من زلزال 11 سبتمبر إلى اغتيال الحريري.. للمأساة أكثر من وجه..!
هاشم صالح

حركة التاريخ تتسارع ايقاعا في المشرق العربي. فبعد الاغتيال الصاعق والمجرم للشيخ رفيق الحريري، نلاحظ ان المواقع تنفرز أكثر فأكثر على كل الاصعدة والمستويات من لبنانية وعربية ودولية. ولكن الفرز الاساسي يظل هو ذلك الذي أراده المحافظون الجدد وخططوا له منذ سنوات طويلة. ثم جاءت ضربة (11) سبتمبر لكي تعطيهم الفرصة السانحة لتنفيذ مخططهم. على أي شيء يرتكز هذا الفرز، على القول بأنه لا يمكن حل الصراع العربي ـ الاسرائيلي الا بعد تغيير موازين القوى في المنطقة واعادة تركيبة خريطتها السياسية والثقافية والنفسية. فالمنطقة من وجهة نظر المحافظين الجدد مقسومة الى قسمين: قسم مؤيد لوجود اسرائيل ويعترف بشرعيتها الكاملة، وقسم معارض لذلك تاريخيا. والقسم الاول هو الذي ينبغي ان ينتصر ويتغلب على ما عداه. ولكنه لن يستطيع ان ينتصر بمفرده أو بقواه الذاتية لأنه صغير العدد ولذلك ينبغي دعمه من الخارج وتغيير موازين القوى على أرض الواقع لكي تصبح في مصلحته. وهذا هو دور السياسة الخارجية الاميركية.
لهذا السبب كان المحافظون الجدد كارهين لسياسة بلادهم في عهد بوش الأب وكلينتون. وقد قدموا مذكرة لهذا الاخير في أواخر التسعينات من أجل اسقاط النظام العراقي من دون ان يلقوا أذنا صاغية. ولولا حصول ضربة (11) سبتمبر لربما بقيت كل مشاريعهم ومخططاتهم مدفونة في أدراج مكاتبهم.
وحتى الآن لا يمكن القول بأنهم فشلوا في مخططهم أو تراجعوا عنه. على العكس انهم يغذون السير فيه ويواصلونه مرحلة بعد مرحلة. وعندما مرت السيدة «رايس» على باريس وألقت محاضرة عصماء أمام النخبة السياسية والثقافية الفرنسية في معهد العلوم السياسية، قالت بأن هدف السياسة الاميركية هو تغيير العالم لا أكثر ولا أقل! وهذا الكلام أدهش الرئيس الفرنسي الاسبق فاليري جيسكار ديستان وأخافه الى حد ما. فعقلاء أوروبا يخشون من العقلية المغامرة لصقور واشنطن وان كانوا قد ابتدأوا يألفونها بل وينضمون اليها أكثر فأكثر بعد ان أثبتت فعاليتها في أفغانستان والعراق. وعندما يلتقي بوش بشيراك في بروكسيل وبقية قادة اوروبا هذا اليوم فإننا سنلاحظ ان الخلافات بين الطرفين ليست على الاهداف بقدر ما هي على المنهجية المتبعة لتحقيقها وربما حصل توزيع للأدوار. فلأميركا العصا الغليظة، ولأوروبا السياسة والنعومة والديبلوماسية. وعن طريق استخدام العصا والجزرة يمكن تطويع ايران وسوريا وحزب الله وحماس وكل أولئك الذين «لم يفهموا» حركة التاريخ بعد. ولعل استشهاد الحريري ناتج عن مؤامرة دولية كبرى هدفها تسريع المخطط في المنطقة عن طريق ضرب الاطراف اللبنانية والعربية بعضها بالبعض الآخر.
ذلك ان مخطط المحافظين الجدد واضح. وهو يتمثل في الكلمات البسيطة التالية: كل من يقف في وجه السلام الفلسطيني ـ الاسرائيلي ويستمر على عقليته القديمة سوف نحذفه من المنطقة.

:nocomment:
فاستمرارية هذا الصراع اصبحت عالة على أميركا وتعرقل حربها الاستراتيجية الطويلة الامد ضد الحركات الاصولية المتطرفة التي تواجهها في العراق وغير العراق. وبالتالي فينبغي إطفاؤه بأي شكل وطوي الصفحة نهائيا من أجل التفرغ للمعركة الأساسية.
وأنا إذ أقول هذا الكلام لا أتخذ موقفا مؤيدا ولا معارضا، وانما أحاول ان اصف ما يجري وان أرصد حركة التاريخ وفي أي اتجاه سوف تسير فالأمور لا تتوقف على عواطفنا الذاتية، وانما على عوامل موضوعية موجودة في أعماق الواقع. وهذه العوامل ترجح نجاح المخطط الاميركي لعدة أسباب. أولها ان الوضع القائم في المنطقة لا يمكن ان يستمر الى الأبد اي وضع اللاحرب واللاسلم. وثانيها ان الآيديولوجيا العربية القديمة فقدت مصداقيتها الى حد كبير. وثالثها ان الغرب الاوروبي الاميركي هو الذي يسيطر على مقاليد العالم حاليا. ولا توجد اي كتلة أخرى يمكن ان تواجهه في المدى المنظور لكي يتكئ عليها العرب. ربما يحصل ذلك بعد عشرين أو ثلاثين سنة عندما تصبح الصين قوة عظمى بالفعل. ولكن ليس قبل ذلك. ورابعها هو ان الشعوب تعبت وملت من هذا الصراع الدامي الذي استهلك وطحن عدة أجيال متلاحقة. وبالتالي فقد آن الأوان لتجريب شيء آخر أو منهجية أخرى في العمل التاريخي. والدليل على ذلك هو ان المعارضة اللبنانية ابتدأت ترفع رأسها وتتجرأ على اتخاذ المواقف السلمية على الرغم من اتهام الآخرين لها بالخيانة والعمالة لاميركا واسرائيل وفرنسا. وهذا دليل على ان الأمور «استوت» والطبخة نضجت والصبر نفد وساعة الحسم اقتربت.
ولكن اذا كانت المعركة محسومة عسكريا لصالح الغرب الاوروبي ـ الاميركي ـ الاسرائيلي، الا انها ليست محسومة نفسيا. وهذا ما لا يفهمه المحافظون الجدد أو لا يقدرونه حق قدره وربما تكسرت رؤوسهم على صخرته. فهم لا يستطيعون إجبار العرب على قبول اسرائيل بين عشية وضحاها اذا كانوا قد تربوا على كرهها على مدار خمسين سنة متواصلة! هذا اغتيال نفسي واغتصاب روحي لا يقل خطورة عن اغتصاب الارض. وبالتالي فعلى اسرائيل والغرب كله من ورائها ان يدفعوا ثمن السلام مع الجماهير العربية: أي ثمن التعايش التاريخي جنبا الى جنب وطوي صفحة الماضي. وهذا الثمن واضح وضوح الشمس: الاعتراف أولا بحجم الجريمة التي ارتكبت في حق شعب فلسطين مثلما تعترف أوروبا الآن بحجم الجريمة التي ارتكبتها في حق الشعب اليهودي اثناء المرحلة النازية. وثانيا تأسيس دولة فلسطين في أسرع وقت ممكن، اي في ظل رئاسة محمود عباس الحالية. فالرجل أثبت انه قائد حقيقي ويفهم حركة التاريخ جيدا ويريد اختصار آلام شعبه وفتح ثغرة ولو ضيقة في جدار التاريخ المسدود. وقد صرح أخيرا بأنه قد آن الأوان للانتقال من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر. ولا اعتقد بأن هناك شعارا أفضل من هذا الشعار للمرحلة المقبلة بشرط ان يلتزم الغرب بوعوده فيضغط على اسرائيل للقبول بالتسوية التاريخية مع العرب. وهي تسوية ينبغي ان تشمل ايضا الانسحاب من الجولان المحتل واعادته الى الوطن الأم: سوريا.أكثر ما نخشاه هو ان يركب المحافظون الجدد رأسهم بعد ان أسكرتهم نشوة النصر ويحاولوا اذلال العرب أكثر مما ينبغي. وهنا تتجلى أهمية الموقف الاوروبي. فقادة اوروبا الذين يجتمعون ببوش حاليا من أجل تقرير مصير المنطقة ينبغي ان يلحوا عليه [SIZE=6]في عدم الدوس على كرامة العرب والمسلمين ومعاقبتهم جميعا بجريرة (11) سبتمبر، فهو هنا يرتكب خطيئة لا تغتفر اذا ما فعل ذلك. فالعرب أمة عريقة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. واذا كان حاضرهم رديئا متفككا فإن الامور لن تدوم هكذا الى الأبد. والمستقبل لهم طال الزمن أم قصر. وعندما يكتشفون الطريق الصحيح لدخول التاريخ وتجاوز رواسب الماضي وعقده فإنه سيكون لكل حادث حديث.
وبالتالي فلا ينبغي على اليمين المتطرف الاميركي والاسرائيلي ان يستغل ضعفهم وهلعهم أكثر مما ينبغي. فإسرائيل موجودة في المنطقة العربية واميركا لن تستطيع حمايتها الى الأبد. وأكبر حماية لها هي تلك التي ستجيء من جيرانها وفي مقدمتهم الفلسطينيون أنفسهم. فالضحية هي التي تقدم المشروعية للجلاد وليس العكس. ووراء الفلسطينيين بحر من العرب، ووراء العرب بحر من المسلمين، وهؤلاء سوف يدخلون التاريخ يوما ما، وسوف يذوقون طعم الحرية ويحققون أنفسهم كذوات حرة على هذه الأرض. لكن ذلك لن يحصل الا بعد وضع حد لهذا الصراع المزمن والانتقال من مرحلة الجهاد الاصغر الى مرحلة الجهاد الاكبر كما قال الرئيس محمود عباس. والجهاد الاكبر يعني تحقيق التنمية الزراعية والاقتصادية والصناعية والتعليمية لمعظم أفراد الشعب، ان لم يكن لهم كلهم. كما ويعني تفكيك العصبيات الضيقة من عرقية وطائفية ومذهبية من أجل بناء عصبية أوسع للوطن أو للدولة. [SIZE=5]وهي عصبيات تنفجر الآن في وجوهنا كالقنابل الموقوتة وتهدد الوحدة الداخلية لمعظم الدول العربية، وان بدرجات متفاوتة، وكنا قد أجلنا هذه المواجهة طيلة السنوات الماضية بحجة الجهاد الاصغر ومواجهة العدو الخارجي. ولكننا ما عدنا بقادرين على تأجيلها بعد اليوم لأنها تعصف بالمجتمعات العربية وتوشك على اشعال الحروب الاهلية والفتن الداخلية. ولذلك تبدو الآيديولوجيا العربية شائخة وهرمة الآن. فهي لم تتجرأ أبداً في الماضي على الدخول في التفاصيل وتوليد فكر عقلاني ذي نزعة انسانية، فكر يحترم الانسان كانسان ويعتبره حجر الاساس في أي بناء مقبل. كل التيارات الآيديولوجية التي سيطرت علينا في المرحلة الماضية كانت تهمل هذه القضايا أو تقفز عليها، ولذلك حصل طلاق بينها وبين الواقع. وانصرف عنها الناس. ولذلك لم تعد فاعلة فيه. فعادت العصبيات الضيقة لكي تحتل الساحة وتشعل نيران الاحقاد والانقسامات القديمة. وبالتالي فالجهاد الأكبر لا يعني فقط تحقيق التنمية ومحاربة الفقر وانما يعني ايضا الانتصار على الذات عن طريق توليد فكر آخر لما ير النور بعد.