ابتداء فإن العرب كانوا أهل حضر وأهل بداوة، وكانت مكة والمدينة والطائف من حواضر الجزيرة ولم تكن بوادي ليكون أهلها بدوا،

والفارق بين الحضارة والبداوة هو الاستقرار، والاستقرار هو الذي يجلب الحاجة للنظام، والنظام يستدعي وجهة النظر العامة المتعلقة به، حتى لا يستحيل النظام.

الغريب أن الزميل أنكي ينشر في غير مكان عمق ثقافة الهواشم الذين يراهم قد أسسوا لمحمد وأسس لهم محمد بعده، ليت شعري كيف تأتت الثقافة لبدوي، ثم كيف حولها لنظام دائم مستقر، قصف دولتين من كبريات دول التاريخ وحل محلهما دون عودة، ثم ابتلعهما ابتلاعا وتمتع الجيل الأول من هؤلاء البدو بحكم مستقر نسبة لأهل البلاد المفتوحة والجيران المغلوبين، لم يعكره سوى التنازع الداخلي بينهم مرتين، والعجيب أنهم سرعان ما أسسوا لنظم قانونية ومعرفية تحدت النظم السابقة وتصارعت معها مما أوجد نماذج تفكيرية تقرب من هذا الجانب أو ذاك أو تتوسط بينهما، على أن هذا النظام المستقر قد أفرز نظاما قانونيا اشتهر باسم الفقه الاسلامي لا علاقة له بالنظم الفقهية للأمم المغلوبة السابقة، لا الفارسية منها ولا الرومانية.

طبيعي لا أتحدث حين أتحدث عن الفقه الإسلامي عن نظام العقوبات بالضرورة، وإن كان منه.

نأتي لحديث القتل وما أدراك ما حديث القتل،

حقيقة أعجب من رأي دعاة "الإنسانية"، حيث لا يرون القتل إنسانيا مطلقا، ليت شعري وهل كان البشر منذ وجودهم إلا يتقاتلون، فيقتل بعضهم بعضا، ثم يصطلحوا ليعاودوا التقاتل والقتل؟

معظم الحيوانات، وقد اعتبر الإنسان هنا منها، تتقاتل بينها، وقد يقتل بعضها الآخر، دون أن يخرج بينهم من يدعو لكبت هذه الظاهرة، المستحيل كبتها أصلا.

حين نتحدث عن القتل، أو الجنس، أو التملك، أو غيره من نشاطات الإنسان الطبيعية، الأصل أن لا نبحث في كبت الفعل، فكبته مستحيل وهو لا بد خارج بعلمنا أو دونه، بإرادتنا أو رغما عنا، فكان الأصوب دوما هو إدارة نشاطات الإنسان لا كبتها، وجعلها تنصرف ضمن أقل قدر ممكن من الأضرار على المجتمع والفرد.

أما بالنسبة للعنف، فقد قدر الإسلام، والعقلاء معه في هذا، أن العنف ينبغي احتكاره من قبل الدولة، ولا يرخص للأفراد بممارسة العنف إلا بالقدر الأدنى المستحيل الحياة دونه، نعني هنا الدفاع عن النفس أو المال أو العرض. وإلا فإن الدولة، أية دولة، مرخص لها في ممارسة العنف داخليا حسب قانونها ودستورها، وخارجيا وفق ما تقتضيه سياستها الخارجية المبنية على وجهة نظرها في الحياة.

العنف هو أحد وجهي الكون، ويستحيل تجاهله، فقد نشأ الكون عنيفا، ويموت عنيفا، ويولد الإنسان من الألم وبالألم، ويموت متألما، وبين الألمين يعيش بين ألم وأمل، ولا غضاضة أن يمارس العنف وقت ما يقتضي الأمر عنفا، كما يمارس اللطف وقت ما يقتضي الأمر لطفا.