-الحلقة الثانية-
تعرضنا في حلقتنا السابقة لبعض المبادئ الاقتصادية من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي حيث ناقشنا بداية المشكلة الاقتصادية بين الندرة و الاختيار و قلنا بأنه من وجهة نظر اصحاب الاقتصاد الاسلامي فإن الاسلام لا يعترف بالندرة النسبية كما يتناولها علماء الاقتصاد و يرى بأن المشكلة مشكلة توظيف عناصر الانتاج و ليست مشكلة ندرة الموارد ، و ان الموارد المتاحة كافية و العلة هي في الاستخدام ، فيما تناولنا من خلال نظرية مالتوس السكانية مثالاً نوضح من خلاله ان التحليل الاقتصادي انما يكون دائماً آنياً وفق المعطيات و الشواهد القائمة ، لهذا نجد انه في المستوى البعيد علينا ان نعيد تقييم رؤيتنا و نظرياتنا آخذين بعين الاعتبار ما جد و طرأ ، و لهذا ايضاً في النظريات الاقتصادية نستخدم دائماً عبارة مع بقاء العوامل الأخرى على حالها فيما نقيس الاثر لعامل او اثنين في الوضع القائم ، إذن فإن القراءة التي قدمها اصحاب الاقتصاد الاسلامي في تناول المشكلة الاقتصادية لا تعدو كونها نظرة مقطعية للمشكلة ؛ بمعنى انه صحيح تماماً لو اغفل عامل الزمن و نظرنا للمشكلة مجردة سنجدها مشكلة استخدام او توظيف عناصر الانتاج ، لكننا اقتصادياً نقول ان هدف دراسة المشكلة الاقتصادية هو اختيار التوليفة الاقتصادية المناسبة لبلوغ التوظيف الامثل و الكامل لعناصر الانتاج المتاحة في المدى المنظور و بأساليب الانتاج المتاحة لبلوغ اقصى درجة من الاشباع ، و بطبيعة الحال وفق ما هو متاح لا يمكن القول اننا نستطيع بلوغ الاشباع الكامل ، ناهيك عن انه حتى في المدى البعيد يحول تطور و تغيير الحاجات كماً و نوعاً دون ان يكون بلوغ الاشباع الكامل هدفاً ممكناً ، تلك هي الجدلية الداخلية للمشكلة الاقتصادية التي تجعلنا دائماً قادرين من خلال تطوير اساليب و تقنيات الانتاج و التنقيب على اشباع الحاجات الآنية اشباعاً كاملاً و لكن في زمن لاحق ، في الوقت نفسه ما ان نبلغ تلك اللحظة الزمانية اللاحقة حتى تكون الحاجات و الرغبات قد تطورت و تنوعت و تجددت بحيث جعلتنا مرة اخرى في مواجهة نفس الاشكالية ، انه نوع من الجدل الخلاق الذي يدفع عجلة التطور قدماً واضعاً دوماً امامنا نفس الاسئلة التي تطرحها علينا المشكلة الاقتصادية : ماذا ننتج ؟ و لمن و متى و كيف؟ و ما هو نظام الانتاج و الملكية الانسب لتحقيق ذلك؟
الحقيقة ان القول بأن المشكلة الاقتصادية ليست نتيجة ندرة بل نتيجة سوء استخدام لا يغيير وجه المشكلة لأننا كما نرى بقينا في مواجهة نفس الاسئلة ، إذن لنذهب ابعد و ننظر موقف الاقتصاد الاسلامي من قضية الملكية.
ب - الملكية
في علم الاقتصاد يتم التمييز بين ملكية عناصر الانتاج و الملكية الشخصية ، و تعرف ملكية السيارة الخاصة او المنزل او الحديقة او الملابس الشخصية ..........الخ بأنها اشكال من الملكية الشخصية ، اما ما ينصرف إليه مقصد مصطلح ملكية في علم الاقتصاد باعتبارها احدى قضاياه التي يهتم بها فهي ملكية عناصر او وسائل الانتاج ، كالآلات و المصانع و المحال و كل ما من شأنه ان يحدث انتاجاً و يضيف قيمة و تمارس به و من خلاله عملية انتاج لسلع او خدمات على السواء.
الحقيقة ان قضية الملكية هذه من اهم قضايا علم الاقتصاد بل انها من القضايا التي تستخدم لتمييز بين النظم الاقتصادية ففيما ذهب النظام الشيوعي إلى إلغاء الملكية الفردية لعناصر الانتاج اباحتها الرأسمالية الكلاسيكية ، و اتخذت منها النظم الهجينة المعاصرة مواقف متباينة بحيث اخضعتها للتنظيم القانوني كمنع الاحتكار و جعلها مطرح للضريبة و تأميم بعض الملكيات ذات الطابع السيادي.........الخ
في هذا السياق يرى الاقتصاد الاسلامي ان الملكية الحقيقية لله فالمال كله لله و كل شيء موجود هو ملك لله ، و بأن ملكية الانسان هي ملكية رمزية باعتباره خليفة الله في الارض ، فللانسان الحق باستخدام كل ما هو موجود في الكون شريطة ان يكون الاستخدام في طاعة الله ، و يتم تحري ان يكون الاستخدام في طاعة الله بضمان خضوع هذا النشاط للشريعة الاسلامية.
نقرأ في سورة آل عمران الآية 189 : { ولله ملك السماوات والارض والله على كل شيء قدير } ؛ يرى الزمخشري في كشافه أن المال الذي في ايديك هو مال الله الذي اوجده اتاك إياه و اعطاك حق الانتفاع به ، جعلك خليفته في استخدامه ، إذن في الحقيقة هو ليس مالك ولكنك وكيل الله فيه (1) .
بالعودة للشريعة الاسلامية نجد ثلاثة انواع من الملكية هي الملكية الفردية و ملكية الدولة و الملكية العامة ، اما الملكية الحقيقية لكل شيء فهي لله ، خلال تاريخ المسلمين نجد انهم خبروا انواعاً من الملكية كالفردية و العامة و الخاصة و المشاركة تماماً مع خط التطور الطبيعي لاشكال الملكية ، و في الحقيقة وجدت هذه الاشكال من الملكية في اقتصاديات أخرى على حد سواء ، لكن ليست هذه القضية هنا ، بل القضية ان الاقتصاد الاسلامي و من وحي الدين يركز على استخدام الملكية لا الشكل او النوع في تحقيق خلافة الله في هذا الكون.
ما نملكه هو نتاج استخدام الملكية في المجتمع او العالم كله ، فالملكية فعل متجدد و نتاج لتوظيف سابق ، اما الملكية الحقيقية الخالدة فهي لله . بعض المسلمين الاشتراكيين – نشطت حركة تأليف تحمل هذه القراءات في الخمسينيات و الستينيات – استخدموا ذلك مدخلاً للقول انه لا يوجد اي تعارض بين المبادئ الاسلامية و الاشتراكية ، احد النصوص الرئيسة التي اعتمدوا عليها كان ما نسب للنبي محمد:(الناس شركاء في ثلاث الماء و الكلأ و النار) ، و كما بينا سابقاً فالله هو المالك الحقيقي و الناس خلفاء في استخدام ما بين ايديهم ، و الهدف النهائي لاي نظام اقتصادي هو تعظيم المنفعة الاجتماعية مع اعلى مستوى ممكن من التوزيع و العدل ، و على هذا الاساس فقد استنتج الاشتراكيون المسلمون ان الاشتراكية هي النظام الامثل لبلوغ العدل الاجتماعي و انها لا تتعارض مع روح الاسلام!
على اي حال فإن معظم الفقهاء المسلمين رفضوا هذه القراءات استناداً للتطبيقات التاريخية للشريعة الاسلامية و النصوص الدينية ، التي عنيت بتنظيم الارث و اتفاقيات الدين و التبادل ، فتنظيم عملية كتابة الدين كما نعلم وردت في اطول آيات القرآن ، كذلك نجد عناية كبيرة في تاريخ الفقه الاسلامي بمسألة حماية الملكية الخاصة لدرجة انهم اعتبروها من الأهداف الكلية للشريعة الاسلامية ، اضف لهذا و ذاك ان احداً في الاسلام لا يماك حق تحريم او منع شيء كان مباحاً ، إلا ان هذه الحقيقة الاخيرة على اي حال ليست مطلقة في ظل القاعدة المعروفة "الضرورات تبيح المحظورات" ، لذا اتفق اغلب الفقهاء على ان تأميم – او ما في حكم التأميم – بعض الملكيات الخاصة في ظروف معينة هو احد القرارات الصائبة اذا كانت ضرورة اجتماعية مع الالتزام بالتعويض المناسب للمالك.
بناء على هذا الموقف يرى اصحاب الاقتصاد الاسلامي ان موقف الاسلام من قضية الملكية يقع متوسطاً بين موقفي الرأسمالية الكلاسيكية بصيغة آدم سميث و الاشتراكية بصيغة كارل ماركس ؛ " الاسلام يختلف عن الاشتراكية و الرأسمالية و الشيوعية و النظريات و الرؤى الأخرى في منطلقاته المذهبية و الايديولوجية ، الاسلام رسالة سماوية بفهم خاص لهذا الكون"(2).
بناء على تقدم فإن معظم الباحثين في الاقتصاد الاسلامي في هذه المسألة يرون بأن الاسلام لا يتوافق لا مع نظرة الرأسمالية للملكية و لا مع نظرة الاشتراكية لها ، و ان نظرته لها نظرة مختلطة و ان تاريخ المسلمين عرف اشكال متباينة من الملكية منها العام و الخاص و ملكية الدولة كذلك.
اذن من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي هناك عدة اشكال من الملكية المقبولة اسلامياً كالملكية الفردية و العامة و ملكية الدولة بدلاً من الأخذ بشكل واحد من اشكال الملكية في النظام الاقتصادي ، عليه نستطيع القول ان النظام الاقتصادي الاسلامي المتصور هنا هو نظام مختلط وفق التصنيف الاكاديمي الاقتصادي كما هو الحال في معظم ان لم يكن كل النظم الموجودة اليوم في العالم مع تفاوتها في توزيع اشكال الملكية بين الخاص و العام . يرى محمد رضى طاهري ان من الخطأ القول ان النظام الاقتصادي الاسلامي هو نظام رأسمالي حتى و ان كان يسمح بملكية عناصر الانتاج للافراد لانه لا يرى ان الملكية الفردية الشكل الاساسي للملكية يتأسس عليها نظامه ، كما انه من الخطأ وصفه بالنظام الاشتراكي حتى و ان كان يقبل ببعض اشكال الملكية العامة و ملكية الدولة إلا ان هذا ايضاً لا يعتبر الشكل الاساسي للملكية فيه(3).
تنصرف هذه القضية إلى شكل الملكية ، إلا ان الأهم من وجهة نظر الاقتصاد الاسلامي و اصحابه هو مسألة استخدام الملكية ، التي يجب ان تتم باحترام الشريعة الاسلامية ، و أحد أهم القواعد التي تنظم و تقييد الملكية في الشريعة الاسلامية هي الزكاة ثالث الفرائض الاسلامية الخمس حسب التوزيع الفقهي ، انها فريضة دينية يدفعها من ملك نصابها من المال ، إذن هي ليست فقط على النقد بل على كل اشكال الاموال ، و يفترض ان المقدار تحتسبه هيئة مستقلة تختص بهذا الشأن و سنعرج إلى مناقشة هذا بتفصيل اكبر عند حديثنا عن الفهم الاسلامي لدورة رأس المال.
كما ان الاسلام حرم استخدام الملكيات في اي من اشكال البيع و الاتجار و الانتاج و النقل او اي تعامل يخص سلعة او خدمة محرمة بموجب شريعته كالمشروبات الكحولية ، كذلك حرم الاسلام الاحتكار ، لكننا لا نستطيع القول هنا انه الاحتكار بالمفهوم العلمي الاقتصادي للمصطلح ، الاحتكار المحرم في الاسلام هو جمع سلعة ما من الاسواق حتى تشح او تختفي و تصبح غير متوفرة بغية تمكن التاجر من بيعها بالسعر الذي يريد ، اقتصاديا هذا احد انواع الاحتكار و يسمى الاحتكار المطلق.
مفهوم الملكية الفردية المطلقة من المفاهيم الغريبة عن تاريخ المسلمين ، فاحد اغرب العلاقات في تاريخ الامبراطوريات المسلمة هو العلاقة بين السلطة و مالكي الثروة ، فقد استثمرت السلطة مفهوم ان الملكية لله لحفظ حق الوصاية على الملكيات لخلافاء النبي محمد. القادة كان لديهم القوة السياسية التي لا يمكن تفسيرها كنتيجة لملكية رأس المال الباحث عن السلطة ، بدلاً من ذلك كان لدينا كفاح القبائل للسيطرة على السلطة و الثروة معاً ، و هكذا لا نلاحظ في تاريخ الامبراطوريات المسلمة تطوراً جدلياً او صراعاً بين السلطة و مالكي رأس المال و لا نجد ايضاً تطوراً مستقلاً للملكيات المنتجة.
عبد الرحمن بن خلدون المعروف بأبو العلوم الاجتماعية و الذي عرف كتابه المقدمة كأول قراءة للتاريخ باعتباره حركة تطور جدلي (4) ، فهم حركة التاريخ باعتبارها دورة تطور قبلي تنتهي عندما تصبح القبيلة متمدنة و ثرية فتسقط على يد قبيلة جديدة اقوى منها لانها لم تعرف بعد الثروة و المدنية و لازالت على لحمتها و خشونتها و استعدادها القتالي من اجل طموحها للسلطة و الثروة فتزيح القبيلة القديمة من السدة و هكذا تنتقل إليها كل اشكال الملكية و الثروة كمفاتيح سيطرة و تعبير عن السيادة طبعاً ممثلة بزعيمها ، اخذت هذه الدورة ايضاً شكلها الفعال حتى في انتقال السلطة من خليفة إلى آخر من نفس القبيلة فتنتقل معه اشكال الملكية الفاعلة إليه و إلى المجموعة الموالية له حيث تبدأ القبيلة الحاكمة بالتفتت و الصراع فتكون استكانت للدعة و الثراء و فقدت وحدتها و ابتعدت عن طباع الخشونة و القتال وصارت مرفهة بالتالي تأتي عليها قبيلة جديدة اكثر لحمة و قوة و استعداد للقتال و السيطرة و هكذا دواليك ، و عندما كان المركز الامبراطوري للمسلمين يضعف دون ان يسقط لترامي اطراف الدولة كان الزعماء القبليين و الجهويين المحليين يسعون للانفصال او على الاقل يكتفى بتبعيتهم الاسمية للمركز.
هذا هو التطبيق التاريخي عند المسلمين او تاريخ التطبيق اذا اردنا النظر له باعتباره نظام عاماً يحرك المجتمع و يمثل اسلوب انتاجه و ملكيته لكن كما قلنا لا يعتد به كله كمصدر من مصادر ما صيغ تحت عنوان الاقتصاد اسلامي ، فكما اشرنا سابقاً حاول ارباب الاقتصاد الاسلامي اعادة صياغة او تكييف النظريات الاقتصادية و اخضاعها للشريعة الاسلامية ، و بكثير من الجهود و المآرب الذاتية تطويع انتقائي للحوادث و التطبيقات التاريخية ، لهذا نجد الاستشهادات التاريخية كثيرة في اعمالهم لكننا ايضاً نراها انتقائية و غير واعية عن قصد او بدون قصد لعموم المشهد التاريخي باعتباره تطبيقاً لما يستدلون به و عليه ، لكن الواضح انه يبدو تطبيقاً صحيحاً لديهم حصراً عندما يراد الاستشهاد به لخدمة رأي معين.
ما اجتمعوا على اخذه هنا هو ان نظرة الاسلام لقضية الملكية نظرة مختلطة تقبل عدة اشكال منها و استدلوا على هذا بعدة وقائع تاريخية ، و يبدو هذا متطابقاً مع طبيعة النظام الاقتصادي المختلط اليوم في موقفه من قضية الملكية.
ج - التنظيم الذاتي للسوق
احد اعمدة النظرية الرأسمالية الكلاسيكية هو التنظيم الذاتي للسوق ، و الذي يعني ان السوق اذا ما تركت حرة فإنها تعدل نفسها بنفسها تلقائياً عندما تواجه خللاً ، إذ يرى اباء النظام الرأسمالي و على رأسهم آدم سميث صاحب كتاب ثروة الامم ان الأصل في السوق هو التوازن التلقائي بين قوى العرض و الطلب و أن الكساد و التضخم هي مظاهر عابرة استثنائية و ليست القاعدة ، و ان السوق بشكل تلقائي عند حدوث كساد او تضخم يعيد تشكيل نفسه مستعيداً حالة التوازن طارداً التضخم او ممتصاً الكساد ، فعندما يحدث التضخم نتيجة ارتفاع الطلب عن العرض يقدم العديد من المنتجين الجدد بحثاً عن الربح الذي افرزه التضخم فيزيد العرض مما يؤدي مرة اخرى لاستقرار الاسعار و من ثم لهبوطها و حدوث التوازن من جديد و العكس عندما يحدث كساد إذ ان الكساد ناتج عن زيادة العرض على الطلب في هذه الحالة يضطر المنتجون لخفض الاسعار تدريجيا مما يؤدي لخروج منتجين من السوق و بالتالي لاخفاض العرض و امتصاص الفائض و توازن السوق من جديد. إذن في التنظير الكلاسيكي للرأسمالية الأصل في السوق الحر التوازن و يعتبر التضخم و الكساد مظاهر عابرة سرعان ما يعدل السوق نفسه ازاءها ليستعيد حالته الطبيعية و توازنه.
طبعاً بات هذا فرضاً متجاوزاً ، و نعلم في المستوى التطبيقي ان العالم مع ازمة الكساد العظيم (1926-1934) عرف كساداً انكماشياً متفاقماً بدون توقف و سقطت مسلمة التنظيم الذاتي للسوق و لم يكن بد من اعادة النظر في هذه المسلمة لانقاذ النظام السوقي ، و كانت النظرية العامة في التشغيل و الفائدة و النقود التي طرحها جون مينارد كنز بمثابة ثورة جذرية في هذا النظام إذ خلص عبر تحليله إلى ان الكساد من الممكن ان يكون حالة مستمرة و متفاقمة و لا تتمكن معه آلية السوق من تعديل نفسها و التخلص من هذه الظاهرة بل ان حالة التوازن التلقائي المفترضة هي حالة فرضية يستحيل بلوغها تماماً في نظام السوق و انه لا بد من تدخل الدولة عبر ادواتها المالية و النقدية المختلفة للتأثير في اتجاهات السوق و زيادة الطلب بغية الاقتراب من حالة التوازن المأمولة و وقف الكساد الانكماشي (5).
هذا عن النظام الرأسمالي و تطوره ، في الجانب الآخر تجاهل النظام الشيوعي آلية السوق و تقلباتها و ركز على التخطيط المركزي للقرارات المتعلقة بتوظيف عناصر الانتاج ، لكنه حتى و ان كان يضمن التوظيف الكامل لعناصر الانتاج فإنه لا يضمن التوظيف الامثل لها ؛ علينا ان ننتبه هنا إلى ان استخدامنا لكل العناصر الانتاجية التي بين ايدينا يعني استخدمها جميعاً لكنه لا يعني استخدمها على النحو الامثل و يمكن القول ان المثلية تعرف بأنها التوليفة الانتاجية التي تجعلنا نشتق افضل انتاج كماً و نوعاً و اشباعاً للحاجات بما هو متوفر بين ايدينا من عناصر الانتاج و فنونه ، شدما يلفت الانتباه الإلغاء السلبي لظاهرة الابتكار التي يدفع إليها السوق الحر وفق هذه الآلية الشيوعية ، و هذا احد عوامل الابداع و التطور المهمة جدا التي تدفع الانتاج و آلياته و تقنياته و اشكاله إلى التطور الدائم ، لقد فقد النظام الشيوعي باعدامه لآلية السوق هذه الميزة ، ان مما لا شك فيه ان نظام السوق الحر هو نظام قاس جداً في نتائجه إلا انه في نفس الوقت يحمل ميزات من الصعب تجاهل دورها و اهميتها في احداث النقلات النوعية و اذكاء روح الجدل الاقتصادي الاجتماعي و دفعه قدماً لهذا نجد اننا في مقابلة اشكالية هنا هي كيف يمكن الاستفادة من ميزات نظام السوق و الحؤول في ذات الوقت او على الاقل الحد من سلبياته؟
لا شك ان الاسلام اسس لتدخل السلطة في قضايا اقتصادية على رأسها توزيع الدخل و الثروة ، و ليس عصياً ان نقف مع الزكاة لنتأمل محاولة للحد من التناقض الذي يفرزه سوء توزيع الدخل و الثروة و هنا تمنح لا بل تأمر النبي بوضوح بالتدخل المباشر لاخذها من الغني إلى الفقير نقرأ في سورة التوبة الآية 190: { خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم والله سميع عليم }.
بالنسبة لحرية السوق لم يحرم الاسلام السوق الحر بل في الواقع شجع التجارة بالذات ، و قد أولت النصوص الاسلامية التجارة اهتماماً واضحاً خصوصاً ان البيئة التي جاءت فيها الرسالة الاسلامية بيئة تجارية او حتى يمكن اعتبار مكة مسقط رأس النبي محمد سوقاً في الاساس اضافة لكونها مكاناً مقدساً عند العرب ، في نفس الوقت حرم الاسلام بعض الانشطة التي تنعكس سلباً على المجتمع مثل الاحتكار المطلق ، فكانت احد اهم وظائف السلطة في تاريخ المسلمين الرقابة على الاسواق و التي اسست لحق السيطرة عليها و تنظيمها لضمان احترام قوانين الشريعة و السياسة العامة للدولة ، و ليس عسيراً ان نستجلي جذوراً تؤسس للنظرة الاجتماعية للسوق ان جاز التعبير اي اتاحة الرقابة على الاسواق و انشطتها و توجيهها و ضمان سلامتها لا بل واعتبار هذا ضرورة فالاسلام في مصادره الرئيسة زودنا بنصوص تحرِّم عدة نشاطات اقتصادية تشكل عائقاً في المنظار الاسلامي دون تحقيق الاهداف و المثل و القيم التي اراد الاسلام تثبيتها من امثلة هذه الانشطة الربا و الاحتكار المطلق ، كما زرع الاسلام بذور النظام الرقابي من خلال تقديمه المصلحة العامة دائماً في تناوله للجماعة كمفهوم اعتبر معه تحقيق مصلحتها مقدماً على المصلحة الفردية ، فملامح نظامه كما يتضح هنا تتأسس على التوازن بين الحاجات الروحية و المادية للانسان من ناحية و على المجتمع باعتباره البيئة الحاضنة للفرد و التي لا يجوز ان تتقدم مصلحة اي فرد على مصلحتها من ناحية اخرى ، بالتالي فإن أولياء الامور في المجتمع المسلم يقع على عاتقهم مهمة مراقبة الاسواق بالطريقة التي تضمن من ناحية تطبيق الشريعة و من ناحية ثانية ضمان تحقيقها لمصلحة المجتمع
نقف هنا لنبدأ في الحلقة القادمة مع الفهم الاسلامي للدورة المالية
يتبع
(1) الزمخشري ، 1998، الكشاف ، بيروت : دار الفكر ص 504
(2) البلاغ ، التوزيع الاقتصادي في الاسلام
(3) طاهري ، محمد رضى ، 2004 ، المبادئ الاساسية للاقتصاد الاسلامي و اثرها على قواعد المحاسبة ، Islamic-finance.net
(4) ابن خلدون ، عبد الرحمن ، (2005) ، مقدمة العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في اخبار العرب و العجم و البربر و من والاهم من ذوي السلطان الأكبر، المغرب: دار العلوم. الطبعة الاولى ، ص 91
(5) Keynes, John Maynard, (2004), the general theory of employment, interest and money, (London: Macmillan). King, john E. p.3