عزيزي أنكي

نأتي للتحضر،

أنت لا ترى أن التجارة والاستقرار من دواعي التحضر؟ عجيب، هل لك أن تنزع التحضر عن أهل المدن إذن إذ أن جلهم لا يمارس الزراعة، بل يكتفي بالصناعة والتجارة والخدمات!
ثم هناك يثرب والطائف، ألست تعلم أن مكة كانت أم القرى في الحجاز، وأنها كانت تزرع ما تريد في الطائف والمدينة؟ وإلا أي بستان لجأ إليه الحبيب المصطفى بعد أن آذاه أهل الطائف؟ ألم يكن لعتبة وشيبة ابنا ربيعة، المكيين القرشيين، العبشميين؟

ما عهدنا الحجاز إلا وهو يعج بالقرى العامرة التي تزرع، وما عهدنا العروض وهجر إلا وهي تزرع التمر، وما عهدنا اليمن إلا هلالا خصيبا جنوبيا قبل انهيار سدود مياهه، ووجود السدود فيه دليل على الزراعة يا أنكي.

ووجود البدو في الحجاز لا يعني انتفاء وجود الحضر.

نأتي إلى الاستنكاف من عبادة الأصنام، طبعا هذا الاستنكاف يأتي من تصورك أن الحياة البدوية تتصل برأس القبيلة دون وسيط، بينما الحياة الحضرية تحتاج الوسيط، هذا طبعا إسقاط يعسر مناقشته، إذ أنك افترضت وبنيت على افتراضك، وتريد أن نناقش البناء بينما قد يكون الفرض أساسا خطأ.

من العجيب أنك تسمي الخراب هو ما حصل في المشرق بعد تمدد الاسلام فيه! ليت شعري كيف لخراب أن يستمر بضعة عشر قرنا! في موطن الحضارات والثقافات التي لا يوجد في العالم اليوم ثقافة لا تمت بسبب أو نسب إليها!

هل أحرق العرب المدن العامرة وسووها بالأرض وحرثوها بالملح كما صنع الرومان بقرطاجة والفرس بفينيقية؟ والأشوريين بسائر من عصاهم؟
هل نقل العرب أهالي مصر إلى العراق والعراق إلى مصر عنوة كما صنع البابليون؟

رأيت أن أول أمر صنعه عمر بعد فتحه العراق هو تنظيم إدارته، وهذا ليس صنيع خراب، وإن غاظك أنه نظمها لصالح المسلمين، ليت شعري وهل سينظمها لصالح يزدجرد الفارّ؟

عزيزي، لولي القتيل أن يقتل قاتل وليه، لكن ليس القتل بفوضى، فالإمام الذي هو على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، وأمر الرعاية وفيها إقامة الحدود وتنفيذ القصاص والعقوبة كلها من اختصاص الإمام، أي الدولة، ومن يمارسها دون إذن الإمام أو وكالته فقد افتأت على حق الدولة ولو كان فعله صائبا في ذاته، والافتئات فيه التعزير.


ما رأيته تبريرا بعيدا هو إنكار مني على إنكارك للعنف، فكيف تنكر أو تكبت شيئا أصيلا في خلقة الكون والإنسان والحياة؟ أليس هذا أسوة بما صنعه البعض في إنكار الجنس؟

خصال الإنسان الطبيعية لا تنكر ولا تكبت، بل تدار وتنظم حتى لا تخبط عشواء.


عزيزي نأتي إلى المداخلة التالية،

هل تعتبر الحدود العراقية التي أسسها سايكس بيكو مقدسة؟

فيم تفرق مدينة البوكمال عن دير الزور، حتى توليت الأولى وتركت الثانية؟

هل الموصل أقرب في العادات والطباع إلى بغداد من دير الزور والحسكة؟

ما هو الضابط العقلي الذي يجعل توليك لهذه الحدود "العراقية" المعترفة بها هيئة الأمم المتوحشة، توليا صحيحا؟

إما أن تتولى قريتك ومدينتك لا حسب، فهذا مفهوم، أو أنك توضح لنا لم كان هذا العراق الذي تنتسب له عراقا، دون ما عرق من أرض الجزيرة الذي ضمه سايكس لبيكو في حصة فرنسا!

ثم يا عزيزي، هل أنت تنتسب إلى الأرض، أم الأرض هي التي تنتسب لك؟ لا أرى الأرض إلا آلة جامدة كالسيارة والثوب، تنسب إلى صاحبها ولا ينسب صاحبها لها، وكأني بك إذ تقول أنا عراقي كمن يركب سيارة داتسون ويقول أنا داتسوني، أو من يلبس ثوب دولشي غيبانا ثم يقول أنا دولغيبانوي!

عزيزي، أنت لا تفكر بالعراقية، وليس العراقية بفكرة تصلح أن تجمع بني البشر حين إرادة النهضة، هذا فوق الناحية الغريزية فيه إذ يرجع بالانسان إلى وضع الدجاج والقطط بانتسابهم إلى أرض يعجزون عن الخروج منها أو تقبل دخول من ليس فيها منها، فهو أيضا مفرق للبشر غير مجمع، ولا يصلح لاستنباط أفكار فرعية لمعالجة مشاكل الحياة!