أسعدتني مداخلات العلماني، ووجدت فيها كثير مما كنت أريد قوله وإن كان بأسلوب مغاير، لكن الأفكار لعلها متقاربة.

سأطرح الفكرة الآن من زاوية لعلها تختلف شيئا عما طرحه العلماني، وهي زاوية "أصولية" :star1:

الحضارة من الحضر، ونقيضها البداوة، والحضارة هي لزوم السكنى في مكان ثابت عند الماء العد كما قال صاحب اللسان.

أما في الاصطلاح، فإن لزوم الناس السكنى في مكان واحد يستلزم دوام العلاقات، ودوام العلاقات بشكل مستقر بعيدا عن التنازع يستلزم الاشتراك في وجهة النظر عن هذه العلاقات بالسلب والإيجاب، بالقناعة العقلية والرضى الشعوري والنظام الثابت الذي يرعاها.

من هنا أرى والله أعلم أن الحضارة ابتداء هي وجهة النظر عن الحياة، المتعلقة بالسلوك الإنساني المجتمعي، والمستندة إلى الأفكار الأساسية المشكلة للمجتمع، سواء أكانت هذه الأفكار عقيدة أم أيدولوجيا، أو مجموعة من الأفكار المترابطة، والتي لا وجود في الواقع.
وهي ليست المدنية، أي المظاهر المادية المترافقة مع التطور العلمي،

قد نجد أمتين متفقتين في الوسائل المادية، فيأكلون بالشوكة والسكين، ويستقلون الطائرة والسيارة والصاروخ، ويحاربون بالدبابة والقنبلة النووية، ويتراسلون بالبريد الالكتروني، إلا أنهما ينظران إلى العالم كله والحياة من زاويتين مختلفتين، فهذه أمة رأسمالية، وأخرى شيوعية، فتتباين الحضارتان رغم اتفاق المدنيتين.

وبالمثل نجد الأمة الإسلامية والثانية البيزنطية والثالثة الفارسية، قد تواجدت في وقت واحد بمدنية تقريبا واحدة، مع زوايا مختلفة للنظر إلى العالم كله، فتباينت الحضارات مع اتفاق المدنيات.

المرجعية الحضارية تكون لثقافة الأمة السائدة، وقد يكون الإسلام دون باقي الديانات هو أحد هذه الثقافات السائدة، نظرا لعدم اقتصاره طبيعيا على الناحية الروحية، ونظرا لأن عقيدته تدعو لبحث وتصور وعلاج العديد من قضايا العالم.

الحضارة الإسلامية هي تلك الحضارة التي كانت العقيدة الإسلامية سبب بحثها ووجودها، وأساس نظرتها إلى العالم كله، وهي حضارة متميزة قائمة بذاته لا تشبه غيرها ولا يشبهها غيرها.
وقد يقال العربية الإسلامية من باب تميز اللغة العربية في تلك الحضارة كوعاء حضاري، وإن صح القول الحضارة الإسلامية دون العربية، لعدم الارتباط الشرطي مع العرب كشعب.

الحضارة لا تعني بالضرورة اللطف في الحديث مع العنف في القتل، كما اشتهر الغربيون بذلك، ولا تعني تقمص الاتيكيت والبروتوكولات الكاذبة، وقد ينزل الرجل تحت الجاموسة وهو متحضر، وقد يركب الليموزين وهو متوحش.

الزميل إبراهيم يريد أن ينزع عن الأمة الطويلة العريضة التي تواجدت في جنبات التاريخ مدة أربعة عشر قرنا أي صفة حضارية من أجل أنه رأى أشياء لم تعجبه في بعض أقاليم مصر والشام، ليت شعري متى كانت الحضارة تستنبط من تصرفات عشوائية يقوم بها بعض العوام هنا وهناك؟

الحضارة الإسلامية وجدت منذ الهجرة النبوية الشريفة، بتأسيس دولة/مدينة تستند إلى فكرة واضحة تتخذها زاوية للنظر إلى العالم كله، وقابلة للتعدية لغيرها، واستمرت فترة سبعة قرون مزدهرة، ثم أخذت بالانكماش التدريجي حتى تلاشت من دنيا الناس منذ الحرب العالمية الأولى شكليا، وقبلها بكثير فعليا. وهي حضارة غائبة عن الوجود في هذا الزمن اللهم إلا من بطون الكتب، ومن بعض الآثار الفرعية الباقية هنا وهناك.

المنجزات الحضارية المتعلقة بالحضارة والتابعة لها هي كافة العلوم والنشاطات المسماة إنسانية، والتي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بوجهة النظر في الحياة التي أسست الحضارة، غير ذلك من العلوم التي لا علاقة لها بوجهة النظر لا تسمى علوم حضارية بحال، بل هي علوم مدنية عالمية تؤخذ من حضارة لأخرى معاصرة لها دون أي أثر حضاري، وقد توجد عند الأمم المنحطة بالتأثر المباشر بالأمم المتحضرة دون علامة تحضر بارزة.

لا يقال الحضارة الإنسانية، أو الحضارة العالمية، لا يقال ذلك بحال لأن الحضارة وإن كانت مرتبطة بالإنسان من حيث هو إنسان، لكن كونه إنسانا لا يكفي لتحضره، بل لا بد من ربط الحضارة بالفكر الإنساني المميز حتى تصح نسبتها.


:star1:أصولية أي تستند إلى أصول واضحة في التعريف والتفريع، ولا علاقة لها بمفهوم الأصولية الذي استنبط من وجهة نظر الغربيين عن الحياة.