرازيلي الشهير كاردوسو ( انتخب رئيسا عام 1995 ) الدور الفاعل الخطير الذي تقوم به تلك النخب في ربط دولها بالنظام العالمي الظالم و بحيث تنتفع تلك النخب مع حلفائها في المركز على حساب الجماهير الفقيرة التي تعيش ضمن المحيط .
إلى هنا لا يوجد ما نختلف حوله ،و لكن ماذا بعد ؟.ماذا نرتب على هذا الوصف ؟، كيف يمكن علاج هذه الحالة من التبعية ؟.
هناك مدرستان الأولى ترى ألا مهرب من حالة التبعية سوى بالهروب من النظام الرأسمالي ذاته ،و يتبنى هذا الموقف مناظرون مثل بول باران و أندريه جوندر و سمير أمين و غيرهم ، و لا شك أن هذا هو الحل المثالي لو كان قابلا للتحقيق بالفعل ، و لكن يعيب هذه المدرسة أنها و بسبب الطبيعة الوصفية العالية فشلت كنظرية للتنمية ولا تقدم فعليا أي حلول عملية يمكن تطبيقها ، كما أنه تعوزها آليات تحليل التغيير ، وخاصة القدرة على النهوض التي جربتها و بنجاح بعض دول المحيط ( النمور الأسيوية مثالا ) في ظروف تنبأت النظرية أن يكون قاتلا لكل المرضى ، و يعيبها أيضا عموميتها المخلة و عدم القدرة على تمييز الخواص المتغايرة ضمن دول المحيط و لماذا توجد اختلافات كبيرة بين البلاد الفقيرة . باختصار إن نظرية التبعية هذه ستكون مفيدة في مخاطبة الجماهير البسيطة و تعزيز برامج سياسية معينة أكثر منها في تحليل عمليات التنمية و التخلف . هذا يعود بنا إلى المدرسة الثانية التي يمكن تصنيفها أيضا ضمن نموذج التبعية البنيوية و التي يطلق عليها نظرية النظم العالمية ،و التي تتبنى نظرية أو نموذج التنمية بالمشاركة الذي أشرت إليه سابقا ، برز من مناظري هذه المدرسة الكبير كاردوسو و فاليتو و جيرفي و ايفانز .وجه هؤلاء الكثير من الانتباه إلى الفروق بين دول المحيط على صعيد كل من الخبرات التاريخية و العوامل الداخلية ، وعوضا عن وصف بسيط لحالة التبعية تساءل الكثيرون : ما الآليات الاقتصادية و غير الاقتصادية التي خلدت هذه العلاقة ؟. فمثلا أثبتوا أن تأثير المركز لم يكن من نسق واحد على النخب في دول المحيط ، بل هناك إيفانز الذي وصل إلى نتائج هامة لإمكانيات وجود سلوك استقلالي لدول المحيط ،وهذه الأعمال كانت بارزة في تجربة البرازيل تحديدا .هذا لا يعني أن نظرية النظم العالمية تعطي إجابات مقنعة نهائية و هناك الكثير من النقد الذي يمكن أن يوجه لها أيضا و لكنه سيكون نقدا بعيدا عن العودة إلى الطرح البسيط الوصفي لنظرية التبعية كما يكررها بعض الكتاب العرب بلا ملل ولا تعمق ،وهذا النقد يقوم على آليات منهجية ، وهي عموما بعيدة عن موضوعنا ،وربما تمكنت من العودة إليها يوما .

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	المأساة القبطية الحديثة	قطقط	2	1,040	10-25-2009, 03:08 AM آخر رد: يجعله عامر
	إنعاش العقل الإسلامي بحقن المحاليل الحديثة في شرايينه	arfan	10	1,752	05-08-2007, 02:21 PM آخر رد: مالك
	دعوة لاستماع محاضرات د.عبد الكريم بكار .........الذي له فضل كبير في الصياغة الحديثة للعقل المسلم .	داعية السلام مع الله	9	2,363	09-20-2006, 06:24 PM آخر رد: داعية السلام مع الله
	القتل لمن يترك الصلاة ...في الصومال الحديثة !!!	نسمه عطرة	11	1,818	07-09-2006, 11:53 AM آخر رد: نسمه عطرة
	فساد آل الحاكم "مافيا سوريا الحديثة"	أمجد	3	1,672	03-16-2006, 06:31 AM آخر رد: EBLA