{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
الهرمنيوطيقا
لايبنتز غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 409
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #3
الهرمنيوطيقا
الهرمونيطيقا والفكر المعاصر


عمارة الناصر



1 - من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا..اكتشاف الذّات:


"إن العلم لا يفكر"( )، بعبارة هيدغر ذاته، تدشَّن مرحلة حاسمة في تاريخ الفلسفة والعلم معا، إذ أعادت صياغة الإشكالية والرؤية المتعلقتين بالعلاقة "ذات -موضوع"، فبنية العلم تعتمد على قاعدة الذّات الثابتة والتي تضمن ثبات الحقائق والتصورات والاستنتاجات، وعلى هذا أيضا تبني نظرية المعرفة وضعها في تقدير وتفعيل نشاط الذّات، "فوضع الذّات هو الحقيقة الأولى بالنسبة للفيلسوف، على الأقل بالنسبة لهذا التراث الواسع للفلسفة الحديثة التي بدأت من ديكارت وتطورت مع كانط، فيخته والتيار التأملي (..)، فبالنسبة لهذا التراث (..)، وضع الذّات هو حقيقة تعطى بذاتها، لا يمكن أن تكون لا مبرهنة ولا مستنبطة، إنها في الوقت نفسه وضع للكينونة وللفعل معا، وضع لوجود وعملية التفكير"( )، أي أن وضع الذّات معد بشكل مكتمل للتمثل والتصور ومنه إنشاء جميع عمليات العقل على مستوى واحد من الظهور وتدعو ذلك بالابستيمي، "الابستيمي بما هو منتوج مشروع خطابي عادي، يعطي مكانا لكل المقولات المأخوذة من أجل الصدق بواسطة كل ما يشارك في المشروع نفسه"( ). وكذا فإن "نظرية المعرفة تنبني على فرضية أن كل المساهمات لها المسألة الاستدلالية نفسها والدلالة نفسها"( )، وهذا الثبات في مستوى الاستقبال لصور العالم وظواهره هو ما تشكك فيه مقولة هيدغر وتجعله معرضا للوهم، وقابلا للتفكك ،فإذا كانت نظرية المعرفة تقيم بحثها على بنية موحدة من الوجود والظهور بالنسبة للوعي وهو يؤسس لمفاتيح العلم الموضوعي، لأفعال البرهنة والاستنباط…، فإن ما ترك شرخا في الوعي العلمي هو مستوى الظهور نفسه، إذ العلم يستقبل ويلاحظ ما هو قابل للملاحظة والظهور، دون أن يتمثل أو يتأوَّل، أي دون أن "يفكر"، ولأن الأشياء ليست كلها قابلة للظهور، فإن "كل شيء يمكن البرهنة عليه، أي استنباطه من مبادئ وأوليات نمتلكها، ولكن قليلة هي الأشياء التي يمكن فقط إظهارها، أي تحريرها من خلال فعل مؤشر يدعوها للمجيء إلينا وهي مع ذلك قلَّما تسمح بهذا الإظهار"( )، وفعل الإظهار هو فعل محايث لفعل التفكير، أي بالعمل على الاقتراب من الموضوع بتصفية الذّات من أوهامها وتزويدها بقاعدة وجودية لتثبيت الحقيقة.

إن الاقتراب المنهجي الذي تفترضه نظرية المعرفة يقوم على اعتبار الأشياء معطاة بشكل نهائي، وكذا على أن الذّات الثابتة هي مصدر الوعي المباشر بهذه الأشياء، وعليه يكون الإشكال محل الدراسة بالنسبة لنظرية المعرفة هو تطوير الفهم المرتبط بعلاقة هذه الذّات بموضوع معرفتها، غير أن استقرار وضع الذّات في هذه العلاقة لم يعد ممكنا لأنها "وبالتحديد غير معطاة لا في بديهة نفسية ولا في حدس ذهني ولا في رؤية صوفية"( ).

وبهذا تتحول الذّات إلى موضوع للمعرفة، لا تستطيع نظرية المعرفة احتواءه بما تفترضه من منهجية في الاقتراب المعرفي، ومنه تبرز ضرورة "الكشف عن الضمنيات الأنطولوجية للتوظيفات الداخلية الموضوعة تحت عنوان تأويل الذّات"( )، فالعلاقة المعرفية تصبح أكثر عمقا، حيث يتم الكشف عن الجدل الداخلي بين الذّات وما يشكل خارجا بالنسبة لها أي عن "تحديد للإنية عن طريق جدلها مع التغاير"( ).

لقد ظهر أن مشكل الحقيقة ليس في البنية المنطقية الداخلية لها ولا في توافق قوانين العقل مع قوانين الأشياء، أي أن مشكلها ليس ابستمولوجيا بقدر ما هو مشكل هيئة الوجود الذي ترتكز عليه، إذ أن نظرية المعرفة تعجز عن إظهار هذا الوجود لكثير من مواضيعها ومنه فإنها معرضة لوهم المعرفة، ويرى سالنسكي (Salanskis) "أن واجب الإجابة عن أسئلة مثل: ما هو اللانهائي ؟ ما هو المستمر ؟ والتي ظلت تقلق الرياضيين لألفي سنة، يتعلق بذات تستوطن وضعا هرمينوطيقيا"( ).

فالعودة إلى وضع الذّات في علاقة المعرفة هي العودة إلى صياغة الإشكاليات المعرفية ذاتها بحيث تطرح قضية المعرفة في سياق خطاب معرفي قابل لأن يكون موضوعا للتأويل.

إن تغييب مستوى الوجود في المعرفة أفرز خطابا غامضا عن الأشياء، ولإعادة هذا الخطاب إلى مستوى الوضوح والتبيين استوجب تأويل هذا الخطاب والبحث عن الدلالات العميقة لعلاماته وإشاراته.

وبهذا اتضحت مسألة اقتراح استبدال "المنهج العلمي" أو يمكن "التحليل الفلسفي" بنوع جديد من المناهج، وهي مهمة الهرمينوطيقا"( )، لأن المنهج العلمي لم يصل إلى شمولية تامة في المعرفة بفعل حدوده الناشئة من حدود المنهج نفسه، أي من القواعد والأنظمة والمقولات التي تفرغ الذّات من محتواها لتجعلها ذاتا عارفة دون أن تكون فاهمة أي مفكرة في هذا الذي تعرفه، مؤوّلة لما لم يظهر لها أثناء المعرفة، دون أن تكون منتجة لتمثلاّتها الداخلية عن الأشياء.

إن الهرمينوطيقا تأتي لتتوّج الجهد الظاهراتي الهوسرلي في الاستعاضة عن المناهج العلمية في العلوم الإنسانية بمقاربة معرفية أعمق وأشمل وهي تنطلق من فهم الذّات والإطاحة بالأوهام المحيطة بها، ولذا "وإذا ميزنا بين الهرمينوطيقا وبين نظرية المعرفة فإنه لا يوجد أي سبب لتخيل أنّ الناس يجدون صعوبة كبيرة في فهم أنّ الأشياء توجد، ببساطة، وبأنّ الهرمينوطيقا ضرورية، لأنّ الناس هم الذين يخاطَبون وليست الأشياء"( )، وعليه فإن الهرمينوطيقا تعيد الكشف عن الذّات التي تستند إليها عمليات المعرفة.

إنّ نظرية المعرفة تستند إلى بديهة أنطولوجية، هي أنّ الأشياء تدرك من حيث هي موجودة لكن "الرهان، ليس تحديد ماهية الوجود ككينونة للكائن، ولكن كفكر للوجود الذي يصبح فكرا للوجود في بعض أشكاله بلا –أو- قبل الكائن: لكن هذا الوجود –الأكثر أصالة- لا يصبح مدركا كماهية، وهنا يمكن فهم الهرمينوطيقا كبحث وتحر عن هذه الماهية"( )، فالمعرفة تحتاج إلى إثبات وجود موضوعاتها من حيث الماهية، أي من حيث تمثل الظاهرة المحضة في كليتها من خلال الفكر، والفكر كما يرى هيدغر، "يتمم العلاقة بين الوجود والماهية"( )، ففي ثلاثية الفكر -الوجود- الماهية تنشأ أرضية ظاهراتية للوعي بالأشياء أي لرؤية العالم بشكل لا يدع الوهم يتسرب إلى الذّات، حيث كان الفكر "ومنذ زمن، يجنح إلى أرضية جافة"( ).

لقد ظهر أنّ الأشياء لا تعطى للمعرفة في شكل مباشر بل إنّها تتوسط باللّغة، إذ أنّ الوعي لا يقوم باستقبال العالم إلا بما يدركه عنه من تعابير وأسماء، فالعالم يعطى كخطاب، ولئن كان كذلك فالسؤال المهم يكون: ما مدى توافق هذا الخطاب مع أشياء العالم ؟ أي إلى أي مدى يعبر خطاب اللّغة عن مواضيع المعرفة ؟ إلى أي مدى تستطيع اللّغة حمل تمثلاّت الحقيقة إلى الفهم ؟ وعليه اتضح أنّ عملا آخر مطورا عن نظرية المعرفة سيبحث في هذه الإشكاليات هو عمل الهرمينوطيقا.

في نظر هيدغر نحن "لا نفكر بعد، لأنّ ما يجب التفكير فيه يُعرِض عن الإنسان، وليس لأنّ هذا الأخير لا يلتفت بما فيه الكفاية نحو ما يجب التفكير فيه، إنّ ما يجب التفكير فيه يُعرِض عن الإنسان يتوارى عنه، ويبقى محتفظا بنفسه، إلاّ أنّ هذا الذي اختفى محتفظا بنفسه قد كان دائما ولا يزال ماثلا ومعروضا (…)، كيف يمكننا على أقل تقدير أن نعرف ولو القليل عن هذا الذي ينسحب بهذه الكيفية ؟ بل كيف يمكننا فقط أن نحصل على فكرة تسميته ؟"( ). فالارتباط وثيق بين العالم واللّغة التي لا يمكن حمل العالم إلى الفهم إلاّ وفق تعبيريتها، فلفهم العالم يجب فهم اللّغة أولا، وإذا كانت اللّغة هي إنتاج ذاتي فوجب أيضا فهم العلاقة والدينامية الكامنة بين الذّات واللّغة، وعليه فإن مقاربة العالم هي مقاربة اللّغة التي تفتحه.

لقد كادت نظرية المعرفة أن تغلق الفضاء الثقافي الذي ينفتح فيه المعنى على الذّات، كما كاد يفعل المنطق الأرسطي ذلك، لذلك تأتي الهرمينوطيقا "لتعبّر عن الأمل في انفتاح الفضاء الثقافي من خلال انحطاط نظرية المعرفة"( ) أي من خلال انحطاط الفكر المتعلق بمعرفة الأشياء المعطاة للمعرفة، ومنه يظهر الفرق المبدئي بين نظرية المعرفة والهرمينوطيقا حيث: "الهرمينوطيقا مقاربة للمجهول ونظرية المعرفة مقاربة للمعلوم، فالأولى مقاربة للفكر والثانية مقاربة للطبيعة"( ).

إنّ نظرية المعرفة تضع حدودا للشيء الذي تتم معرفته، من خلال حدود المنهج ذاته، وبهذا هي تنتج وهما باكتمال صورة الموضوع في الوعي وكذا باكتمال الذّات، لتعمل على رصد العلاقة بينهما ومقاربة ظروف نشأتها ومجالات تحركها داخل التفكير العلمي غير أنّ "السؤال المنسي هو سؤال معنى الكينونة"( ) أي سؤال حقيقة ما نخضعه لمنهج المعرفة، سؤال الكينونة ومعناها الذي أغفلته نظرية المعرفة وبنَتْ حقائقها على أساس البديهيات والمسلمات والفرضيات والمبادئ التي تفلت من سؤال الكينونة لتأخذ مكانا في الماهيات الأساسية للعلوم، وعليه فإنّ الهرمينوطيقا تضطلع بمهمة تفعيل سؤال الكينونة ذاك، "الهرمينوطيقا ليس باعتبارها "وريثا" لنظرية المعرفة، ولا تتحدّد كمادة تعليمية ولا كمنهج يسمح لنا بالنجاح هنا حيث تخسر نظرية المعرفة، وليست برنامجا للبحث"( ).

وعليه فإن الانتقال الكوبيرنيكي من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا حمل معه مجموعة من التحوّلات الفلسفية والعلمية على مستويات: المنهج والفكر، وكذا رؤية العالم وحقيقة الكائن ومعنى الكينونة وصورة الذّات في نشاطها للإمساك بالحقيقة وبحثها عن مبدأ عملياتها الذهنية من معرفة وإرادة وتأمّل وهو الجهد الذي يعيد بناء زاوية جديدة لرؤية الحقيقة وهو جهد التأمل في "الإشكالية الهرمينوطيقية الذي يؤكد من الآن، على الكينونة -في- العالم وعلى الانتماء المشارك الذي يسبق كل علاقة تقيمها ذات فاعلة بموضوع يواجهها"( )، فمسألة الكينونة في العالم، هي مسألة الكائن ذاته، إذ أنّ تمثلاّت هذا الكائن العالم هي موضوع المعرفة وليس العالم ذاته، لأنّ العالم يعطَى في شكل علامات ورموز على الكائن تمثلها وتحليلها وعليه يبدو أنّ "الطريق القصير، هو أنطولوجية الفهم، على طريقة هيدغر، والهرمينوطيقا مجالا لتحليل الوجود، الدزاين، والذي يوجد بالفهم"( )، أي مجالا لتمثل حقيقة العالم الذي يوجد ثم يأخذ ماهيته ثم يُعرف.

إنّ التحوّل من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا يبدأ بتحويل الطبيعة -الوجود- الكائن وباقي مواضيع المعرفة إلى نصوص بواسطة الكتابة أي بواسطة تثبيت ما يجب معرفته، واستدراجها إلى المكان الذي تسكن فيه أصالة وجودها وتسند إليه ماهيتها وهو المكان نفسه الذي يثوي فيه الفهم وينتج عملياته وجهده من أجل الإمساك بالمعنى الذي تفرزه الكينونة لذاتها، وبهذا يقع التحام الفهم بما يشكل خارجا له ويتم استدعاؤه بالتمثل وتطوير صورته بالتأويل وتخليص تأويله من الوهم بالهرمينوطيقا، فما هي الهرمينوطيقا؟

2 - مفهوم الهرمينوطيقا:


إنّ التحوّل من الطبيعة إلى النّص افترض طريقة جديدة للتعامل مع معطيات هذا التحوّل، وهي المعطيات التي يتمّ إنجازها ضمن خطاب من الكلام والكتابة وعليه يكون المعطى الأساسي في فهم وشرح وتفسير العالم المعطى ضمن الخطاب هو معطى "المعنى" ومسألة المعنى المستهلكة في القراءات المنطقية والنظرية والمنهجيات الإنسانية أصبحت تُغرق معها ملامح الوضوح والبيان وتلفها بالوهم الناتج عن فكرة الإنجاز التام للّغة الحاملة للمعنى وهو ما يستدعي في كل مرّة قراءة لتحرير هذا الخطاب من الأوهام الثاوية في شروخ لغته ودلالاته وتخليص المعنى المغمور تحت رتابة الكتابة والمختزل في حدود العبارة وتركيبيتها والمُقلَّص في بنية القصدية والجهوية، وكذا نفيه في المنطقة الواقعة في الفرق بين القارئ والنّص، بين القراءة والكتابة، بين الكلام والإصغاء.

"في مقاربة أولية، يمكن تعريف الهرمينوطيقا الفلسفية –حسب ريكور-: كتأمّل حول عمليات الفهم الممارسة في تأويل النّصوص"( ). ولئن تميزت الهرمينوطيقا هنا بكونها فلسفية فلأنّها ارتبطت في بدايتها بتفسير وتأويل النّصوص الدينية (الإنجيل). وترتبط الهرمينوطيقا كفن للتأويل والفهم بالنّص كموضوع ينوب عن العالم الذي تحمله دلالاته ورموزه وعلى التأويل أن ينجز الخطاب الذي تحمل فيه اللّغة العالم إلى النّص "فالهرمينوطيقا هي نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النّصوص هكذا ستكون الفكرة الموجَهة هي فكرة إنجاز الخطاب كنص"( )، والاهتمام النظري بالفهم كونه يمثل تقاطع التمثلاّت التي ينتجها العالم عن نفسه والتمثلاّت التي تنتجها الذّات عن هذا العالم.

وتمثلّ الهرمينوطيقا النشاط الأكثر فعالية لجهد الذّات في تحصيل الحقيقة وتخليصها من الوهم الذي تفرضه شروط إسكان هذه الحقيقة في الخطاب المتصل بالكتابة وتوسط الرموز وغموض العلاقات، وعليه تقوم الهرمينوطيقا بتجهيز الفهم بقاعدة أنطولوجية ذاتية لاستقبال خطاب الحقيقة ضمن ظروف تاريخيتها فهي تمكنه من مزامنة اللّحظة التي تتمفصل فيها الكتابة مع المعنى، دون افتراض هوية مأخوذة من المنطق أو من الميتافيزيقا "فأهمية وشمولية الهرمينوطيقا متأتية من كون الإنسان حيوان منتج للعلامات (…) وتأويل وفهم العلامات هما من أجل هدف واحد هو توفير قاعدة موضوعية للفهم، وضمان (…) حقيقة هرمينوطيقية، والتي يجب أن تختلف عن الحقيقة المنطقية البسيطة والحقيقة الميتافيزيقية"( )، فهي تستمد فاعليتها من تحليلها للوجود الذي يسبق المعنى وإلحاق الفهم به، ومنه تتمكن من فهم العالم من خلال استعادة علاقة الفكر بالوجود إلى سكن تستطيع الذّات أن تثبّته لتراقبه وترصد حركة الدلالة فيه، هذا السكن هو اللّغة ولكي تحمل اللّغة الوجود ذي الدلالة يجب أن تكون خطابا. "فمهمة الهرمينوطيقا هي إثبات أنّ الوجود لا يصل إلى الكلام، المعنى وإلى التفكير إلاّ بالصدور عن تفسير متواصل لجميع الدلالات التي تحصل في عالم الثقافة، ثم أن الوجود لا يصبح ذاتا إنسانية (.) إلا بامتلاك هذا المعنى الذي يسكن "خارجا" في المؤلّفات، المؤسسات وآثار الثقافة حيث تموضع حياة الفكر"( )، فهي تمتلك حمولة فلسفية تهدف إلى الإمساك بالكائن لحظة تعبيره عن الوجود، وهذا بتأويل هذا التعبير، وكذا تأويل العلامات التي ينتجها.

وعليه فإنّ مهمّة التفكير تتغيّر إلى هدف آخر في رصد المواضيع من أجل المعرفة إلى رصد الكينونة من أجل الفهم أي "التفكير في الوجود كفعل للفهم والتأويل، كفكر وليس ببساطة كموضوع ومنه فإنّ الموضوعية ستكون مبنية على ذاتية الوعي"( ) فالذّات هي من تنتج موضوعها وتتمثلّه.

3- الهرمينوطيقا وعالم النّص: من رؤية العالم إلى قراءة العالم:


لقد أعاد هيدغر توجيه الفكر إلى أصالة الوجود ومنه العالم الذي يتحرك فيه، فهو يرى "أنّنا لم نجد لحد الآن مدخلا إلى كينونة الفكر الخاصة به بحيث نقيم فيها، وبهذا المعنى فإنّنا لا نفكر بعد على نحو خاص (..) لم نتمكن لحد الآن من التعرف بما فيه الكفاية على العنصر الذي تحرك فيه الفكر من حيث هو فكر"( )، فإذا كان الفكر لا يستطيع أن يمسك بنفسه من حيث هو فكر، أي أن يتمثل نفسه في اللحظة نفسها التي يقدّم جهدا هو محلّ تعبير وإنتاج للعلامات، فإنّ الفكر يقوم بخلق عالمه الذي يتحرك فيه حيث يتم تثبيت تعبيرات جهده من أجل الوجود، هذا العالم هو عالم النّص، حيث تقوم الكتابة بتثبيت الدلالات والعلاقات التي يولدها الفكر وهو يفكر مع الوجود "فالكتابة وحدها يمكنها أن تحيل إلى عالم ليس هنا بين المتخاطبين، إلى العالم الذي هو عالم النّص والذي مع ذلك ليس في النّص"( )، ففي عالم النّص يتم استدعاء معنى الكينونة وتثبيته بالكتابة لتتمكن الذّات من تأويله وفهم رموزه.

وعليه ينتقل الفكر من "رؤية العالم" على اعتبار أنّ العالم لا يتقدم إلى الفكر إلا بتوسط اللّغة التي تنتقل من حامل لهذا العالم إلى العالم نفسه، والتأويل عندئذ هو فك رموز هذه اللّغة وتحرير المعنى من فعل الكتابة وفتح عالمها على الذّات، "فحسب دلتاي، التفسير والتأويل هما فن فهم التمظهرات المكتوبة للحياة"( ). وبهذا فإن تعلق الهرمينوطيقا بعالم النّص الذي هو عالم الكتابة هو من أجل تشييد الوجود الذي يوجد بالفهم، أي من أجل إسكان الكائن داخل عالم الحقيقة الذي لا ينفصل عمَّا يفكر فيه، أو بما سمّاه هيدغر بالعنصر الذي تحرّك فيه الفكر من حيث هو فكر، غير أن النّص يقيم حدودا للعالم الذي يحمله من خلال صرامة الكتابة ومشروطية تعبيريتها أي من خلال رابطة الدال والمدلول التي تختزل الكينونة إلى صيغة المعنى، وعليه تكون وظيفة الهرمينوطيقا هي "عزل المدلول عن الدال عن طريق التأويل والتعليق والقضاء على الكتابة عن طريق الكتابة الأخرى التي هي القراءة"( )، وبذلك هي تعيد إنتاج عالم آخر للمعنى، حيث يشكل النّص مفتاحا له من خلال رموزه ومعانيه المزدوجة التي تعطى كنقطة تمفصل بين عالم النّص المؤلِّف وعالم النّص المؤوِّل وتغدو كل قراءة تأويلا لأنّها حسب عبارة دريدا تقضي على الكتابة، لتفتح عالم النّص على الذّات والوعي.

فالهرمينوطيقا تتخذ من الكتابة وضعية أولى لفتح الذّات على الوجود، بواسطة تأويل الرموز التي تتوسط العالم والفهم، فعالم النّص هو العالم الذي تعطى فيه الحقيقة للفهم وكذا لرصدها عن قرب في تثبيتية الكتابة وعليه تكون مهمّة الهرمينوطيقا الأولى حسب ريكور: "البحث داخل النّص نفسه، من جهة، عن الدينامية الداخلية الكامنة وراء تبنيُن العمل الأدبي ومن جهة ثانية، البحث عن قدرة هذا العمل على أن يقذف نفسه خارج ذاته ويولِّد عالما يكون فعلا هو "شيء النّص" اللاّمحدود، إن الدينامية الداخلية والإنقذاف الخارجي يكوِّنان ما أسمّيه عمل النّص، ومن مهمّة الهرمينوطيقا أن تعيد تشييد هذا العمل المزدوج للنص"( ).

فالمهمة هي فهم فعل الإنقذاف في النّص لتوليد عالم شيء النّص، الذي هو فعل الانتقال من الكتابة إلى القراءة، وارتباط التأويل بالنّص الأدبي هو ارتباط تاريخي ومعرفي إذ أنه النّص الأكثر شحنا بالدلالات وأفعال التخييل والترميز وانفتاح الذّات، ولذلك يرى غريش (Grisch)، "أن الكلام الشعري، هو الأصل والمكان الأول للتأويل"( )، وبهذا ظهر أن تأويل النّص هو في الوقت نفسه تأويل للذات وتطوير لجهدها من أجل الانتماء إلى الوجود.

4- الهرمينوطيقا والمنهج:

عرفت العلوم الإنسانية –منذ هوسرل- انعطافا هامّا داخل المقاربة المنهجية لمواضيع المعرفة، حيث فتحت الظواهرية عالم الذّات على الوجود الأصيل للظواهر، ولم تعد هذه الأخيرة إلا تمظهرا لحياة نفسية تعمل على تأطير الظاهرة من الداخل وتمثّلها وتأويلها من خلال ما تقدمه من إشارات وعلامات عن نفسها، ولئن كانت الفينومينولويجا ومن خلال عمليات التعليق والتصفية الماهوية والاختزال، تعد منهجا للعلوم الإنسانية وللحصول على الحقيقة في شفافيتها فإن "الهرمينوطيقا ليست "منهجا للحصول على الحقيقة"، الهرمينوطيقا في نظر غادمير ليست منهجية للعلوم الإنسانية ولكنها محاولة من أجل فهم ما في الحقيقة (..) وما يربطها بكلية تجربتنا في العالم"( )، ففهم العالم وتأويله من خلال اللّغة التي تحمله يستند إلى ذات واعية بوجودها الساكن في هذا العالم نفسه، وعليه يمكن طرح السؤال: هل تتضمن كل محاولة للحصول على الحقيقة وفهم تمظهراتنا في الحياة المكتوبة على منهجية ما ؟

يرى غادمير أنه "ليس ضروريا وضع منهج للفهم العلمي، الذي يهمنا هو المعرفة والحقيقة، فالظاهرة التأويلية ليس –مطلقا- مسألة منهج"( )، هذا لأن المنهج يتحول إلى غاية معرفية في حد ذاته كما هو الحال بالنسبة للبنيوية، وهذا ما يزيد في المسافة ويكثف العماء الذي بين الذّات وموضوعها، وبالعودة إلى تحليل الوجود الذي تستند إليه الذّات "يمكننا الشك في وجود تقنية للفهم"( )، ففي حين تظن المناهج العملية أنه بإمكانها رصد موضوع المعرفة في كل تمظهراته واستدعائه خطوة خطوة إلى فهم عميق وواضح بواسطة تعليق الذّاتية، فإن هذا الموضوع كما يرى هيدغر "لا يمكننا أن نرغمه من جانبنا على المجيء وذلك حتى في أفضل الحالات حيث ندركه بعمق ووضوح، لم يبق بوسعنا إذن ما نعمله سوى أن ننتظر حتى يتوجه إلينا هذا الذي يجب التفكير فيه ويقال لنا"( )، وهذا الانتظار ما هو إلا التأمل الداخلي لما قد استقر في الذّات، أي التفكير فيما تم رصده بالقراءة وهو عمل التأويل، غير أن الانتظار لا يعني بأي حال من الأحوال التملص والابتعاد عن التفكير من حين لآخر، بل (الانتظار) هنا معناه: أن نوجه نظرنا صوب كل الجهات وداخل ما قد فكر فيه بحثا عن اللامفكر فيه الذي ما يزال مختفيا هناك، إذ بمثل هذا الانتظار وحده نكون مزاولين للتفكير ومتجهين نحو "ما يجب التفكير فيه". لكننا في هذا السير والتوجه يمكننا أن نحيد عن الطريقة بحيث لا نبقى مرتبطين بهم الاستجابة إلى هذا الذي تجب العناية به"( ).

وعليه يكون التأويل بحثا في ما قد فُكِر فيه عن اللامفكر فيه عبر أفق الانتظار الذي هو إشارة وإحالة مع إمكانية الحيد عن الطريقة، عن المنهج، ويتم الاشتغال على اللّغة بالفكر بصفة مباشرة أي عبر أنطولوجية الفهم و"في الفكر يأتي الوجود إلى اللّغة، اللّغة هي سكن الوجود، وفي حمايتها يعيش الإنسان"( ) ففي اللّغة لا يتم البرهنة على شيء، كما أن الأشياء لا تظهر بشكل منهجي بالنسبة للوعي.

فالهرمينوطيقا تقوم على استراتيجية تنفلت من المنهجية، إذ تقوم باستدراج الوجود إلى اللّغة لتستطيع الإمساك بالكائن وفكره من خلال إشاراته، علاماته وإحالته داخل عالم اللّغة أي عالم النّص، ومن هنا تكون "مقولة "العلم لا يفكر" هي إذن لا هرمينوطيقية العلم"( ) أي أن منهجية العلم تمنعه من التفكير في ما يتم معرفته، ومنه فإن ما يتم معرفته يكون قابلا للتوهم دون اكتشاف ذلك نظرا للاطمئنان إلى حماية المنهج الذي يقفز فوق الكينونة الأصيلة للمعرفة وللكائن العارف وعليه "فإن مشكلة الحقيقة ليست مطلقا مشكلة منهج، لكنها تجلي الكينونة لكينونة ما، حيث الوجود متضمن في فهم الكينونة"( )، فالهرمينوطيقا مطورة عن الفينومينولوجيا ترمي إلى شمولية رؤية الفهم لكينونة العالم من حيث هو وجود ملحق باللّغة.

5 - مفهوم النّص: وساطة الرمزي وجدل الكتابة/ القراءة:

إذا كان العالم لا يُفهَم إلا بواسطة ما نمتلكه عنه من لغة و"ليست لدينا إمكانية حدسية لتمييز مختلف الأشكال الذّاتية للوعي"( )، فإن الإمكانية المتوفرة لإنشاء علاقة بين ذاتية الوعي وعالم اللّغة تتم في النّص، حيث يشكل النّص الوساطة بين الذّات وبين العالم من خلال رمزية لغته، لذلك يرى ريكور أن "الرمزي هو الوساطة الشاملة للفكر بيننا وبين الواقع، إنه يعبر قبل كل شيء عن لا مباشرية فهنا للواقع"( ). فاستحالة العالم إلى نص لا يعد مرحلة نهائية في مستويات الاقتراب من الحقيقة، بل إن الحقيقة تصبح أكثر كثافة ورمزية داخل النّص لأنها تستحيل إلى رموز معروضة للفك والتأويل وفي النّص تعبر عن تعددها وكثرة وجوهها (الحقيقة)، فالرمز مصاحب لكل تعبير عن الحقيقة.

يلاحظ ريكور "أن كلمة نص تطلق على كل خطاب ثم تثبيته بواسطة الكتابة [بحيث] يكون التثبيت بالكتابة مؤسسا للنص نفسه، النّص هو المكان الذي يأتي إليه المؤلف. إن إبعاد المؤلف من طرف نصه الخاص هو ظاهرة القراءة الأولى التي تطرح، دفعة واحدة، مجموع القضايا المتعلقة بعلاقات الشرح والتأويل، وهذه العلاقات تولد بمناسبة القراءة"( )، النّص هو الغيابات الرمزية التي تنتشر بشكل مختلف ولا منطقي داخل الذّات ويتم رصدها بواسطة الكتابة، للكشف عن ما تفعله الذّات أو يتجاوزها لحظة الانتقال من فكرة لأخرى، "النّص هو تذكير".

في النّص يتحقق الانتظار الهيدغري "للذي يجب التفكير فيه ويقال لنا"، إذ أن "فهم نص ما، هو أن نكون مستعدين لتركه يقول شيئا ما، لأن الوعي المشكل في التأويل يجب أن يكون مفتوحا بسهولة على تغاير النّص، يعني أن نضع في الحسبان: أننا مسبوقين، بكون النّص ذاته يعرض في تغايره، ويمتلك كذلك إمكانية معارضة حقيقته العميقة( )"، إذن فالنّص يتحول إلى "كائن يقول" وكذا يعبر عن كينونته الخاصة، وهي كينونة العالم الذي تحمله لغته، فعبر الرمزية يتم الجدل المثمر بين الكتابة والقراءة، الكتابة تثبت تمثلات العالم وتكثرها عبر الرمز والقراءة تقوم بفك الرموز للدخول إلى العالم الذي تحمله الكتابة، وعبر هذا الجدل تقوم الذّات بالانفتاح على نفسها أي بإيجاد الكينونة التي تسند إليها فهم العالم.

يقوم النّص بإبعاد مؤلفه، عبر تغايره، ليعرض قضاياه مع إمكانية معارضته لحقيقته، غير أن النّص يطرح مشكلة الفرق بين عالم النّص وعالم الواقع، وهل تستطيع الكتابة أن تعلق هذا الفرق وتلغيه ؟

ابتداء، يوجد فرق مبدئي بين النّص والواقع، كالفرق بين الكتابة والظاهرة، وبما أنه "لا توجد رمزية قبل الإنسان الذي يتكلم حتى و إن كانت قوة الرمز متجذرة بعمق في تعبيرية الكون"( )، فإن اللّغة تقوم بترميز العالم والواقع وحمله عبر النّص إلى الفهم، وعلى الرغم من هذا الفرق فإنه "وإذا كانت اللّغة ليست لذاتها وإنما لعالم تفتحه وتكتشفه، فتأويل اللّغة ليس متميزا أو مختلفا عن تأويل العالم"( )، وبهذا فإن مهمة النّص هي تقريب الذّات من العالم عن طريق القراءة المفصلة للذات وللكتابة حيث يمكن تشكيل الحقيقة التي لا تغفل في جوانبها أنها تستقر في الذّات نفسها، لكن هذه الحقيقة معرضة للتوهم حينما تتم المماهاة المطلقة بين تأويل العالم وتأويل اللّغة إذ إن "مشكلة التأويل (..) ليست لا الخطأ بالمعنى الابستمولوجي، ولا الكذب بالمعنى الأخلاقي ولكنه الوهم"( ).

وعليه يرتبط التأويل بالنّص لتخليص المعنى والحقيقة من الوهم أو للتقليل منه، ولعل المصدر الأول لهذا الوهم هو غياب القراءة بفعل المستوى التخيلي للمعاني.


6- النّص والبنية:

" ولكن بالعودة إلى تعريف النّص على أنه تثبيت بواسطة الكتابة، فإن هذا التثبيت يفترض قدرا من البنيات للحصول على المعنى، أي أن هناك انتظام للغة حتى تتمكن من تقديم معنى ما، وكما لاحظ غادمير "أن كل خطاب ثابت هو نص، فالنّص هو هذا الشيء الثابت والمستقر في ذاته، بواسطة الثبات الداخلي لبنيته"( ) فالكتابة في تثبيتها تفترض خطاطة للمعنى، أي أن النّص لكي ينتج دلالة ما فإنه يمر عبر خطوات يبني خلالها علاقات داخلية بين مكونات النّص، وفي اختلافها ينتج المعنى، إذ أنه "ليس هناك معنى إلا داخل الاختلاف، فعناصر النّص لا تأخذ دلالاتها ولا يمكن أن تكون معرفة دلاليا إلا بواسطة لعبة العلاقات، حيث نقوم بتسمية شكل المحتوى، وتحليلنا بنيوي لأنه يعطي الوضع لهذا الشكل –المعنى، ليس المعنى وإنما خطاطة المعنى"( )، فالنّص قبل أن يعبّر عن معنى ما فهو ينشئ مخططا لذلك، فالمهم بالنسبة للبنيوية ليس المعنى وإنما الكيفية التي نشأ بها هذا المعنى وهذه الكيفية هي العلاقات الداخلية والاختلاف في الدوال، فهي تقوم بوصف بنية النّص على اعتبار أن كل نص يمتلك بنية عامة لصياغة محتواه وطرح معانيه.

إن سؤال البنية بالنسبة للنص هو سؤال وصفي تصنيفي إذ أن "الأمر لا يتعلق بقول "المعنى" الصحيح للنص ولا بإيجاد معنى جديد لم يُقل، فالأسئلة الموجهة إلى النّص تحولت واستبدلت": ليس ماذا يقول هذا النّص ؟"، ليس "من قال هذا النّص "كيف قال النّص هذا الذي قاله ؟"( )، ويبقى البحث عن هذه الكيفية منقسما على احتمالين لانبناء النّص، فإما أن تكون البنية محايثة لفعل تشكّل النّص بالكتابة وإما أن يكون البحث (التحليل البنيوي) هو نفسه من ينتج هذه البنية أي أن البنية محايثة للقراءة دون الكتابة وهذا لمقاربة الفهم، بحيث تعوض عمليات الذّات كحامل للدلالة بعلاقات البنية الداخلية للنص، والمعنى بالمستوى المنطقي الوصفي. وفي الاحتمال الأول يرى غريماس (Grimas) في مقدمته لمؤلف هلمسليف (اHjelmslev) أن: "كل لسان موصوف حسب مصادره، يستحيل إلى بنية معتدّة بعلاقات لم تكن في دعامته المادية، وتبقى على الرغم من ذلك محايثة للشكل المعطى، يعني أنه (اللسان) لا يبرهن إلا بطريقة الوجود والعمل بهذا الشكل"( ).

فالنّص يتضمن- بهذا الشكل- بنية هي طريقته في الوجود والبرهان، وبدل البحث عن المعنى يتم الكشف عن البنية للإجابة عن سؤال: كيف قال النّص الذي قاله ؟، فبالانزياح عن المعنى يتم الكشف عن العلاقات الوظائفية التي تبني النّص، فـ"الإسقاط عن طريق البنية والمباعدة بالكتابة هما مجرد شرطين قبليين ليقول النّص شيئا معينا هو "شيء" النّص "اللامحدود"( )، ونلاحظ هنا أن النّص لا ينتج معانٍ وإنما "أشياء"، والفهم هو القبض على هذا الشيء الذي يقوله النّص بواسطة التماهي في البنية، وكذا الثبات في شكل الخطاب، حيث النّص "منظم بطريقة ما بحيث كل أجزاء الخطاب مرتبطة ببعضها، ومثبتة تحت شكل نهائي، غير قابل للتغير"( )، وهذا الوضع بالنسبة للخطاب هو ما يحمل اللّغة على اتخاذ بنية محددة داخل النّصوص، وبتكرارها يتراجع المعنى إلى شكل ثابت في مستوى الفهم، لأن "الفكر يفهم الفكر، ليس فقط بواسطة التماهي في البنية، وإنما بتكرار واستمرارية الخطابات الخاصة، أيضا"( ).

إن التأويل من خلال تفعيله للمعنى ورصده للكينونة، يحاول انقاذ النّص من الجفاف الدلالي الذي تفرزه البنيوية باعتبارها "كفلسفة ذات نسق شكلي، لا تحيل إلى الذّات المفكرة، تطور نوعا من العقلانية، ضد – تأملية، ضد – مثالية، وضد – ظواهرية، أي أن تفهم لا يعني أن تستعيد المعنى"( )، وعلى هذا يظهر أن هناك تلازما بين بنية الكتابة وبنية القراءة وأن كلتاهما محيلة إلى الأخرى.

7- النّص والعالم: سلاسل التأويل:

يوجد فرق جوهري بين النّص والعالم، حيث العالم صامت، والنّص مكتوب ومنطوق، وهو الفرق الذي يطرح إشكالية كيفية تحويل هذا الصمت إلى كلام والكلام إلى كتابة والكتابة إلى نص ؟ أي كيف يتحول العالم إلى نص ؟ أو بسؤال ديكا (Ducat): "كيف يمكن للغوس الإنساني أن يرتبط لا بعالم الأفكار، وإنما بالأشياء التي تظهر، أو التي يظهرها" ؟ )، فالنّص بهذا المعنى هو مستوى الإظهار بالنسبة للعالم، إنه يقوم بوظيفة تقليص المسافة الموجودة بين العالم واللّغة ويقوم التأويل بتقليص المسافة بين النّص والقارئ.

ونشوء المسافة بين الذّات والعالم هو ما يحتاج إلى جهد تأويلي، وهي المسافة التي تنشأ مع كل تغاير للذات حيث "أن الشيء الوحيد الذي يجب أن يقال حقيقة هو: أنا موجود، وكل لا أنا (Non moi) هو ظاهرة تخل إلى علاقات ظاهرية"( ) وبهذا يشمل العالم كل لا أنا، كل تغاير وعلى هذا ينشأ عمل مزدوج لإحالة العالم إلى النّص بواسطة اللّغة وإحالة النّص إلى الذّات بواسطة التأويل:

أ- من العالم إلى النّص: - في النّص يتم إمحّاء الأشياء وذوبانها في الدال المادي للكلام، وكذا امحّاء الدال في الصوت، حيث "الصوت، أشبه ما يكون بالامِّحاء المطلق للدال، تأثر خالص بالذّات، يتمتع بالضرورة بشكل الزمن، ولا يستعير من خارج ذاته، من العالم أو الواقع أيّ دالٍّ ثانوي، وأيّة مادة للتعبير"( ). فالتحول من العالم إلى النّص هو تحول إمّحائي، إمّحاء للظواهر في دوال اللّغة وامّحاء للدال في الصوت، ثم امّحاء للصوت في الفهم والفهم في الوجود، وكذا إمحاء الوجود في الحقيقة، وهي سلسلة التأويل التي تقوم بتحويل العالم إلى نص وإلى عالم هذا النّص المفتوح على تعدد الدلالية.

ب- من النّص إلى الذّات: - إن التحول من العالم إلى النّص يحمل معه المسافة الفاصلة بين الفهم والعالم كموضوع والتي تتحول هي كذلك، مع انتقال النّص إلى الذّات، إلى مسافة بين النّص وقارئه وعليه تقوم الهرمينوطيقا بفك رموز النّص وفتح عالمه على الذّات، وبهذا الشكل تتم قراءة العالم الواقعي قراءة متعددة الجهات والزوايا، فلئن كانت رؤية العالم وحيدة الجهة فإن قراءة العالم عبر النّص متعددة الجهات، "الهرمينوطيقا، كفن لتأويل النّصوص، كفن خاص، تعتبر أن المسافة الجغرافية، التاريخية، الثقافية، التي تفرق النّص عن القارئ، تنشئ حالة اللافهم، التي لا يمكن تجاوزها، إلا في قراءة متعددة، يعني تأويلا متعددا"( )، وعليه فإن العالم والنّص يشتركان في خاصية الثبات وكذا في خاصية المسافة، غير أن مسافة النّص قابلة للاختزال والتقليص عبر نشاط التأويل، وفي جهد الاختزال يتم تحريك العالم وكذا الذّات، وبهذا فإن صورة العالم تكون أقرب في النّص.

إن النّص يقوم بمقاربة الذّات عن طريق نشاط الفهم بدل المعرفة، لأن المعرفة إذ ترتبط بالعالم المعطى بشكل مباشر، تقوم بمقاربته بمفاهيم المعرفة التي تتضمن في برهانيتها أوهاما لمقاربة الظاهرة.

فمثلا "يصعب مماثلة: المستمر، اللانهائي، أو الفضاء مع نظام ما هو موجود، فهي تعتبر كغيبيات"( ) وبهذا يصبح التأويل ضرورة مُلحَّة لفهم مثل هذه المفاهيم التي لا يمكن أن توجد إلا على مستوى اللّغة أي النّص، وعبر النّص يتم البحث عن حقيقتها وتوفير قاعدة وجودية لتمثلاتها.



8 - التأويل والفلسفة:

مفهوم التأويل (الهرمينوطيقا):

يمكننا أن نعتبر أن إشكالية التأويل ولدت عمليا مع إشكالية الترجمة، إذ أن مسألة الاعتماد على الفيلولوجيا في ترجمة النّصوص، تطرح مشكلة الاختلال في المعنى المتعادل مع معنى النّص الأصلي، وعليه تكون مسألة التعادل في المعنى منشأ التأويل، فقد لاحظ غريش "Grisch" -مبدئيا- "بما أنه لن تكون هناك نظرية عامة للترجمة، فإنه لا يمكن الحصول على نظرية عامة لتأويل النّصوص الفلسفية"( ) ومنه فإن التأويل ليس منهجا نظريا وليس قانونا علميا للحصول على نتائج منطقية.

وفي مجالات تداول المصطلح يوضح ريكور أن: "كلمة" "Hermeneutik" تعطى في الألمانية كافتراض لتحديد مادة تعليمية تمنح الوضع العلمي الدقيق لمفهوم التأويل كاستعمال هرمينوطيقي محض ومفهمة واسعة للدلالة (Bedeutung)، أما في الفرنسية فيتعلق الأمر بالزوج (فهم/ أوَّل) ويحيل دون صعوبة إلى الزوج (Anselegen/ Verstehere)، أما مصطلح (Deutung)، فهناك صعوبة في ترجمته لارتباطه بتأويل الحلم الفرويدي "Traumdeutung"، وبهذا فإن الهرمينوطيقا مادة ألمانية"( )، وبهذا تتميز كلمة هرمينوطيقا عن كلمة تأويل بكون الأولى ذات كثافة فلسفية. ولأن "مصطلح "Herméneutique"، ومنذ إعادة اكتشافه في القرن الخامس عشر، ارتبط عمليا بمصطلح الأنطولوجيا "Ontologie""( )، فإن هذا المصطلح ينخرط ضمن الخط التأملي –الوجودي في الفلسفة، من جهة، وباللّغة كموضوع للتأمل وملاحقة الكينونة في التعددية الدلالية للنص من جهة أخرى. وارتباط الهرمينوطيقا بالانطولوجيا يجعل من الذّات العميقة حاملا رئيسيا للدلالة المطورة بواسطة الفهم، ونعتبر أنه منذ هيدغر، "الطريق الأقصر [إلى الحقيقة]، هو انطولوجية الفهم، (..) وتصبح الهرمينوطيقا مجالا لتحليل هذا الوجود، الدزاين، والذي يوجد بالفهم"( ) أي أن الهرمينوطيقا لا تبحث فقط عن وجود المعنى من خلال النّص وإنما معنى هذا الوجود كذلك.

فالتأويل بهذا المعنى يستغرق في كينونة الموضوع المؤوَّل على غرار الظواهرية، فاتحا بذلك عالم الذّات على عالم النّص دونما وساطة منهجية أي أنه "لا توجد نظرية في التأويل مستقلة عن تطبيقه، فهو ليس منهجا، بحيث نستطيع تعلمه وتطبيقه على حقل من الموضوعات، بل هو تطبيق لتجربة عملية معتمدة على التأمل الداخلي المحايث للحياة"( ).

هذه التجربة مسبوقة بمعطيات الفهم القبلية أي دون توسط أدوات منطقية أو إحدى نتائج ممارسة هذه التجربة نفسها، فالذّات التي تخوض هذه التجربة لا تدعي امتلاك النّص بصفته موضوعها، بل تقوم بالاندماج فيه مباشرة، جاعلة من الفهم والنّص كينونة واحدة، لكي تتمكن من الإصغاء عن قرب لما يقوله النّص، وعلى هذا تتميز الهرمينوطيقا عن التأويل، "فعمل الهرمينوطيقا ليس محدودا بعمل التأويل بمعناه البحث عن المعاني الباطنية للنصوص، بل إن مهمتها هي فك رموز النّص لتحرير الكلام الحي والذي هو معتَّم ومغمور أو مجمد داخل الكتابة"( )، ففي العمل الهرمينوطيقي تصطبغ الذّات بصبغة الكتابة لتتمكن من رصد الرموز داخلها وفكها.

الهرمينوطيقا والمنطق:

لئن كانت "محاولة دلتاي (Dilthey) ترمي إلى توسيع التأويلية إلى أبعاد أورغانون لعلوم الفكر"( )، فإنه وكما أشار غريش (Grisch) في مبحث الهرمينوطيقا والمنطق أنه "لا يوجد تأويل صحيح للنص، مطلقا، وإنما توجد تأويلات متعددة"( )، يعني أن التأويل ليس منطقا خاصا يمكن الحصول من خلاله على نتائج صحيحة.

وعليه تكون "الحقيقة الهرمينوطيقية"، حقيقة إمكانية، لا تخضع للمبادئ المنطقية، أي أنه لا يمكن أن نميّز بين تأويل صحيح وتأويل غير صحيح: "وبناء على هذا المبدأ يكون الكاتب هو أفضل مؤوّل لمؤلفه"( )، لأنه الوحيد الذي يمتلك المعنى الأصلي لهذا النّص، ويكون كل تأويل مغاير، تأويلا غير صحيح، وعلى هذا فالهرمينوطيقا لا تتخذ بنية منطقية، بل إن عملها مشتق من عمل النّص ذاته، وعمل النّص هوإنتاج الرموز وإصدار العلامات، وتقديم الإشارات، فهي لا تعتبر علما للتأويل بل فنا للتأويل، والفن معروض في جماليته لا في منطقيته، وفي مستوى تخييلي يمكن من خلاله معارضة الحقيقة الداخلية للنص والتي يفرضها المستوى الواقعي لتركيب العبارات والعلاقة المرجعية بين الدال والمدلول.

وإذا لم تمتلك الهرمينوطيقا منطقا، فإنها تمتلك دينامية لاقتحام النّصوص، للتعامل مع الرموز والعتامة المكثفة داخل الكتابة، هذه الدينامية، ليست إلا ظاهرة المُساءلة، وفتح حوار مع النّص ليقول أكثر ما فيه، والمُساءلة أي حوار سؤال/ جواب، تدل ابتداء على عدم امتلاك النّص بل اعتباره كائنا بذاته يقول شيئا ما، هذا يعني أن "الظاهرة التأويلية تحمل في ذاتها الحوار الأصيل ذي البنية: سؤال/ جواب، فعندما يطرح النّص نفسه كموضوع للتأويل فهو يطرح سؤالا على المؤول، وبهذا المعنى، فالتأويل يحتوي دائما على إحالة مهمة للسؤال المطروح على أحدهم، وفهم النّص هو فهم هذا السؤال وهو ما ينتج الأفق التأويلي"( )، فبواسطة السؤال لا يمكن الحصول على إجابة فقط، وإنما على تأويلات متعددة ومتصارعة تقوم بإنجاز عالم النّص الخاص وتشكيل كينونته.

إن النّص يتقدم إلى الفهم –ابتداء- ككينونة، أي أن الشيء الذي يقوله النّص يوجد أولا، وكينونة شيء النّص هي أُولى الرموز والإشارات التي ينبغي للهرمينوطيقا أن تفكها، أن تفهمها، أي تتأوَّلها، ولذلك لاحظ ريكور "أن السؤال المنسي، هو سؤال معنى الكينونة"( )، لأن سؤال الكينونة يمثل القاعدة الأساسية لدائرة الفهم والوجود الداخلية، فبين الفهم وكينونة الشيء تتقلص المسافة التي تتخذها ماهية الشيء من الفهم، في سؤال معنى الكينونة يتم الإمساك بشيء النّص الذي يقوله في رموزه وإشاراته، وعلى هذا الأساس فإن "التأويلات الأكثر تصارعا، تندرج، كلٌّ حسب طريقته، في جهة الجذور الأنطولوجية للفهم"( )، ففتح الحوار: سؤال/ جواب، مع النّص، يعني تركه يقول شيئا ما عن نفسه، أي أن المُساءلة المفتوحة للكينونة، تجعل من الذّات تنفتح على نفسها من خلال الفهم أي أن تكتشف ماهيتها وهي تتجه نحو النّص، حيث في فعل "الاتجاه نحو…" أُولى رموز وإشارات هذه الماهية، فقد رأى هيدغر أنه "إذا كنا نجد أنفسنا، ونحن منجذبون بهذه الطريقة في حركة نحو..ما يجذبنا، فإن كينونتنا تكون قد وُسِمت بهذه "الحركة نحو.."، وبما أننا وُسِمنا على هذا النحو نُظهِر هذا الذي يتوارى، فماهيتنا هي بالضبط هذا الفعل الذي يشير ويحيل، إننا نكون بقدر ما نشير إلى ما يتوارى وينسحب"( )، أي أن النّص حينما يدفع الكائن إلى الإشارة إلى ما يتوارى فيه وينسحب، فإنه يحقق كينونته ويُعرِّف ماهية الكائن، فالنّص يجعل الكائن يفهم نفسه أمامه، وفي المقابل يتمكن الكائن من إظهار المتواري والمنسحب في النّص.
02-21-2008, 11:39 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
الهرمنيوطيقا - بواسطة لايبنتز - 02-21-2008, 04:29 AM,
الهرمنيوطيقا - بواسطة لايبنتز - 02-21-2008, 04:29 PM,
الهرمنيوطيقا - بواسطة لايبنتز - 02-21-2008, 11:39 PM
الهرمنيوطيقا - بواسطة noooneh - 02-27-2008, 04:06 AM,

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS