ابراهيم ووضّاح

لست – كما تعلمان – من الذين يعتقدون باستنساخ الماضي كحل لمشاكل حاضرنا. ولست – كما تعرفان أيضاً – من القائلين بأن "الدين الإسلامي" هو المسؤول عن صناعة "الحضارة العربية الإسلامية". فكثير من صنّاع هذه الحضارة لم يتعاملوا مع الدين أو كانوا من عداد الكفرة والزنادقة، بل هناك منهم من جُلد وعُذّب وحّرق وكُفر وأهين ولوحقت مخطوطاته، بل لربما وصل الأمر إلى ربط أحد أكبر العقول البشرية في تاريخ العرب والمسلمين أمام باب مسجد كبير كي يبصق عليه الداخل والخارج لمروقه عن مذهب أهل السنة والجماعة.

مع هذا فأنا مصر على أن "الإنجازات المختلفة المتنوعة" و"الفتوح المعرفية المتعددة" التي تحققت في العالم العربي والإسلامي نستطيع أن نطلق عليها اسم "حضارة عربية اسلامية"، لأن معظمها تم إنجازه عن طريق "اللغة العربية"؛ الوعاء الذي احتوى جميع العلوم والمعارف في هذه البقعة من العالم في ذلك الوقت. ولأن "الإسلام" لعب دوراً مركزياً في تشكيل وحدة جغرافية سياسية تفتحت فيها براعم "الحضارة" من ناحية، ولأنه كان في كثير من الأحيان في صلب الاهتمامات المعرفية لهذه الأسماء الكبيرة. ففلسفة "الفارابي" الفيضية، على سبيل المثال لا الحصر، يلعب فيها الإسلام دوراً مركزياً جداً بجانب فكر "أفلوطين". ولعلنا لو أخذنا من "الفارابي" إسلامه فإن الكثير من أعمدة "مدينته الفاضلة" سوف يتصدع ويتزعزع بنيانه.

أصر على إطلاق لفظة "الحضارة" على المنتوج الثقافي والمعرفي والمادي والاجتماعي للشرق في القرون الخمسة المذكورة، وأصر على أنها كانت "حضارة عربية إسلامية" لأن كونها "عربية إسلامية" لعب دوراً أساسياً في تشكيلها وصياغتها بل في إنتاجها أصلاً. فاستيلاء العرب المسلمين السريع جداً على الشرق بأكمله وضع هؤلاء "الأسياد الجدد للشرق" في مواجهة أضخم حضارات التاريخ في ذلك الوقت، بل زج بهم في أتون معركة "ثقافية" غير متكافئة بالمرة. إذ أين تراث هؤلاء البدو الخارجين من الصحراء من تراث مصر وفارس واليونان وروما والشرق السرياني الحافل بالعراقة والمعرفة؟

مع هذا، فلقد استطاع هؤلاء البدو أن يستبدلوا السريانية بالعربية ويضعوا دينهم في مواجهة أديان الشرق جميعها، فيقف ويصمد ويشتد عوده حتى يضحي بعد بضعة قرون دين الأمصار الشرقية جميعها. هكذا أصبحت العربية لغة الحضارة بين الهند والأندلس، والإسلام هو "الدين" لهذه القطعة الجغرافية الضخمة. وبين العربية والإسلام ، بل تحت مطرقتيهما وفي "أتونهما" انصهرت جميع العادات والتقاليد لجميع الشعوب التي تعيش في حدود "دولة الخلافة"؛ طبعاً، بقي الشامي شامياً والمغربي مغربياً، ولكن القاسم اللغوي والديني المشترك جعل العراقي يزور مصر فلا يشعر بغربة كبيرة، وترك اليمني يشئم فلا يحس بأنه موجود في عالم آخر. هنا قد نستطيع أن نعدد الأمثلة المستهلكة، ولكني سوف أطلب من القاريء أن يتذكر حياة "أبو تمام" وتنقله بين سوريا والعراق ومصر، أو "المتنبي" الذي تنقل بين الكوفة وبغداد وحلب ومصر وبلاد فارس كي نرى هذا التجانس "اللغوي الديني" الذي حدث في هذه الرقعة الجغرافية، والذي جعل المنتوج الثقافي والحضاري منتوجاً متنوعاً يقوم على "قاسمين مشتركين لا ثالث لهما" هما قاسما " اللغة العربية والإسلام". فكيف بعد هذا لا نطلق على "المنتوجات العلمية والأدبية والقانونية" اسم "الحضارة العربية الإسلامية"؟

هنا، بالعودة إلى مداخلة "وضاح رؤى" الممتازة، ليس مهماً إن كان "الأقباط" هم من بنوا "الجامع الأزهر" أو إن كان "السريان" هم من اشتغلوا ببناء "الجامع الأموي" في دمشق. مثلما ليس مهماً أن " الفارابي أو ابن سينا" لم يكونوا عرباً، كما هو ليس مهماً أن "ثابت بن قرة" كان من الصابئة، و"عبدالله بن المقفع" كان زنديقاً، و"الأخطل التغلبي" لم يكن مسلماً، و"دعبل الخزاعي" كان متشيعاً، و"الجاحظ والمأمون" يلفهما مروق المعتزلة عند أهل السنة والجماعة. هذا ليس مهماً بتاتاً في الإطار الذي نتحدث عنه، لأن هؤلاء جميعهم وآلاف غيرهم عاشوا وعملوا وأنتجوا ضمن هذا الإطار الجغرافي السياسي المنصهر والمتوحد - ثقافياً - "باللغة العربية والدين الإسلامي".

إننا اليوم ننسب أهرامات مصر إلى "الفراعنة" من "خوفو وخفرع ومنقرع" وغيرهم، بل اننا نتحدث ونسهب حول "حضارة الفراعنة" مع أن "الفراعنة" أنفسهم (كأشخاص) لم يضعوا حجراً واحداً على حجر في الأهرامات، فمن فعل هذا هم عامة المصريين من فقراء وعبيد وعمال. ومع ذلك، فإننا نستطيع أن نطلق على حضارة "مصر القديمة" اسم "حضارة الفراعنة" للدور المركزي الذي لعبه "الفرعون" في "حياة وادي النيل" وقتها.
كذلك الأمر لو يممنا شطر أوروبا، فغالباً ما نتحدث عن "الحضارة الغربية"، مع أن هذه الحضارة الغربية مليئة بالحروب والنزاعات، وصنّاعها أشخاص اختلفت مشاربهم وأصولهم ونوازعهم وأهدافهم، ولكن وحّدتهم "الرقعة الجغرافية" و "اللاتينة" و"الإرث المسيحي". هنا لن تجد من يحدثك عن "الحضارة الفرنسية" أو "الحضارة الإيطالية" مثلاً، فليوناردو دافينشي وميخائيل أنجلو الطليان يجتمعون مع ديكارت الفرنسي وسبينوزا الهولندي وكانت الألماني على مائدة واحدة، ويشربون نخب "توماس هوبس" و"جون لوك" الانكليزيين برفقة "جان جاك روسو" الفرنسي على أنغام "موزارت وبيتهوفن" وحسب قوانين "اسحق نيوتن" الخالدة.

عندما نتحدث عن "حضارة اليونان" بشكل عام، لا نلتفت كثيراً إلى الفروق الشاسعة بين "أرسطو وأفلاطون"، ولا نقف للتمييز كثيراً بين "السفسطائيين" وبين "المدرسة السقراطية". بل أننا نستحضر قمة "الأولمب" ونقسم "بزفس وهيرا" على أن هذه "الحضارة" تضم فلسفة "زينون الرواقي" مثلما تضم "إلياذة هوميروس" و"حسابات أرخميدس" وهندسة "إقليدس" وطب "أبوقراط" ومسرحيات "سوفوكليس"، بل تتعدى هذا كي تصل إلى أسواق أثينا "والأكروبوليس" و"معبد دلفي" وجميع الإرث الأسطوري الذي جعل "كيبوبيد يهيم بسايكا" و"فينوس تخرج من رأس زفس على وقع مطرقة بوسيدون" (كما أذكر). كذلك عندما نتحدث عن "الحضارة العربية" فإننا ندخل "قصر الحمراء" فنجد "واصل بن عطاء" و"عمرو بن عبيد" قد "اعتزلوا" مجلس "الحسن البصري" وأخذوا يتفكرون مع "النظّام والهذيل والجاحظ" في مسائل "العدل والتوحيد". ونجد – في ركن آخر – "الخليل بن أحمد الفراهيدي" البصري مجتمعاً مع تلميذه "عثمان بن قنبر" الفارسي (سيبويه) يتعاركان مع "علي بن حمزة الكسائي" ويحاول "الفرّاء" البغدادي أن يوفق بينهما مستعيناً بخبرات "محمد بن هشام الأنصاري المصري" اللغوية. في ركن ثالث سوف نجد "جابر بن حيان وابن الهيثم والرازي والخوارزمي" يتذاكرون بعض المسائل العلمية. وفي ركن رابع نسمع " شعر "بشّار وحبيب والبحتري والمتنبي وفيلسوف المعرّة"، وفي غرفة طليت أعمدتها بماء الذهب ونقش على جدرانها أبيات من حكم "زهير" فوقها بعضاً من الآيات القرآنية، نجد "الفارابي وابن سينا" يتعاركان مع "الغزالي" الذي يكفرهما قبل أن يتدخل "أبو الوليد بن رشد" محاولاً الانتصار للفيلسوفين الكبيرين على حساب "أبو حامد" كي يعلن في نهاية الأمر أن "الحكمة أخت الشريعة الرضيعة". وبعد أن ينفض مجلس القوم، يهرع الجميع إلى مجلس الخليفة فتجد "هارون والأمين والمأمون" قد جلسوا في صدر الديوان، وقد مدت الموائد العامرة أمامهم، فشرع القوم يأكلون ما لذ وطاب من "فالوذج ولوزينج" وغيره مما لم تره عين ولم يرد على بال بشر، قبل أن نسمع "معبد"، وقد انتحى "بعنان وعريب"، وشرع يضرب على آلاته لحناً "لابراهيم الموصلي" وزّعه "زرياب" من جديد، قبل أن يعلو صوت "مخارق" مغنياً:
أنس غرائر ما هممن بريبة
كظباء مكة صيدهن حرامُ
يحسبن من لين الحديث زوانياً
ويصدهنّ عن الخنا الإسلامُ

أخيراً، لجميع ما ذكرت أعلاه، أعتقد بأن اسم "حضارة عربية اسلامية" ملائم جداً للنتاج الشرقي في الحقبة المذكورة، ولكن حذار من خلط "اللغة العربية والبيئة الإسلامية" بالدين الإسلامي نفسه. فالحضارة المذكورة ليست "مصنوعات إيمانية خرجت من نص مقدس" ولكنها حصيلة تلاقح عقل الانسان الشرقي وجهده ونفسيته وذوقه مع ثقافات أبناء أوطانه المتعددة المذاهب المختلفة المشارب. أضف إلى ذلك شجاعة أسلافنا "البدو القدماء" وانفتاحهم على "ثقافات الشعوب الأخرى" وتطويرهم لقدرة رائعة قامت على "تذويب" عناصر هذه الثقافات المختلفة في مرجل "العربية والإسلام" (وقد يكون لهذا حديثاً آخر يوماً ما ...!!) ...

واسلموا لي
العلماني