وجه الرشيد إلى ذات الخال ليلة وقد مضى شطر الليل، فحضرت، فأخرج إلي جارية كأنها المهاة، فأجلسها في حجره، ثم قال: غنني، فغنته:
جئن من الروم وقـالـيقـلا
يرفلن في المرط ولين الملا
مقرطقات بصنوف الحلـى
يا حبذا البيض وتلك الحلـى

فاستحسنه وشرب عليه، ثم استؤذن للفضل بن الربيع، فأذن له، فلما دخل قال: ما وراءك في هذا الوقت? قال: كل خير يا أمير المؤمنين، ولكن حرى الساعة لي سبب لم يجز لي كتمانه أمير المؤمنين. قال: وما ذاك? قال: أخرج إلي في هذا الوقت ثلاث جوار لي: مكية، ومدينية، وعراقية. فقبضت المدينية على ذكري، فلما أنعظت وثبت المكية فقعدت عليه، فقالت لها المدينية: ما هذا التعدي? ألم تعلمي أن مالكاً حدثنا عن الزهري عن عبد الله بن ظالم، عن سعيد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" فقالت الأخرى: أو لم تعلمي أن سفيان حدثنا، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصيد لمن صاده لا لمن أثاره". فدفعتهما العراقية عنه، ووثبت عليه، وقالت: هدا لي، وفي يدي حتى تصطلحا. فضحك الرشيد، وأمره لحملهن إليه، ففعل، وحظين عنده، وفيهن يقول:
ملك الثلاث الآنسات عناني
وحللن من قلبي بكل مكان

(المصدر: الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني، نسخة الوراق الاليكترونية، صفحة 1860-1861.).

الدعارة أقدم مهنة في التاريخ، وهي متفشية في جميع المجتمعات، فإن لم تطفو على السطح كما هو الحال في الغرب اليوم فإنها موجودة في الخفية كما هو الحال في مجتمعاتنا.
بل أن تقنينها وتنظيمها مهم جداً ما دامت شر لا بد منه. فمنعها وتحريمها لا يجدي معها فتيلاً، فهي موجودة وسوف تبقى موجودة.
الدعارة ليست حجة على الحرية، وهي حالة شاذة في جميع المجتمعات، ولو كانت واضحة ظاهرة مقننة في الغرب فإنها موجودة في بلادنا بنفس الدرجة ولكن "من تحت لتحت". بل أن "دولة الخلافة" قننتها بشكل آخر بركونها إلى السبي وملك اليمين والنخاسة وما إلى ذلك والمثال أعلاه يوضح ما نقول: فهو يجمع خليفة المسلمين ووزيره الأول وثلاث جوار يلاعبهن هذا الأخير ويلاعبنه، بل يتبارين على الظفر بمتاعه ويستشهدن بأحاديث شريفة في هذا المضمار.
يضحك الرشيد لكلام الفضل بن الربيع ويطلب هؤلاء "النسوة الداعرات" ويذوب وجداً بهن بعد ذلك.
الدعارة إذاً ليست انتاجاً للحرية وليست حجة عليها، ووجودها الواضح في الغرب يأتي من أنها مكشوفة بينما مغطاة عندنا بألف ثوب وثوب.

الآن، هل الدعارة شر كلها؟ هل هي ذلك البلاء المستطير؟
ماذا يفعل رجل مرضت زوجته ولا يريد أن يتزوج عليها وهو في عز الشباب. هل يكتفي بجلد عميرة حتى يرث الله الأرض وما عليها ؟

ماذا يفعل شاب أعزب لا يستطيع الزواج لفقر أو إملاق أو مشاكل متعددة ؟

الدعارة موجودة دائماً في جميع المجتمعات لأنها تشكل "حاجة اجتماعية".

ولكن ما هي الدعارة حقاً؟ أليست هي "جماع بأجر"؟ أليست هي لذة "مدفوعة الثمن"؟ أليست هي من طرف الداعرة "عملاً" تؤديه وتقبض مقابله مالاً ونقوداً؟ هل تتميز الدعارة بشيء عن المهن الأخرى ؟
نعم، هناك تميز في الدرجة وليس في النوع. فالدعارة هي "عمل" مثل الأعمال الأخرى. هي بائع ومشتري. ولكنها تتميز "بحميمية" العلاقة بين الطرفين. هذه "الحميمية" التي تميز تداخل الأجساد ببعضها ليست موجودة في "المهن" الأخرى. ولكن هل يشكل هذا مشكلة حقاً؟ أليس لكل مهنة بعض الخصائص التي لا نجدها في المهن الأخرى ؟ فلماذا يتم "اتهام الدعارة" بهذا الشكل ؟
الدعارة مدانة لأنها محرمة أخلاقياً ودينياً. هذا هو الجواب الذي قد نصل إليه لو فكرنا.

ماذا يعني كل هذا ؟
هذا يعني بأن الدعارة في الاسلام ليست بأفضل منها في الغرب، فهي موجودة في جميع المجتمعات لأنها "حاجة اجتماعية"، وليس لأحد أن يعير احداً بها لأنها ببساطة سمة اجتماعية ثابتة.
وهذا يعني بأن الدعارة في نفسها ليست محض شر كامل، بل وجودها يحل مشاكل كثيرة للعديد من الناس.
وهذا يعني بأننا لا نستطيع إدانة الدعارة من خلال طبيعتها، ولكن علينا ان نهرع للأخلاق والدين والعادات والتقاليد كي ندينها. أي أن من يدين الدعارة هي عوامل خارجية غريبة عنها وأفكار مقولبة لا شأن لها بأي تحليل دقيق سوى "هذا حرام وهذا حلال" و"هكذا قالوا لنا".

أخيراً، هل من الأفضل تقنين الدعارة كما نرى ذلك في الغرب أم أن نحرمها كما هو شأن المجتمعات المتدينة ومشاريع الراجعين إلى الخلف؟
الغرب نظر إلى الدعارة كأحد "الثوابت الاجتماعية" ثم قننها بحصرها في أماكن لها. هناك في كل مدينة شارع أو أكثر للعاهرات. وهناك مواخير لبائعات الهوى معروفة مشهورة. وهناك قوانين تمنع هذه التجارة عن الصغار والأحداث. وهناك مراقبة بوليسية صارمة تجاه من يمارس هذه المهنة. وهناك الكثير الكثير من القوانين التي تحاول ضبط هذه "التجارة" حتى في التليفيزيون والانترنت والسينما وما شاكل.
فهل أخطأ الغرب في هذا ؟ وهل كان عليه أن يحرمها مثلما نفعل نحن علانية كي نمارسها في الخفاء ؟