وعلى نفسها جنت العولمة بأحكامها

GMT 2:00:00 2008 الثلائاء 7 أكتوبر

الوطن السعودية



--------------------------------------------------------------------------------


فواز العلمي


ما زلت أتمنى أن تطلع المنظمات الدولية على قصة القبيلة الأعرابية وأليفتها الوفية (براقش) في زمن الجاهلية. لدى اختباء القبيلة برفقة أليفتها من عصابة القتلة، استمرت (براقش) في النباح الذي طالما لجأت إليه لترهيب أعدائها، فاكتشفت العصابة مخبأ أفراد القبيلة وقتلتهم مع أليفتهم. وبهذا جنت (براقش) على نفسها ومن معها.
أحكام العولمة تحظر على الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية التدخل في مسار أنشطتها التجارية لانتشال اقتصادياتها المنهارة عن طريق تقديم الدعم المالي لمؤسساتها التمويلية المتهالكة وتأميم الأصول الثابتة لشركاتها العقارية، وإن تدخلت هذه الدول وقع على حكوماتها عبء تقديم الأدلة والبراهين والأسباب التي دعتها لهذا التدخل إلى كافة أعضاء المنظمة لاستئذانهم في تطبيق التدابير المقترحة التي تعتزم استخدامها لإنقاذ أنشطتها التجارية والمالية والتمويلية من الكوارث الاقتصادية.
إلا أن هذه الأحكام القانونية فشلت خلال الأسابيع الماضية في الحد من تدخل الحكومات الرأسمالية لإنقاذ مؤسساتها التمويلية وشركاتها العقارية من الانهيار. في الواقع بادرت أمريكا وسارت أوروبا في ركابها باتخاذ حزمة من القرارات الحكومية الفورية والحاسمة للحد من تدهور اقتصادياتها، لتشكل في مجملها خطوات أقلّ ما توصف بالسياسات الاشتراكية البحتة. قيام هذه الحكومات بتقديم الدعم المالي للشركات الفاشلة وإنقاذ البنوك من الخسائر الفادحة وتأميم الأصول الثابتة لقطاع العقارات تعتبر جميعها جزءاً لا يتجزأ من السياسات الاشتراكية التي تتعارض صراحة مع أهم أحكام العولمة الرأسمالية وتتنافى أساساً مع مبادئ اقتصاد السوق وقواعد التجارة الحرة. وهي بالتحديد تلك السياسات التي كانت تمارسها الحكومات الاشتراكية مثل الصين قبل انضمامها لمنظمة التجارة العالمية وتنازلت عنها قسراً لاكتساب عضوية العولمة الاقتصادية نتيجة المطالب المجحفة والالتزامات القاسية المفروضة عليها من قبل الدول الرأسمالية.
في الأسبوع الماضي عقدت جامعة "هارفرد" الأمريكية ندوة اقتصادية عن أسباب الأزمة المالية التي هوت بالاقتصاد الأمريكي إلى مشارف الكساد، شارك فيها ستة من أفضل خبراء الاقتصاد من أساتذة الجامعة المرموقة. اتفق الجميع على أن التمادي في تسهيل القروض العقارية بأساليب غير مسبوقة، وانعدام الشفافية في الأنظمة المالية بطرق أقرب لاستباحة الأموال العامة، وانحسار السيولة في الأسواق التجارية بشكل يتنافى مع أبسط القواعد الائتمانية، هي الأسباب الثلاثة الرئيسية التي أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي الأمريكي المتهالك.
أوضح خبراء "هارفارد" أن القطاع المالي الأمريكي الذي يشكل 4% فقط من الناتج القومي وقد يرتفع إلى 7% لدى إضافة نشاط التأمين إليه، يستحوذ على 10% من رواتب ومكافآت كافة القوة العاملة الأمريكية و30% من إجمالي أرباح القطاع الخاص الأمريكي. وأكد هؤلاء الخبراء على أن انخفاض قيمة العقارات الأمريكية خلال العام الماضي فقط بنسبة 18%، حيث تهاوت أصولها من 23 إلى 19 تريليون دولار، ساهم بشكل ملحوظ في تفاقم الأزمات المالية الأمريكية المتتالية خلال الأعوام السبعة الماضية والتي على رأسها ارتفاع الديون الأمريكية بنسب غير مسبوقة وصلت إلى 7 تريليونات من الدولارات في عام 2008م.
وجاءت قناعة الخبراء في نهاية ندوة "هارفرد" بأن الاقتصاد الأمريكي يحتاج إلى أكثر من 700 مليار دولار لإنقاذ صحته العليلة من التدهور، وأن الحلول الجذرية يجب أن تبدأ فوراً بضرورة تطبيق مبدأ التكافؤ في الفرص بين حقوق المواطن وواجبات الدولة، وذلك من خلال إعادة هيكلة الإقراض الشخصي وتنظيم الرهن العقاري وتقليص الديون الأمريكية وتوفير المزيد من السيولة.
لقد حان الوقت لكي تقتنع الدول الرأسمالية بأن أحكام العولمة لا تخولها استباحة مبادئ الحرية الاقتصادية على حساب العدالة في تحرير الأسواق التجارية، ولا تمنحها حق استنزاف خيرات العالم لانتشال أنقاض سياساتها المالية. كان من واجب أمريكا أن تقوم بتنظيم أحكام الرهن العقاري وتقنين القروض التمويلية وتقليص ديونها قبل أن تستشري الفوضى في أسواقها المالية، وكان من واجبات أوروبا أن تتوقف عن تقديم الدعم المادي لصادراتها الزراعية حتى لا تحرم الدول الفقيرة من منافستها العادلة وزيادة إنتاجها الزراعي، وكان من واجب الدول المتقدمة أن تسعى جادة لفتح المزيد من أسواقها أمام تجارة الدول النامية بدلاً من عرقلة انسيابها عبر الحدود بالعوائق الفنية والضرائب التمييزية حتى لا تتفاقم أسعار المواد الأساسية والغذائية العالمية. وكان من واجب أحكام العولمة أن تقف سداً منيعاً أمام تجاوزات الدول المتقدمة حتى لا نقف في الدول النامية والفقيرة حائرين أمام نزاهة أنصار العولمة.
لو التزمت الدول الغنية التي تشكل 20% من سكان الأرض بمبادئ التكافؤ في الفرص بين الحقوق والواجبات لما تجرأت على المجاهرة باستهلاك 85% من البتروكيماويات والألمونيوم، و80% من الطاقة والحديد والصلب والورق، و75% من أخشاب الغابات، و56% من اللحوم والأسمدة والأسمنت، و50% من الأسماك. ولو احترمت الدول المتقدمة قواعد التنمية المستدامة لما تجرأت على التمادي في إنتاج 96% من المواد المشعة القاتلة، و90% من الغازات الصناعية الضارة، و75% من منشطات الاحتباس الحراري. ولو أصلحت الدول الرأسمالية قوانينها العقارية وأنظمتها المالية وأوفت بقروضها التمويلية لما تجرأت الشعوب على تقريعها وإدانتها بالاستغاثة بالسياسات الاشتراكية التي تخلت عنها كافة الدول من أجل العولمة عنوة وقسراً. ولو نبذت الدول المتقدمة سياسات الاستنزاف الجائرة للموارد الطبيعية على حساب الدول النامية، لما أصبحت العولمة في يومنا هذا رافداً من روافد الانتفاع الاقتصادي لشعوب مختارة ومرضاً من أمراض العصر يفتك بمعطيات شعوب أخرى.
على المنظمات الدولية أن تعيد ثقة كافة شعوب الأرض بأحكام العولمة الاقتصادية عن طريق إلزام الدول المتقدمة بتطبيق تعهداتها الدولية وإعادة هيكلة أنظمتها المحلية والكف عن الاختباء وراء رتوش الديموقراطية والمطالبة بالحقوق الواهية حتى لا تهلك كما جنت (براقش) على نفسها ومن معها في زمن الجاهلية.