عبد الله بن بجاد العتيبي
يفاخر الكثير من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين، ومعهم بعض الدارسين المستقلّين في الغرب بالمنجزات العربية على مستوى العلوم النظرية والفلسفية كالرياضيات والطب والفلك والهندسة ونحوها، ويذكرون أسماء كثيرة منها ابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد وابن باجة والرازي الطبيب وابن عربي وغيرهم، غير أنّ ثمة إيراداً صادقاً على مثل هذه الأطروحة، وهو يتمثل في السؤال التالي: ماذا كان موقف عامة الناس والمجتمع في زمنهم وبعدهم منهم ومما طرحوه أو نظّروا له؟ وكيف استطاع الفقهاء أن يقنعوا الناس بانحراف هؤلاء الرموز وخروجهم عن النهج المستقيم بل وأحياناً خروجهم من الإسلام؟
الواقع هو أنّ أطروحات هؤلاء الرموز كانت تقابل -غالباً- بالرفض والاتهام بالزندقة والمروق من الإسلام، وعلى ذلك أمثلة كثيرة، والهجمة السلفية التي كان يحرّكها الفقهاء والعقائديون ضدهم كانت تؤتي ثمارها على الدوام ما عدا لحظاتٍ استثنائية في التاريخ الإسلامي، وهنا يُكمن أحد الفوارق بين الخطاب السلفي المتشدّد وبين الآراء التي تطرحها بعض التيارات الدينية في حوارها مع الغرب، أو تلك التي يطرحها المفكرون المسلمون أو المستشرقون المتعاطفون معهم فيما يتعلق بالموقف من هؤلاء العلماء والفلاسفة.
نعم كان لهؤلاء الرموز قدمٌ راسخةٌ في تطوير العقل البشري والارتقاء بالبشرية نحو العلم والتطوّر والرقيّ بعيداً عن أغلال الموروث وسلاسل السائد والمألوف، ولكنّهم دفعوا ضريبة ضخمة في مجتمعاتهم وقوبلوا بالرفض والإقصاء وبعضهم خضع للسجن والعقوبة أو اضطر للتخفّي والهرب، فإلى أي درجة يمكن اعتبار هؤلاء ممثلين للأمة أو تاريخها حتى يصح لنا أن نفاخر بهم؟
ابن سينا -على سبيل المثال- المعروف بالشيخ الرئيس هو من أشهر هذه الرموز، وقد اعترفت له الحضارة المعاصرة بأدوارٍ مهمةٍ في الفلسفة والطبّ وغيرهما، وفاخر به المفاخرون بحضارة العرب، هذا العالم كان الموقف السلفي منه هو "التكفير" فقد كفّره الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال وكفّر معه الفارابي المعروف بالمعلّم الثاني، ونشر تكفيرهما فيما بعد فقهاء المدرسة السلفية كابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما.
وما قيل في ابن سينا والفارابي قيل في غيرهما كالرازي والكندي وابن عربي، وأقلّ هؤلاء تعرّضاً للقصف التكفيري السلفي هو ابن رشد الحفيد، ولهذا فقد استفاد ابن تيمية منه الكثير من المخارج الفلسفية وإن لم ينسبها له مباشرةً.
يلاحظ أن بعض هؤلاء الفلاسفة أخذوا شيئاً من الحظوة لدى بعض السلاطين وبعض العوامّ وأكثر من نالوا مثل هذه الحظوة منهم كانوا ممن اشتغلوا بعلم الطبّ ونبغوا فيه لأنّ المريض الذي يطلب الدواء -سلطاناً كان أم عامياً- لا تهمه فلسفة طبيبه ولا نحلته الفكرية وإن وجد على يديه الشفاء زاد ذلك من حبّه وقبوله له، ولما لهذا التخصص من المكانة والتأثير لدى الناس صرّح بعض حمقى المفتين مؤخراً بأنّ الكليّات التي تعلّم الشريعة أهمّ من الكليّات التي تعلّم الطبّ متجاهلاً أنّ نفع الطبيب يصيب جميع البشر الذين هم "عيال الله" والذين جاء الأمر في القرآن ببرهم والإقساط إليهم، وأن كليّات الشريعة لها نفعٌ، ولكن نفعها الأكبر قاصرٌ على مرتاديها ومن يصدّقهم من بعض المسلمين، وأن هذه الكليّات يلعن بعضها بعضاً ويرمي بعضها بعضاً بالكفر والزندقة والبدعة والفسوق والعصيان، ويمارس رموزها ثقافةً هجائيةً تجاه بعضهم البعض تصل في بعض الأحيان إلى حدّ استخدام أشنع الألفاظ وأقذع الشتائم، وكلٌ منها ومن رموزها يزعم أنّه الوحيد الذي يمثّل الإسلام النقيّ الصافي وكل من يخالفه متلطخٌ بالبدع والانحراف والضلال الذي يصل في حدّه الأقصى إلى التكفير والإخراج من الملّة على مسائل توافه لم يرد لها ذكرٌ لا في كتابٍ ولا سنّةٍ، وإنما هي من مسائل الخلاف الاجتهادية التي يسع الخلاف فيها كل المختلفين، بل ويسع تأويلاتٍ أخرى معاصرةٍ هي أوسع من تلك التراثية، ثمّ إن هذا المفتي يتناسى قول الإمام الشافعي رحمه الله: "ما أحزن على شيء ما أحزن على الطب ضيعه المسلمون وأتقنه أهل الكتاب"!
الواقع هو أنّ ما يسمّى بدور العرب في الحضارة هو دورٌ حقيقيٌ على ألاّ يتمّ تضخيمه من قبل القائلين به وكذلك ألاّ يتمّ تحجيمه من قبل الرافضين له أو الهاضمين لحجمه، فالعرب والمسلمون كغيرهم من الأمم التي قدّر لها أن تحمل مشعل الحضارة لحقبة زمنيةٍ معينةٍ تطول أو تقصر، فهم حلقةٌ ضمن حلقاتٍ متعددةٍ استفادت كل حلقةٍ فيها من التي قبلها وزادت عليها ونقلتها بدورها للحلقة التي تليها.
لقد كان واحداً من أهمّ أخطاء العرب والمسلمين الذي أبعدهم عن التنافس الحضاري وجعلهم اليوم في مصافّ أكثر الأمم تخلفاً أنّ الفقهاء استولوا على التأثير شبه الكامل على الشعوب، وأنّ هؤلاء الفقهاء قدّموا تفسيراتٍ منغلقةٍ لمفهوم "العلم" و"العلماء"، فحصروا تفسير العلم بالعلم الشرعي وهذا غلط، ثم حصروا العلماء في فقهاء الدين أو كليّات الشريعة كما هو التعبير المعاصر، والصحيح أنّ هذا المفهوم جاء عاماً في القرآن والسنّة إلا في مواضع معدودةٍ، ويدخل فيه الطبيب والمهندس والفلكي والجيولوجي والصيدلي والميكانيكي والكيميائي وغيرهم من المتخصصين الذين هم في أحيانٍ كثيرةٍ أكثر نفعاً للناس من عالمٍ شرعيٍ متشدد أو داعيةٍ متنطّعٍ فضلاً عن فقيهٍ لا يفهم العصر ولا يدري عنه شيئاً ويتحدث في الوقائع والنوازل بكلامٍ يدلّ على قلّة فهمه ويجعل منه أضحوكةً للمتخصصين، والأمثلة على مثل هذا أكثر من أن تُحصى؛ ففقيهٌ يُسأل عن الديمقراطية فيقول لا أعرفها وآخر عن العولمة، فيقول إنه نصح ولي الأمر وسيمنعها، وثالثٌ يوجب على الفلسطينيين أن يهاجروا من فلسطين ويتركوها لليهود، ورابعٌ يرى أنّ الليبرالية كفرٌ وخامسٌ يفتي بإرضاع الكبير وسادسٌ يرى حوار الأديان كفراً، وغيرهم كثيرون يحرّم بعضهم جلب الورود للمرضى ولا أدري ماذا يريدنا أن نقدّم لمرضانا! هل نقدّم صورةً لفضيلته أم كتاباً من كتبه!
آخرون من هؤلاء المفتين يحرّمون الورد الأحمر، وقبلهم وبعهدهم من يحرّم كل أصناف البهجة المباحة كالغناء والألعاب الرياضية وأوراق اللعب وسائر الفنون كالرسم والتصوير بل والدراما والدشّ وغيرها، وقد حرّموا من قبل كل منتجٍ حضاريٍ فحرّموا البرقية وتعليم البنات والراديو والتلفزيون وغيرها الكثير من المحرمات التي يوزّعونها بغير حساب.
علينا أن نعيد ترتيب مكانة الفقيه وعالم الشريعة في سياق المجتمع، فقد تغيّر وقتنا كثيراً عمّا كان عليه تاريخنا، وأصبح دور عالم الشريعة يعمل بالتوازي مع أدوارٍ مثله وأهمّ منه وأقل منه أهميةً، وصار له دورٌ محدودٌ يتحرك فيه ضمن أدوارٍ أخرى لعلماء ومثقفين ومتخصصين وفاعلين في المشهد المجتمعي، ولم يعدّ لهؤلاء المفتين الدور المتغوّل الذي كانوا يمارسونه تاريخياً، وهذا ماعجز كثيرٌ منهم عن فهمه اليوم فهم يقاتلون بأيديهم وما أوتوا من قوةٍ ليعكسوا مجرى التيار التاريخي وأصغر دارسٍ للتاريخ يعرف أنّ من يعاكس التيّار لا يمكن أن يستمرّ فضلاً عن أن ينجح!
*نقلاً عن صحيفة "الاتحاد" الاماراتية